طوفان ظاهر ومؤامرات مكتومة.. عن خلايا الأردن وجناية الإخوان على فلسطين والمنطقة

زحفت إسرائيل ببطء من مَدنيَّة مُشوّهة إلى أُصوليّة جارحة. كانت اليهودية هامشًا على الفكرة الصهيونية؛ ثم صارت المتن وعمود الخيمة للدولة المُلفَّقة من عَدَم. وبينما يستخدم العدو الدين لتصليب مشروعه العدوانى؛ فإنَّ فريقًا على الجانب الآخر يستخدمونه لشَقّ الصفِّ، وخلخلة الدفاعات، وضرب المناعة الوطنية بدلاً من تعزيزها.
وفى المواجهات غير المتكافئة؛ لا يُمكن أن تصمد الروابط البدائيَّة وحدها، كما لا يصح إسقاط العناوين السياسية والقانونية من مدار النظر تمامًا، والاتكاء على مُنازعة نصوصيَّة استعصت على الحسم قديمًا خارج نطاق القوة، ويستحيل اليوم أن تُؤخَذَ غِلابًا، كما أنها لا تخدم نفسَها لو انتدبت ذراعًا للقتال مع الوحش، وعطّلت بقيَّة الأذرع، أو سَعَت لبَترها فى أشدِّ حالاتها احتياجًا لأن تكون جسدًا كاملاً.
فجّر الأردنُ مفاجأةً تتخطَّى حدودَه المُباشرة قبل يومين، عندما أعلن إحباط مُخطَّطٍ ذى صبغةٍ أيديولوجية واضحة، وتوقيف أربع خلايا مُتشابكة لتصنيع الصواريخ والطائرات المُسيَّرة، وتدريب العناصر فى الداخل والخارج، ضمن مشروعٍ يبدو أنه أُعِدَّ بالأساس لاستهداف المملكة، فى حين أنها تقفُ اليومَ على جبهة الحرب دون أيّة مُبالغة. بين انشغالها العضوى العميق بالقضية الفلسطينية، واتصالها جغرافيًّا بالضفّة، وديموغرافيًّا بدعاوى التهجير المُتصاعدة تجاه غزّة. وفى هكذا أجواء؛ لا يُوصَفُ السعى لإضعاف الجوار اللصيق، إلَّا على الاندفاعة الهائجة لتقوية العدوِّ، أو الرغبة الطائشة فى إرباك السياق؛ على أمل الاصطياد فى الماء العكر.
تحملُ القضيَّةُ عديدًا من التفاصيل المُثيرة. وفيها من المعلومات ما يُرجِّحُ بعض الاستخلاصات المنطقيَّة، كما فيها ما يُثير زحامًا من الأسئلة العصيَّة على الجزم بالأجوبة الآن، وربما لوقتٍ طويل.
كشفت الاعترافاتُ الأُولى عن ملامح المُؤامرة، وربما تُوفِّر التحقيقات المُوسَّعة مزيدًا من الإضاءات الكاشفة، وتجلى غوامض المسألة، لجهة التركيبة والتحالفات والغايات المقصودة؛ إنما فى كلِّ الأحوال تُمثِّل الواقعةُ طعنةً جديدة فى الخاصرة، وانتهازيَّةً عدوانيَّةً لم يُوفِّر الإخوانُ فرصةً سابقة للولوغ فيها، والسباحة فى مُستنقعاتها بمتعةِ خنزيرٍ يتمرَّغُ فى الوحل.
تضمُّ الجنايةُ سبعة عشر مُتّهمًا، أُحيل أغلبُهم إلى جهات التحقيق، وينتظر النائب العام لائحة اتهام دائرة المخابرات لشخصٍ واحد. والقائمةُ كلُّها على صِلَةٍ وثيقة بجماعة الإخوان، وهى كيان غير شرعىٍّ فى المملكة منذ قرار محكمة التمييز بسحب ترخيصها قبل خمس سنوات. بينما تتَّسع الخطَّة، وفقَ المُعلَن عنها؛ لتشمل أطرافًا من دول أخرى، عبر تمويلاتٍ خارجية من التنظيم ومحور المُمانَعة، أو تعاملات حركيَّة وفنيَّة مع عناصر من حزب الله وحركة حماس.
وإذ بادر إخوانُ الأردن بإنكار علاقتهم بالجريمة الموصوفة؛ فقد اعتمدوا صيغةً تبريريَّةً تجمعُ بين البراءة والتبرئة، زاعمين أنه نشاطٌ فردىٌّ لا تعرفه الجماعة ولا صِلَة لها به؛ لكنهم امتلكوا فى الوقت ذاتِه جرأةَ القَطع بأنه يَجىءُ فى سياق دعم المقاومة، وعلى خلفيَّة الوقائع التالية لطوفان الأقصى، وما افتعلته كتائبُ القسَّام على جبهة غزَّة.
والمُفارقة؛ أنَّ الخلايا تشكَّلت منتصفَ العام 2021، وقبل نحو ثلاثين شهرًا كاملة من نكبة القطاع، وأنَّ نشاطاتها تركَّزت فى العاصمة عمّان، على بُعد 75 كيلو مترًا تقريبًا من الحدود الفلسطينية، ومحافظة الزرقاء فيما بعد ذلك بـ25 كيلو مترًا إضافية، بينما يتراوح مدى الصواريخ المُصنَّعة بين 3 و5 كيلو مترات؛ ما يقطع بأنها كان مُعدّة لأهدافٍ فى الداخل، وليس لأىِّ اشتباكٍ مُتوقَّعٍ أو مُخطَّط له مع الصهاينة.
وبعيدًا من التلطّى وراء القضيّة، والاتجار بشعاراتها؛ فإنَّ الأردن على علاقة سلامٍ مع إسرائيل منذ ثلاثة عقود، وبرلمان المملكة المُمثِّلُ لشعبِها أقرَّ اتفاقية وادى عربة فى العام 1994، وليس لأحدٍ أن ينتزع شخصيَّةَ الدولة الاعتبارية لفصيلٍ أو تيَّار، ولا أن يُصادر قرارَها الوطنىَّ المُنضبط بالسياسة والقانون والمصلحة، تشغيلاً له فى غير ما يُحقِّق المنفعة العامة، ويُهدِّد السِّلم الأهلى والقومى، ويُمرِّرُ الإرهاب فى غلاف الجهاد، وعلى معناه المُحرَّف باصطناعٍ أيديولوجىٍّ مُوجَّهٍ للفقه والفُتيا.
فى وقتٍ غير بعيد؛ أثار كيانٌ مشبوه يُعَرِّفُ نفسَه باسم «الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين» بلبلةً فى المنطقة. عندما تصدَّى بنكهته الأُصوليَّة المُلوّنة سياسيًّا لمسألة غزة؛ داعيًا إلى إعلان الجهاد باعتباره واجبًا شرعيًّا؛ إنما من أرضيَّة قوامها الفرد لا الدولة، ومع حصره فى ثلاثٍ من دول الطوق: مصر والأردن ولبنان، فيما تجاهلَ أنَّ لسوريا حدودًا مُشتركةً مع العدو، وأرضًا تحتلها إسرائيل منذ عقود، ووسَّعتها فى ركاب الجولانى وفتوحاته الشاميّة، وأنَّ بعضَ مُموِّليه على اتّصالٍ وثيقٍ بالنازية الصهيونية، والأَوْلَى أن يُطالبهم بالتوقُّف عن هداياهم المجانية، وأن يُعَلِّق مناطَ التكليف على الاستطاعة والمصلحة؛ لكنه كان واضحًا أنَّ الفتوى الخارجة من غير جهةِ اختصاصٍ، غرضها التأجيج لا التقعيد، وغايتها أقربُ إلى أهداف اللجان الإلكترونيَّة من عمل الفقهاء.
وإذا نظرنا للوشائج الغليظة بين الاتحاد والإخوان، وما يجمعهما من تحالفاتٍ خَفيَّة ومُعلَنة مع الشيعيَّة المُسلَّحة ودوائر العثمانية الجديدة؛ فإنَّ الواقعة تصير أكثر جلاءً فى مراميها، وتفرض إعادة النظر إلى كلِّ السياقات المُتوالية منذ «الطوفان» فى حبكة دراميّة واحدة، واستقراء ما كان مُضمَرًا فيها من هجمةٍ أُصوليَّةٍ على تيَّار الاعتدال، قبل أن تكون على الاحتلال الصريح فى فلسطين؛ لا سيما أنها تغُضُّ الطرفَ عن احتلالاتٍ أُخرى ظاهرة فى لبنان واليمن وسوريا وغيرها.
قبل نحو سنةٍ تقريبًا، خَطَبَ خالد مشعل فى الأُردنيِّين عبر الفيديو، داعيًا الملايين أن يخرجوا إلى الشوارع بشكلٍ مفتوح ومستدام، ومُعقِّبًا بما لا يقبل التأويل: «على جموع الأُمَّة الانخراط فى معركة طوفان الأقصى، وأن تختلط دماؤهم بدماء أهل فلسطين حتى ينالوا الشرف». وفى وقفةٍ سابقة، أذاعت حماس تسجيلاً صوتيًّا لقائد جناحها العسكرى محمد الضيف، يُزيِّنُ للشعوب العربيَّة أن تنتفضَ على حكوماتها دون اعتبارٍ لأىِّ شىء، صارخًا فيهم: «لا تجعلوا حدودًا ولا أنظمة ولا قيودًا تحرمُكم شرفَ الجهاد والمشاركة فى تحرير الأقصى».
إنها دعوةٌ مفتوحة للموت لا الحياة، ولإلقاء مزيدٍ من الحطب فى محرقة القضيَّة الدائرة، بدلاً من العمل على إطفائها بالسبل المُتاحة، ومع أقل قدرٍ مُمكنٍ من الضَّرر لأفراد العائلة الواحدة؛ هكذا لو كانوا يرونها واحدةً من الأساس.
وعلى أىِّ وجهٍ؛ لا يمكن اتخاذ مأساة الغزِّيين حجَّةً للنفخ فى النار، ولا لتطييرها على رؤوس الأشقاء فى الجوار؛ إلَّا لو كان الهدف من البداية أن تكون الجولةُ عُموميَّةً فعلاً، والخرابُ عَميمًا، وأن تبدأ المأساة بالقطاع ولا تنتهى فيه. وتلك مُغامرةٌ لا تُفضى لانتكاسة فوق الطاقة فحسب؛ بل تصدم الوعى بحقيقة أن القضايا مطايا لا أكثر، وفلسطين مُجرَّد نُسخة مُحدّثة من «قميص عثمان».
بالبديهة؛ فإنَّ اصطناع حرائق إضافيَّة لن يُحدِثَ أثرًا ملموسًا فى غزّة؛ اللهم إلَّا المُنازعة فى الاهتمام وحَرف الأنظار، مثلما فعل حزبُ السيّد حسن نصر الله فى حرب الإسناد والمشاغلة، وفعلت إيران فى استعراض الصواريخ والمُسيَّرات، وكلاهما أضرَّ البلدين ولم يفُد فلسطين؛ بل ربما عَمَّق نكبتَها بتخليق الذرائع، وتشويه الصورة فى عيون الناظرين من الخارج، أو على الأقل تغطية جانبٍ من انكشاف الغرب المنحاز بوقاحة لإسرائيل.
ثمّة خيوط يمكن الآن تجميعها فى نسيجٍ واحد. خليَّة الأردن كانت سابقةً على الطوفان بسنوات، لكنها تزامنت مع استعدادات حماس وتحبير خُطَطِها العمليَّاتية. وبينما رجّحت بعضُ التقديرات أنَّ محور المُمانعة كان يُخطِّط لعملية كبيرة ومُتعدّدة الجبهات مع الصهاينة؛ فمن المُحتمل أنَّ العمل على الضفة الشرقية كان وثيقَ الصِّلَة بتحضيراتٍ فى الجانب الغربى، وبما شهدته غزَّة بوتيرةٍ صاعدة منذ نهاية حرب 2014، وأنَّ هجمة الغُلاف نفسها ربما كانت جزءًا من الخطَّة؛ لكنَّ السنوار تعجّل التنفيذ.
والأسباب ومُنطلقات التفسير واسعة. ربما استشعر الخطرَ من الاتفاقية السعودية الإيرانية فى بكين، وأحسَّ بأنَّ الجمهورية الإسلامية بصدد تأطير أدوارها الإقليمية وفق مُحدِّدات نفعية ذاتيّة خالصة؛ ثمَّ زادت الفاجعة مع حديث التطبيع مع الرياض. أراد الرجلُ أن يضغط على الحلفاء ويبتزَّ غيرهم، وأعدَّ عُدَّته بمنطق أن المُمانعين لن يخذلوه عندما يسمعون النداء، وأن دائرة النار ستتَّسع حتمًا، وتنتقل إلى الجوار رغمًا عنه، أو تستدعيه لها بالحَرَج والمُزايدة والفَوَران الشعبى.
أنكرت طهران علاقتها بالأمر تمامًا، وحدَّدت للحزب نطاقَ حركته تحت سقف المُشاغبة والاشتباك المحسوب. خاب رهان الحماسيِّين منذ اللحظة الأُولى؛ لكنهم ما فقدوا الأمل ولا توقَّفوا عن المحاولة.
وعلى بصيصٍ من تلك الثغرة المأمولة، نشطت الدعايات المُوجَّهة لابتزاز دول الإقليم، واستنفار عاطفة شعوبها، وخَلط الحابل بالنابل والأباطيل، عبر المنصَّات الرقمية ووسائل الإعلام التقليدية المُلوّنة.
دخول الجماعة الإسلامية (فرع الإخوان فى لبنان) على خطِّ الحرب كان فى سياق الغاية الاستثمارية نفسِها، والتلفيق الذى لا ينقطعُ بحقِّ مصر، وأيضا تنشيط خلايا الجماعة فى الأردن بوتيرةٍ مُتسارعةٍ مؤخّرًا؛ لدرجةٍ اضطرَّت أمن المملكة إلى التعجيل بتوقيفهم، بعدما كان يكتفى بمراقبتهم فى صمتٍ لنحو أربع سنوات.
فى مايو الماضى، أحبط الأردنيِّون مُؤامرةً إيرانية لتهريب أسلحة عبر سوريا، كانت فى طريقها إلى خليَّةٍ إخوانية على صلةٍ بحماس. بعض الميليشيات الشيعية فى العراق هدَّدت أيضًا، ولوّحت بقدرتها على تدريب الأفراد وإرسال آلاف المقاتلين بأسلحتهم، والجمهورية الإسلامية بالأصالة وجَّهت رسائلَ شبيهة، إبّان اشتباكاتها المُرتَّبة فى القنوات الخلفيَّة مع إسرائيل.
كان الملك عبد الله الثانى أوَّلَ المُحذِّرين من الهلال الشيعى قبل نحو عقدين، وسعى لاحتواء الإخوان واستيعابهم وطنيًّا على أمل أن يُغَلِّبوا أُردنيَّتَهم على إخوانيِّتهم؛ لكنه ما يزال هدفًا مرصودًا من الطرفين. ولا قرينة أدلَّ على هذا من تزييف تصريحاته على هامش زيارته لواشنطن قبل شهرين، وتشغيل الذباب الإلكترونى للتنظيم فى حملةِ تشويهٍ مُنظَّمة للرجل، تكشّفت لاحقًا بعد اعتذار وكالة رويترز عن نقلٍ مغلوط للحديث، بينما صمت ضباعُ الأُصوليَّة دون اعتذارٍ أو تصويب.
يحوز الإخوان نحو 22.5% من مقاعد مجلس النواب. حصدوا 31 من إجمالى 138 مقعدًا فى انتخابات سبتمبر 2024، مُوَّزعة بواقع 17 نائبًا من جناحها السياسى «حزب جبهة العمل الإسلامى» على اللائحة الوطنية للأحزاب، و14 ضمن اللائحة المحلية للمستقلين غير الحزبيين، ما يعنى أنهم يتّصلون بالجماعة مباشرة.
كان لهم 15 مقعدًا فى برلمان 2016، تراجعت إلى 10 فقط فى 2020، لتقفز بأكثر من ثلاثة أضعاف فى الانتخابات الأخيرة. نسبةُ المشاركة ارتقت بما يزيد على 2% بين آخر استحقاقين. باختصارٍ؛ حشد التنظيمُ بكثافةٍ بعد الطوفان، واستفاد من اللوثة العاطفية، وتعاملت معهم الدولةُ بسِعَة صدرٍ؛ على أمل أن تصفو نفوسُهم للوطن؛ لكنهم ما يزالون على حالهم القديمة دون تغيير، ولم يَعُد الصمت واللين صالِحَيْن لإدارة العلاقة مع جرثومةٍ مُتوطِّنة.
يخوضُ الأردن مرحلةً شبيهة بما خاضته مصر اضطرارًا، وأفضى بعد الاحتضان إلى طعنةٍ من النقطة صفر. الوطنيَّةُ قيمةٌ مرذولة لدى الإخوان، والوطن وسيلةٌ لا غاية كما قال حسن البنا، وحفنةُ ترابٍ عَفِن كما كان يراه سيد قطب.
الأُستاذيَّةُ غاية التنظيم، وسبيلها يمرُّ من الامتزاج بالدولة حتى ابتلاعها، ثمَّ إذابتها تمامًا لصالح الأُمَميَّة الدينية من منظورٍ إخوانىٍّ. وهكذا لا يُشكِّل الأردن أيَّةَ قيمةٍ صافية لدى عناصره الإخوانية، كما لا تُعنَى حماس بفلسطين إلَّا من جهة التمكين وريادة القضية انفراديًّا، وإلَّا فلتحترق الخرائط إنْ لم يكونوا مُلّاكها، أو قادرين على التنازُع فى الملكية.
ومن هُنا؛ يُفهَم سِرُّ التشدُّد الحمساوىِّ فى تأمين موقع الحركة ضمن مستقبل غزة، والقبض على السلاح غايةً وقتيَّةً وحيدة؛ ولو دونها رقاب الغزِّيين جميعًا، لا لشىءٍ إلَّا أنَّ الأرض كُلَّها من النهر للبحر لا اعتبارَ لها خارج الأيديولوجيا، كما لا وجهَ للأيديويوجيا إلَّا أن يكون التنظيم فى القلب منها. يُحالِفُ السلفيين فى مصر ثمَّ ينقلبُ عليهم، ويُعادى الشيعة والمُتصوِّفة بالممارسة المدنيّة؛ لكنه يتحالف عسكريًّا وحركيًّا مع الشيعية المسلحة، ويتقرَّبُ للأزهر ثمَّ يخاصمه ويُحاربه باتحاد العلماء المُصنّع، ويُتاجر بالاحتلال مع التقرُّب لأوثق رُعاته فى لندن وواشنطن، ويُصلِّى بوضوءٍ واحد جهةَ الأناضول مرَّة، وفارس مرَّة، بينما يُوَلِّى ظهرَه للكعبة والأقصى والأوطان كلها. الدينُ مَطيّة، وفلسطين ليست أعزَّ عليهم من الدين.
حادثة الأُردن تُعرِّى ما لم يعُد محلَّ شَكٍّ أصلاً. العدو من أمامنا، والعدو من خلفنا وداخلنا وحوالينا أيضًا. لا سبيلَ للمنطقة إلا أن تنفض طابورها الخامس من بين أحشائها، وأن تُجَدِّد سرديَّتها على قاعدة وطنيّة صافية، ثم فى إطار تحالفات إقليمية تُراعى المُشتركات، ولا تفتئت على التمايز والاختلافات.
يتعيَّنُ على المملكة أن تُراجع صيغة تعاملاتها مع الإخوان، وأن تتخلَّى عن نظرية الاستيعاب والتوطين؛ لأنه لا أمل فى الأصوليّة الدينية أن تكون جزءًا من مشروع وطنىٍّ جاد. يبقى القرار حقًّا للسلطات الأردنيّة؛ لكن سابق الخبرة التى مررنا بها تسمح بأن نتلمَّس المخارج عن وعىٍ وبيّنة.
كانت عمّان تتغاضى عن نشاط الجماعة بعد سحب ترخيصها؛ وربما تفرض الوقائع المُستجَدّة أن يُستكمل نزع الشرعيّة بالتجريم، وأن يُحَلّ حزبها السياسى مع حظر تشكُّل الأحزاب على أساس دينى. ويتوجّب على حماس أيضًا أن تحلّ نفسها من التزامات المحاور والأحلاف، وأن تستكمل «فك الارتباط» بالإخوان عَمليًّا، وهو لم يتجاوز الدعايات منذ إعلانه فى العام 2017. عليها أن تصفو لمجتمعها وقضيته، وأن تعود فصيلاً فلسطينيًّا غير تابعٍ ولا مُستَتبع، وغير مأخوذٍ بأوهام عقائدية أو ماضوية تجاوزتها السياقات. الإخوان إذا دخلوا بلدًا أفسدوه؛ والمؤكد أنهم لن يصنعوا لفلسطين لدولتها المأمولة. إنهم يعرفون الهَدم حصرًا، ولا خبرة أو رغبة أو صفاء نيّة لديهم للبناء.
Trending Plus