"منتدى أصيلة".. والأمل بعد رحيل الراعى

تمثل مؤسسة "منتدى أصيلة" نموذجا كبيرا للعمل الأهلي، في مجال الثقافة والإبداع وما يتصل بهما ويتصلان به. تأسست هذه المؤسسة تحت إشراف محمد بن عيسى، المثقف الكبير والسياسي المغربي، عام 1997، وقامت على سعي لتعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات، واقترنت بأنشطة متنوعة، فنية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، تقام في "أصيلة" المدينة المغربية الصغيرة الواقعة على شاطئ المحيط الأطلسي. من هذه الأنشطة تنظيم موسم أصيلة الثقافي الدولي، والإشراف على جامعة المعتمد بن عباد الصيفية، وهي برنامج بحثي، يضم ندوات ولقاءات بين سياسيين وخبراء ومفكرين وباحثين من أنحاء العالم، وإعداد مدارس نموذجية لتلبية احتياجات طلبة المدينة، وتأسيس دار للتضامن لإيواء العجزة وكبار السن، وإنجاز مساكن مخصصة لإيواء سكان دور الصفيح.. وغيرها من المشروعات.
في نطاق الثقافة والإبداع قام "منتدى أصيلة" بعقد مهرجان سنوي له تاريخ أسبق من تاريخ المنتدى. وقد اقترن هذا المهرجان بجذب سياحي كبير، ويشمل فعاليات متنوعة ومتعددة في الأدب والموسيقي والفنون التشكيلية، ويستمر طوال أسبوعين خلال شهر أغسطس من كل عام، خلاله تتحول المدينة إلى فضاء إبداعي مفتوح.. كذلك قام المنتدى بتدشين ثلاث جوائز مهمة: جائزة في الرواية العربية، وجائزة في الشعر العربي، وجائزة في الشعر الأفريقي.
استمر المنتدى وتنامى برعاية محمد بن عيسى الذي درس بالقاهرة وبالولايات المتحدة، وشغل مناصب مهمة كثيرة منها وزارة الخارجية المغربية، ووزارة الثقافة، والعمل مبعوثا إلى الأمم المتحدة، وسفيرا للمغرب في الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان نائبا في البرلمان المغربي، ورئيسا لبلدية مدينة أصيلة.. وأتاح له هذا كله خبرات وتجارب وعلاقات أفادته في تشييد وتنمية مشروعه الثقافي والإبداعي المهم بمدينة أصيلة.. وقد سعدت بلقائه مرتين خلال مشاركتين لي في المنتدى، مرة عام 2018 خلال مشاركة في لجنة تحكيم جائزة الرواية، ومرة عام 2022 خلال مشاركة في مؤتمر عقده المنتدى حول «الشعرية العربية وشعريات عالم الجنوب: أفريقيا وأميركا اللاتينية»، وفي الجلسة التي أدارها الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، قدمت ورقة حول "حركة الزنوجة في الأدب الأفريقي: مسار الصعود.. والمآل الأخير".. وفي المرتين، خارج نشاط التحكيم وخارج جلسات المؤتمر، لمست ثقافة الأستاذ محمد بن عيسى الواسعة، ومحبته الغامرة لمصر، وتقديره لدورها الثقافي والإبداعي، وحبّه وتقديره لشعب مصر الذي عرفه عن قرب. وقد حصل المنتدى وراعيه على جوائز مرموقة، من بينها جائزة أغا خان للهندسة المعمارية لمشروع التنمية الحضرية لمدينة أصيلة، وميدالية "بيرو" البلدية، وجائزة الشيخ زايد للكتاب كأفضل شخصية ثقافية، ودرع الألكسو (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)..
قبل أيام، رحل الأستاذ محمد بن عيسى عن عالمنا.. وذهب بي خبر رحيله إلى ذكرياتي مع المنتدى ومعه في أصيلة خلال الزيارتين.. واستعدت كيف قمنا، مع النشاط الثقافي، بزيارة أماكن عديدة بمدينة أصيلة، كان من بينها حدائق جميلة سميت بأسماء مبدعين، منهم محمود درويش وبلند الحيدري والطيب صالح، ومن بينها أيضا بعض المؤسسات الاجتماعية التي أشرف عليها الأستاذ محمد بن عيسى، وفي كل مكان كان الناس يتعاملون معه ببساطة وأريحية وكأنه واحد من أقاربهم المقربين.. كما قادني خبر رحيله إلى التساؤل حول مصير المنتدى بعد رحيل راعيه الكبير، ومدى قدرة هذا المنتدى على أن يواصل رسالته الثقافية والحضارية والاجتماعية بنفس النشاط والحيوية ومعدل الإنجاز.. ولكن مع هذا التساؤل ظل الأمل يراودني؛ لأن مؤسسة المنتدى، كما شهدت، تضم كثيرين وكثيرات من أصحاب وصاحبات الكفاءات.. كذلك قادني خبر الرحيل إلى أمل آخر يتمثل في مدى إمكان الإفادة من تجربة هذا المنتدى الناجح، الذي يؤثر تأثيرا كبيرا في مدينة بأكملها، في التخطيط لمشروعات مشابهة يمكن أن تقام ببعض المدن في البلدان العربية.. والحقيقة أن منتدى أصيلة قد بلور درسا كبيرا في ربط الثقافة بالمجتمع الواسع، وهذا الدرس متاح أمام كل من يسعى في هذا الاتجاه.
Trending Plus