إنكار واستكبار ووسائل تأكل الغايات.. البندقية وخطيئة انفصالها عن السياسة فى فلسطين

لم تعد غزّة محرقةً لأهلها فحسب؛ بل للسياسة والعقل وكل الخيارات الموضوعية أيضًا. نتنياهو مُنفلت من كل عقال، لا رادّ له ولا رادع، والمواكبة الأمريكية تُصلِّب ظهره باستعلاء واضح على كل الاعتبارات؛ حتى المصلحة المُجرّدة. أمّا حماس فتبدو عاجزةً عن الكرّ والفرّ، ومأخوذة بأوهامٍ تخطّتها الوقائع. تتقدّم الأيديولوجيا لديها على القضية، والجماعة على المجتمع، وتتوهَّم أنها تتبادل «عض الأصابع» مع العدوّ، وتُطيل؛ وكلاهما يقضم من كفوف الغزّيين.
يبطش المُحتل أو يستعرض المُقاوم؛ فيموت أبرياء منكوبون فى الحالين. «منكم السيف ومِنّا دَمُنا» على ما قال درويش؛ لكن الشاعر كان يتقصّد معنى غير ما يسوقه المقاتل اليوم. المأساة واحدة؛ إنما الفارق عميق بين المظلمة الصافية، وادّعاء البأس دون مقدرة عليه. الميزان مُختل قطعًا؛ لكنه المتاح، والصهاينة بالطبيعة والتكييف راغبون فى إفناء الفلسطينيين؛ وليس على الضحايا أن ينساقوا إلى المذبح زُمَرًا، ولا أن يُسلّموا باستنقاذ الفئوى على حساب الجمعىّ.
فى مسرحيته الشهيرة «يوليوس قيصر»، يُورد شكسبير على لسان بطله التراجيدى المغدور قولته: «حتى أنت يا بروتس؟!» عندما أجهز عليه أعضاء مجلس الشيوخ الرومانى، ورَوّعه أن يكون خنجر صديقه الحبيب بينهم. لعلّها الصدمة غير المُتوقّعة طبعًا فى عزيزٍ، وربما الأسى على التطوّع فوق الحاجة، والإقدام فيما لم يكن ضروريًّا. طعنةٌ واحدة كانت تكفى وتفيض، والقيصرُ لا ينقصه الأعداء؛ ليتمالأ عليه القريب مع الغريب!
وليس القصدُ إطلاقًا أن يُفرّط الحماسيّون فى الثوابت الوطنية؛ بل أن يعودوا إليها من زاوية صحيحة. والصحّة هنا لا تنحصر فى الانسداد الراهن، بقدر ما لا يصحّ تعليقها حصرًا على كاهل «طوفان السنوار» وتداعياته. الأزمة أسبق من الهجمة وأعقد، وتعود باليسير إلى عقدين سالفين، وربما إلى زمن تأسيس الحركة نفسها إن شئنا الإحاطة وتوسيع مدى الرؤية.
جرت انتخابات 2006 على قاعدة أوسلو؛ برغم كل ما يُمكن أن يُساق عن هشاشة الاتفاق وولادته مُختنقًا بحبله السُّرّى. تفوّقت «حماس» بأكثرية ضئيلة، فصارت بالأثر تحت سقف السلطة الوطنية والتزاماتها، وحرصت فى الخطاب والممارسة على أن تظلّ فوقهما. أرادت أن تضع قدمًا فى الحُكم وأخرى خارجه؛ فوقع التناقض لديها بين السياسة والسلاح، وكان لِزامًا عليها أن تلحظ التناقض مُبكّرًا، وأن تُطوّر رؤيتها بما يسمح باستيعابه، ويُرشِّد أثره عليها وعلى القضية.
كانت السياسة وقتها عبئًا على السلاح؛ لأنها منحت التنظيم جسمًا شرعيًّا يتضادّ مع أن يكون مُكوّنه العسكرى حاكمًا للآخر المدنى، بينما لا قِبَل للأخير بأن يُطوّع الأوّل أو يضبط سلوكه. واليوم؛ تبدو الصورة مقلوبة عَمّا كانت عليه؛ إذ صار السلاح عبئًا على السياسة، بعدما تعطّلت فاعليته المباشرة فى الميدان، ويُصرّ على تعطيل المفاوضين فى الغُرف المُغلقة، وتُوصَم به الجماعة فى شِقّيها بالإرهاب وانعدام الشرعية.
وعقدةُ العُقد كلها؛ أن حماس لا تملك مشروعا وطنية تندرج فيه البندقية والدبلوماسية على خطٍّ واحد، يتخادمان باعتدال، ويُغطِّى كلٌّ منهما الآخر. لديها ساقان فعلا؛ لكنها تُصرّ على أن تحجل بإحداهما وتُغيِّب الثانية. توارت كتائب القسّام خلف قوائم الانتخابات، ثمّ طغت عليها سريعًا. وأوقدت شرارة الطوفان بمعزلٍ عن الجناح السياسى، وإلى الآن يبدو الشقاق بينهما صارخًا، وما تُقرّه الفنادق تُقوّضه الخنادق، والعكس أيضًا.
سبق مثلا أن تراضى مفاوضوها فى الدوحة على المُقترح المصرى للهُدنة فى مايو الماضى؛ فأطلق السنوار قذائفه الهيكلية عديمة الأثر على كرم أبو سالم، وعطّل الاتفاق. ما قبلوه فى نوفمبر 2023 رفضوا مثله لاحقًا لمرّات عِدّة، وما رفضوه بعد جولات باريس والقاهرة وروما قبلوه فى الهُدنة الثانية. يحلمون اليوم بالسادس من أكتوبر، ويزعمون أنهم جاهزون للتنحّى عن الحُكم، بينما يرفضون تمكين السلطة من القطاع، ويهجون نتنياهو وهو يستحق الهجاء؛ لكنهم يُلاقونه على الأهداف ذاتها فى المفصل الأخير. خليط من التناقضات، وارتباك لا ينُمّ عن شىء إلا اختلال الرؤية، وانعدام الأفق، والانشداد إلى أهدافٍ مُتضادّة ومتضاربة.
لا مفاجأة فى أن يُفعِّل الذئب غريزته فى الافتراس؛ إنما الغريب أن يزهد الحملان حياتهم أو يتقاعسوا عن الفرار. والحرب بعدما قُلِّبت على كل وجهٍ مُمكن؛ بات مقطوعًا بين اليمين الأصولى على الجانبين: الحركة صوّبت على ائتلاف الليكود فى صورة مستوطنات الغلاف، والأخير يتعقّب الحماسيِّين تعميمًا على المجموع الغزّى. كأنها لعبة روليت روسية؛ وقد أخفق صاحب الرصاصة الأولى فى إسقاط غريمه، وعليه أن يتقبّل دوره فى التصويب، لا أن يختبئ أو يتترّس بآخرين، ما اقترحوا المواجهة ولا كانوا مُستعدّين لها، ويستنكفون أن تُخاض بهم دون طائلٍ منظور.
بقوة المنطق، لا يحق لنتنياهو أن يسلب الفلسطينيين حقّهم المشروع فى المقاومة، ولا بإمكانه أن يُغطِّى جرائمه بالسرديات المُلفّقة، أو ينزع عن القضية صفتها العادلة. وبمنطق القوّة؛ فإن له اليد العُليا على الميدان الآن، وما مُكِّن له فى هذا إلا بمقامرة حماس ومُغامراتها غير المحسوبة. يفرض شروطًا ظالمة من دون شَكٍّ؛ لكنه لم يخرج عن عهدنا جميعًا بإسرائيل، ولا على الصفة القارّة فى نفوس الصهاينة، وجوهرها التوحًّش واستحلال الأرض والعرض. يُلام القاتل مرّةً، ويُلام المُغامر ألف مرّة.
ولا وجاهة للقول إن الاحتلال يقتل بسبب أو من دون سبب. إنها الطبيعة كما أسلفنا، وانفراده بالشاة الشاردة ليس كإطلاقه فى الحظيرة كلّها. سبق أن شنّ حروبًا على غزّة منذ العام 2008، وما وصلت الحال إلى نكبةٍ ثانية ثقيلة كالتى نراها الآن. سخيفٌ قطعًا أن نُفاضل بين كارثة وأُخرى؛ لكن الأسخف أن نشقّ طريقًا تحمل الناس إلى المحرقة؛ وإلا نعود منها بكل وسيلة مُمكنة، بعدما تأكّدنا أنه ما كان لها أن تُشَقّ وأن تُخاض.
تجارب التحرُّر معجونة بالدم، وليست فيها واحدةً عبرت على ورد ورمل. من المنطقة العربية إلى أفريقيا وعُمق آسيا وبلاد اللاتين؛ لكنها جميعًا ما كانت تنتتحر بافتتانٍ على فواصل مُتقطّعة، وتعود من كل نزوة أسوأ مما كانت، وتُزَجّ فى تاليتها بالخِفّة التى زُجَّت فى أُولاها. إنه المشروع الغائب؛ وقد اصطنعه حماس ورفاقه من عَدمٍ تقريبًا، وبدّده ورثته مُتواطئين بالقصد أو الخطل مع الحماسيين وحُلفائهم. والمأساة لا تكفى عُذرًا، وشرف القضية لن يستُر خَطيّة.
ما تزال المُكابرة حاكمةً فيما يخص الطوفان. ترفض حماس أن تعترف بالخطأ، وأن تعتذر عنه؛ ثم تنخرط فى ورشة عاقلة للاستدراك والإصلاح. أمَّا الإصرار على النقد والإدانة فلا ينبعُ من رغبة فى كَيل الاتهامات، ولا من مازوخيّة تلوم الضحيّة وتُشيح ببصرها عن الجانى. الفكرةُ أنه لا سبيل للبناء دون تثبيت الجدار، ولا أمل فى ترميمه قبل أن تُعرَف شقوقه، وليس بالإمكان اتّقاء المزالق نفسها ما لم نعتبر بسابقاتها؛ كما أن الحل لا يُمكن أن يتأتّى على أيدى من كانوا سببًا فى المشكلة.
تنصرف الجهود راهنًا لإعادة انتزاع الهُدنة من مخالب النازية الصهيونية، ويُفترَض أن تكون الفصائل عَونًا فى هذا لا عقبة. نتنياهو تربّح من الطوفان وتداعياته، وتخدمه الحرب فى المنظور، مثلما تحجب عنه شرر السياسة فى المُرجَأ. الخاسر الوحيد هُناك فى غزّة، فوق الأرض وتحت الأرض، ويوم العرض على السماء حينما لا تصلبُ المُبرّرات الواهية رأسها. كل يوم ضائع يُكلّف مزيدًا من الأنفُس، ويُراكم الضباب فى أفق القطاع ومستقبله، ولا يحمى السلاح الذى بات عاطلاً أصلاً، ويُنتج الذرائع للعدوّ؛ بأكثر مما يُرخى ستار الحماية على الشقيق.
قدّم المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف مُقترحًا فرفضته حماس، وقدّمت مصر غيره فتناطح فيه نتنياهو، واخترع بديلاً يُوطّئ لهُدنة مؤقتة، يعقبها التفاوض على الوقف الدائم؛ شريطة تسليم الحركة بنزع السلاح وخروجها من المشهد. الجدل مُتوقَّع ولا مشكلة فيه؛ إنما المُعضلة أن تُحرَّف الوقائع أو تتسيّد الأوهام.
يعرف الحماسيون أن الوسيطين المصرى والقطرى نقلا لهم أطروحة إسرائيلية، لا تخص القاهرة والدوحة، ولا تستقيم الوساطة من دون تمرير الرسائل فى الاتجاهين؛ لكنهم بدلاً من التعاطى مع الأمور فى نصابها، أوعزوا لأحد كوادرهم أن يُصرّح لإحدى القنوات المُلوّنة بتفاصيل مُجتزأة ومُوجّهة. كأنهم يُصرّون على طَمر رؤسهم فى التراب، والتعامى عن فداحة الواقع من حولهم، بدلاً من الاشتباك مع القضايا بعقلٍ نابهٍ وضمير مُتّقد.
لم يكن الرهان على أزمة الليكود الداخلية فى ملف الإصلاح القضائى صائبًا حينما اصطنعوا الطوفان، ولا المواسير الفارغة التى يُطلقونها لتسقط قبل بلوغ أهدافها أحدثت أثرا، وقد أضرّت الاستعراضات الشعبوية الساذجة فى مراسم تبادل الرهائن، بأكثر مِمَّا أفادت أو ثبّتت سردية النصر. مُجرّد تشغيب على المظلمة، وتكثيف للذرائع؛ حتى اختلط الأمر على قطاع من العالم، ونظر البعض لنتنياهو على أنه يخوض معركةً عادلة ومُستحقَّة.
قدّمت الفصائل كل ما لديها فى الغُلاف، وجّهت الصفعة الأولى، ومن يومها تتوالى الكوارث على رؤوس الغزّيين. ورقة الأسرى فقدت وهجها المُعتاد، وتجمّد مخيال الحماسيِّين عند صفقة شاليط، بينما تخطّاهم القوميون والتوراتيون إلى ما يفوق «بروتوكول هانيبال» بكثير. المخطوفون صاروا ورقة لنتنياهو مثلما هم للحركة، وربما أكثر؛ لأنه يُبرّر بهم حربه المفتوحة، ويستدرّ مزيدًا من الإسناد الأمريكى الكاسح، ويُغالط الضمير العالمى فى استفاقته البطيئة، ويسمح بألا تكون ورقة فلسطين بيضاء تمامًا، وعندما يتجاور رماديّان فقد لا يُشكل اختلاف درجات اللون فارقًا كبيرًا.
الهُدنة عائدة وجوبًا؛ وليس لصلابة حماس أو فاعليّة أوراقها. كل الحكاية أن واشنطن تحتاج هدية من حليفتها الصغيرة. افتتح ترامب ولايته بوقف إطلاق النار فى غزّة؛ ليُسجّل انتصارًا معنويًّا صغيرًا قبل التنصيب، ولن يقبل بأقلّ من هذا قُبيل زيارته المُرتقبة للمنطقة. على الأرجح عندما استُدعى نتنياهو للبيت الأبيض مؤخّرا، مُنح مُهلةً لا تتخطّى ثلاثة أسابيع أو شهرًا على الأكثر، لأجل تهدئة التصعيد وإبرام اتّفاق جديد؛ لكن هذا لن يكون ضمانةً دائمة، ولا يمنع من اشتعال النار مُجدَّدًا بعدما يرحل العم سام، حاملاً صفقاته التريليونية من جولة الخليج.
المُعضلة فى المرحلة الثانية. يُريد الصهاينة فواصل مُتقطّعة يُستعاد فيها الأسرى، ويتجدّد العدوان بعدها. تطمينات الإدارة الأمريكية لا يُعوّل عليها طالما بقيت العقبات الكُبرى على حالها. وحماس تعرف أن «نزع السلاح» مطلب واشنطن قبل تل أبيب، وأن عليها أن تقبل بصفقةٍ فيها من الإذعان ما فيها، أو تحتمل التصفية البطيئة؛ مع ما ورائها من مخاطر تتجاوز القتل والإرعاب، إلى تسريع وتيرة التهجير وبدء إنفاذ المُخطط عمليًّا.
يقول طاهر النونو إن سلاح حماس خطّ أحمر؛ بينما يجب ألا يكون فى فلسطين خطٌّ أحمر إلا فلسطين. لا نفع للسلاح فى مواجهة محسومة سلفًا، ومن دون حاضنة اجتماعية قابلة له ومُقبلة عليه، وغطاء سياسى على وفاق معه، وراغب فى حمايته قبل أن يكون قادرًا عليها. السلطة تزحف ببطء ناحية الإصلاح، ويُنتظَر أن تختار مُنظمة التحرير نائبًا للرئيس عباس؛ لكن الأمر يتطلب مزيدًا من الهيكلة والتجديد، وأن يُصار إلى انتخابات فى أقرب الآجال. وعلى فصائل غزّة أن تنضوى تحت السقف الوحيد الباقى؛ لأن القطاع استُنزف فوق طاقته، ولأنه لا يصلح أصلاً قاعدةً للدولة ولا بديلاً عنها.
الطرفان يدّعيان النصر كاملاً، ولا يقبلان به منقوصًا أو يُقرّان بالهزيمة. وليس بمقدور أحدهما أن ينتزع باقة أهدافه كاملة من الآخر؛ لذا يقبض على ما فى يده ويمنع ما يقدر عليه عن الآخر. كلاهما يشترى الوقت: نتنياهو وصولاً إلى موعد الانتخابات العادية، وحماس على أمل أن ينقلب الشارع فيقلب الحكومة. الأول خسارته مُؤجّلة لكنها مُؤكّدة، والثانية يغيب عنها مُتغيّرات الداخل العبرى، وقد سبحت إسرائيل بكاملها إلى شاطئ اليمين، وخلافها مع الحكومة على استعادة الأسرى، لا على الحرب نفسها أو سحق القطاع بما عليه من حجر وبشر.
وإذ يُفهَم أن زعيم الليكود يُراهن على تكييف بيئته السياسية من الخارج؛ فليس مفهومًا على ماذا تُراهن حماس. إخفاقها سابق على الطوفان؛ لأنها قطّعت الروابط مع شُركاء الداخل، وعكّرت ماءها مع الجميع باستثناء محور المُمانَعة وإيران، والإجماع الذى صنّعته بقوّة السلاح يتشقّق فى نفوس الغزّيين، وربما تُغامر باستحثاث غضبتهم الكامنة وصولاً للثورة الكاسحة، أو على الأقل سيصير استبعادها من «اليوم التالى» مطلبًا داخليًّا، بقدر ما هو خارجى أو يزيد.
لا أُفق للضغط على إسرائيل، ولا للمُزايدة على أطرافٍ تضرّرت من المُقامرة وتجتهد لتجفيف آثارها. وانتظار المفاوضات الأمريكية الإيرانية وهمٌ كامل؛ لأن الخذلان ثابتٌ بالقول والممارسة، والصفقة المُرتقبة ستقطع الأطراف حتمًا، وتمرّ على جُثث الحلفاء فى الجبهات الرديفة. نتنياهو يتطلع أيضًا؛ وكل ربح لطهران قد يُعوّضه من غزّة ولبنان، كما كل ضغط من واشنطن، قد تردّه الجمهورية الإسلامية تشغيبًا من جهة الحزب والحركة. فى الأخير سيتّفق الملائكة مع الشيطان الأكبر، ويصطدم الأتباع بفوارق القوّة مع الصهيونية المُتوحّشة كما هى الآن.
لا بديل عن تضحية مُؤلمة، وعلى الحركة أن تُقدّرها كيفما شاءت؛ لكنها لن تُعوّض خطاياها فى الطوفان، ولن تُصلح آخره بما أُفسِد فى أوّله. الغطاء السياسى ضرورة لا رفاهية، على أن يكون شرعيًّا ومحل اعتراف وقبولٍ، وغيابه أضرّ عملية السنوار فى جَردة الحساب الأخيرة، وحوّلها من مُقاومة مُثمرة إلى انتحار مجانى. ابتزاز محور الاعتدال لن يُغيِّر شيئًا فى التوازنات، والشمولية القديمة قد تكتم أصوات المُعترضين من الداخل؛ لكنه يظلّ إجماعا زائفًا، وخلخلةً خطرة للبيئة الوطنية فى أشدِّ حالات احتياجها للتماسُك.
الهُدنة اليوم مهما بدت قاسية الشروط؛ أفضل مِمَّا سيُعرَض غدا، وقد تكون مرارته أشدّ وفُرص إصلاحه مستحيلة تمامًا. إن كانت الغاية المُقاومة فإنها سابقة على حماس، ولن تنطفئ بغيابها، وستبقى ما بقيت القضية تتنفّس وقادرة على الحياة. والغاية إن كانت فلسطين؛ فإنها أكبر من فصائلها جميعًا وأبقى، والدفاع عن بندقية بعينها، أو عن راية دون غيرها؛ إنما يُلخّص النهر فى شربةٍ واحدة، ويختزل الوطن فى فئة وأيديولوجيا. نتنياهو يُحبّ هذا؛ وإلا ما سمح باشتداد عود حماس على عينه وتحت حمايته، من الانقلاب إلى حقائب الدولارات.
Trending Plus