سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 15 أبريل 1800.. الفرنسيون يحرقون بولاق وأحياء فى القاهرة ويدفنون عائلات بأكملها تحت أنقاض البيوت ويفرضون غرامات على المحال والمتاجر

فشلت المفاوضات بين القائد الفرنسى كليبر وبين العلماء لتهدئة الأوضاع بوقف «ثورة القاهرة الثانية»، التى بدأت من يوم 20 مارس عام 1800، وواصلت شعلتها حتى يوم 21 أبريل، ضد الاحتلال الفرنسى الذى وصل فى حملة بقيادة نابليون بونابرت إلى مشارف الإسكندرية يوم 30 يونيو 1798، ورفض الثوار إنذار كليبر بالاستسلام، الذى وجهه فى يوم 14 أبريل 1800، فأمر بالهجوم على حى بولاق فى اليوم التالى، 15 أبريل، مثل هذا اليوم، 1800، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
يذكر «الرافعى»: «فى يوم 15 أبريل 1800 بدأ الجنود بالهجوم على حى بولاق قبل شروق الشمس بقيادة الجنرال بليار، وأخذوا يضربونه بالمدافع، وكانت مداخل الحى محصنة، والثوار ممتنعون خلف المتاريس وفى البيوت، فأجابوا على ضرب المدافع بإطلاق النار من المتاريس والبيوت المحصنة، ولكن نار المدفعية الفرنسية حطمت المتاريس القائمة على مدخل الحى، فثغرت فيه ثغرة كبيرة اندفق منها الجنود إلى شوارع بولاق، وأضرموا النار فى البيوت القائمة بها، فاشتعلت فيها واتسع مداها، وامتدت إلى مبانى الحى من مخازن ووكالات ومحال التجارة، فالتهمتها وما كان فيها من المتاجر العظيمة، ودمرت الحى الكبير الذى يعد ميناء للقاهرة ومستودعا لمتاجرها، وهدمت الدور على سكانها، فبادت كثيرا من العائلات تحت الأنقاض أو فى لهب النار».
كان الحدث مأساة مروعة ومجزرة حقيقية يصفها «الجبرتى» قائلا: «هجموا على بولاق من ناحية البحر «النيل» ومن ناحية بوابة أبى العلاء، وقاتل أهل بولاق جهدهم ورموا بأنفسهم فى النيران حتى غلب الفرنسيون عليهم وحاصروهم من كل جهة، وقتلوا منهم بالحرق والقتل وبلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب من هوله النواصى، وصار القتلى مطروحة فى الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصا البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطارف وهرب كثير من الناس عندما اقتنعوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها، واستولوا على الخانات والوكالات والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء، والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأبازير والأرز والأدهان والأصناف، وأصبح من بقى من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم».
ينقل «الرافعى» فى سرده للحدث الشهادة التى سجلها المسيو جالان، أحد أعضاء بعثة العلوم والفنون ضمن الحملة الفرنسية على مصر، فى كتابه «صورة مصر أثناء إقامة الجيش الفرنسى» قائلا: «أخذ الجنرال بليار يحاصر المدينة، وبدأ يصب عليها من المدافع ضربا شديدا أملا منه فى إجبار الأهالى على التسليم، لكنهم أجابوا بضرب النار، فأطلقت المدافع قنابلها على المتاريس، وهجم الجنود على الاستحكامات فاقتحموا أكثرها، وظل بعضها يقاوم، واستبسل الأهلون فى الدفاع ولجأوا إلى البيوت فاتخذوها حصونا يمتنعون بها، فاضطرت الجنود إلى الاستيلاء على كل بيت منها، والتغلب عليها بقوة الحديد والنار، وبلغ القوم فى شدة الدفاع حدا لا مزيد بعده».
لم يكتف الفرنسيون بارتكاب المجازر، وإنما امتدت وحشيتهم إلى فرض غرامة مالية جسيمة على أهل بولاق قيمتها 200 ألف ريال، وفرض غرامة أخرى على متاجرها قيمتها 300 ألف ريال، وفرضوا على الأهالى أن يسلموا ما عندهم من المدافع والذخائر الموجودة فى ترسانة بولاق. وما لديهم من الأخشاب والغلال والشعير والأرز والعدس والفول، وأن يسلموا أربعمائة بندقية ومائتى طبنجة.
أثرت النكبة التى حلت ببولاق على سائر أنحاء مدينة القاهرة، وكان الجنرال كليبر هو الذى يقود الاحتلال الفرنسى خلفا لنابليون بونابرت الذى عاد إلى فرنسا، وأمر بارتكاب هذه المجازر، وانتهز فرصة الفزع الذى استولى على النفوس، فأمر جنوده بالهجوم العام على مواقع الثوار، وعاق المطر هذا الهجوم يومين، ثم تواصل يوم 18 أبريل.
ويذكر «الرافعى»، أن نذير هجوم الفرنسيين كان إشعال النار فى لغم دسه الفرنسيون تحت جدار بيت أحمد أغا شويكار، الذى كان الثوار لا يزالوا يحتلونه، فلما انفجر اللغم نسف المنزل بمن فيه واحترقوا عن آخرهم، ويضيف: «أسرف الفرنسيون فى ارتكاب الفظائع لإخماد الثورة، ولجأوا إلى الطريقة الوحشية التى اتبعوها فى كثير من المواطن، وهى إضرام النار فى الأحياء الآهلة بالسكان وإرسالها على المدينة وأهلها موتا أحمر، فأحدثت الحرائق تخريبا فظيعا فى القاهرة، واحترقت أحياء برمتها، وتهدمت بيوت عامرة ودفنت تحت أنقاضها عائلات بأكملها».
Trending Plus