أحاسيس على الورق

أخيرًا قرأت رواية "مذكرات محكوم عليه بالإعدام"، للكاتب العالمي "فيكتور هيجو"، والتي ناقش فيها فكرة عُقوبة الإعدام، حيث إنه من أشد المُعارضين لها، وقد عرض حُجته ووجهة نظره في مقدمة الرواية، والحقيقة إنني لم أفكر أن أناقش في هذا المقال تأييدي أو مُعارضتي لهذه العقوبة، لأنها بالقطع تخضع لوجهات النظر المتباينة، والتي لكل منها حُججه القاطعة، ولكن ما استرعى انتباهي هو نهج الكاتب في الرواية، حيث إنه اعتمد على فكرة طرح مشاعر وأحاسيس الشخص المحكوم عليه بالإعدام، دون أن يسرد تفاصيل جريمته ولا دوافعه، ولا الظروف التي أودت به إلى ارتكاب جناية القتل التي وصلت به إلى مصير الموت المحتوم، وهذا في حد ذاته يعد شجاعة فى السرد الروائى، فالكاتب آثر أن يستثير مشاعر الشفقة والعطف لدى القارئ من خلال ما يعتمل بداخل الإنسان الذي يتنظر موته ويعد الأيام والساعات لحين تنفيذ الحكم، فغالبًا ما نُشاهد في الأعمال الدرامية التي تعتمد على مناقشة إحدى قضايا القتل التي تنتهي بالجاني إلى حبل المشنقة، مشاعر الندم في حالة إقرار الجاني بارتكاب الجريمة، أو الحسرة في حالة أن يكون مظلوم ولم يرتكب هذه الجريمة، وتبدأ مشاعرنا تتحرك تجاهه من خلال هذه الدوائر الضيقة المُغلقة، والتي تدور وجودًا وعدمًا في الجريمة ودوافعها ومدى ارتكابها من عدمه، ولكن في هذه الرواية جذبنا الكاتب نحو حالة الشخص المحكوم عليه بالإعدام، وما يختلج بداخله من مشاعر مُتباينة لا صلة لها على الإطلاق بالجريمة، فهو يُقر في قرارة نفسه بارتكابه لها، دون أن يسرد أية تفصيلات عنها بشأن المجني عليه وأسباب ودوافع ووقت ومكان ارتكاب الجريمة، فلقد اكتفى بعبارة من بضع كلمات تُوحي بأن الجاني ارتكب الجريمة بالفعل، ولكن الرواية بأكملها تدور حول مشاعره وخواطره وأفكاره وأحاسيسه التي تتباين في كل لحظة عن غيرها.
وفي الحقيقة، هذا النوع من الأدب والذي لم يتطرق إليه الكثيرون أوحى لي بفكرة خاصة جدَا، وهي أننا على أرض الواقع كثيرًا ما نحتاج إلى شرح مشاعرنا التي تختلج بداخلنا دون أن نتطرق إلى التفاصيل الدقيقة، وكأننا نُريد أن نتجرد من الماديات بكافة أشكالها، لنلبس ثوب الروحانية بكل معانيها، وفي تلك اللحظة يكون جل أملنا مُنصبًا على مُقابلة مَنْ يسمعنا بقلبه فقط دون أن يجعل لحسابات العقل والمنطق أي حيز على الإطلاق، ولكن نادرًا ما نلتقي بمَنْ لديه الاستعداد للاستماع لحفنة من المشاعر المُتضاربة والمُتخبطة دون أن يتطرق بفضوله إلى طرح الأسئلة والحوادث والأحداث والتفاصيل، فالشغف دائمًا يتجه نحو الماديات، ولا ينظر ولو بطرف عينيه إلى الأحاسيس، فبمجرد أن تسرد الأحداث تغلق الأذن عن الاستماع إلى ما يجوب بداخل النفس، لذا ينتهي الحال بالإنسان إلى الاكتفاء بكتابة خواطره على الورق مثل بطل الرواية الذي كان يخط أحاسيسه على هيئة مُذكرات، ولم يُفصح بها إلى أحد المسجونين ولا حتى السجان.
Trending Plus