دينا الحمامى تكتب: باب الزوار.. حين يفسح الأدب المجال للوحش لتبرئة نفسه

يحيلنا الأدب أحيانا إلى إعادة ترتيب أفكارنا ومفاهيمنا حول الحياة والبشر ومعضلتى الخير والشر، فالعالم على براحه يتقزم أمام مقدرة الأدب الساحرة على تعرية العجز البشرى عن استيعاب كل هذا اللا منطق الذى يحكم سريان الأمور ومصائر البشر على حد سواء. فى روايته "باب الزوار" والصادرة عن دار العين رصد الروائى محمد إسماعيل وقائع العشرية السوداء فى الجزائر والتى امتدت من بداية التسعينيات من القرن الماضى إلى بداية الألفية وتعتبر بطبيعة الحال أرضًا خصبة للكتابة ومن ثم إعادة التأويل والاستكشاف، واعتمد الكاتب على تقنية الراوى العليم متعددة الرواة، إذ يبدأ الفصل باستعراض حياة أحد الأبطال ثم يتيح له فرصة الحكى عبر مونولوجات متقطعة أحيانًا أو تُفرد لنهاية الفصل أحيانًا أخرى.
تشتبك مصائر الأبطال عبر شبكة علاقات قوامها الحب أو الصداقة أو الجيرة، فيما تتفرق رؤاهم حول مفهوم الوطن الذى يفترض أن يجتمع الناس على كلمته ولا يتوحدون على شيء سواه، حضر الوطن كمفارقة تحير "محسن " الممزق بين قلب معلق فى المنتصف بين مصر التى تضم ابنته والجزائر التى قضى بها أجمل سنوات عمره، كريح تعصف بأفكار "فاطيما" الحيرى بين إيمانها به والواقع الذى يسخر من سذاجتها حينما صدقت فى حماة الوطن وآمنت بهم، كشبح يفتك "بفريال": إحدى أجمل بناته، ويحيك لها المؤامرات بعدما يقدمها كقربان مجانى لتجار الدم.
يعمل النص على تفكيك ومن ثم إعادة تفسير الوطنية التى حلت كلعنة تلاحق المواطنين وتحطم أبسط أحلامهم وأكثرها براءة، كالحلم ببلد مستقر أو مستقل لا يخضع لإرادات خارجية ولا يعاقب أفراد شعبه أو يستخدمهم كوقود فى حرب مع أقطاب تتنازع فيما بينها حول كل شيء إلا على وطن آمن ورحيم، تختلط معانٍ أخرى مثل الانتماء والهوية ويضيع الناس بوصلتهم حينما تتكشف الحقائق بضلوع المخولين بحماية الشعب فى قتله، ويظهر السرد عبر مشهديات متواترة بين فاطيما وأبيها "صالح" المرارة التى تصيب الواثق فى وطنه، وكأن الوطنية فى بلادنا ابتلاء للمؤمن بها وعقاب أبدى لا ينقضى حتى بانقضاء حياة المتهم بمحبة الوطن.
تستمر الرواية فى إعادة النظر إلى الكثير من المفاهيم كالحرية والحب والجنس فى ظل الأوطان المأزومة وكيفية تعامل الأبطال معها، "باهية" على سبيل المثال تطلعت إلى حرية غير التى تفتقر إليها فى وطنها، فسافرت بصحبة ابنتها الصغرى "زهرة" إلى بلجيكا على أمل استقدام ابنتيها الأخريتين: فاطيما ولمياء، متبعة حلم جامح يرنو إلى الحرية والانطلاق، بيد أنها تستفيق على واقع أليم لا يرحم فى بلد بارد يقسو على الغرباء، فتضطر إلى تشغيل طفلتها فى توزيع المخدرات تحت إشراف زوج أختها، وتلجأ إلى وظيفة مشينة تترقى بها وظيفياً إلى أن يبلغ بها الحال كقوادة كانت فى أحد الأيام بوطنها ربة منزل تعول فتيات واعدات وصالحات، يتحطم الحلم فى التحرر مع تشوه صورة الحرية التى كابدت باهية لأجلها فأصبحت كقيد لا يمكن الفكاك منه أو الرجوع عنه، فيما حل الجنس فى خلفية الأحداث كحيلة دفاعية يائسة للبقاء وسط كل هذا الموت المألوف والقسوة المحدقة بملابساته، إذ لم تتشجع " يامينة" على القيام بدور الزوجة البديلة لـ " باهية" مع الزوج الذى سيمنحهما هما الاثنتين الجنسية إلا فراراً إلى حياة مفبركة تأمل أن تصير واقعاً يوما ً ما عوضاً عن أن تستمر فى ممارسة دور العاهرة فى مقابل نقود زهيدة، حتى الحب بطبيعته الحالمة أبى إلا أن يحضر كأضحوكة وسط كل هذا القدر الهائل من الألم، كمقطوعة موسيقية من النشاز الخالص فى خضم هذه المقتلة الممتدة كجرح غائر فى قلب الوطن.
على امتداد النص من المفتتح إلى النهاية أعطى الكاتب الفرصة لشخوصه ليكشفوا عن وجوههم الحقيقية خالعين الأقنعة التى أزيحت بإزاحة الستار عن دوافعهم ومواجهتهم لواقعهم الجديد، فمن صور كمظلوم لم يكن مظلوماً بشكل كامل ومن تصدر الأحداث كوحش كاسر لم يكن وحشاً وإنما توحشت الحياة من حوله، فبالرغم من قساوة هروب الأم وبشاعة ما آلت إليه أحوالها، لم تكن فاطيما لتكتشف حقيقة أبيها الذى هزمه تبدل أحوال البلاد وعزوف سيدات المجتمع عن حانوته المخصص لتفصيل أرقى الأزياء، لولا خروج " باهية من حياتهم جميعاً وترك المساحة لابنتيها كى تصلحا ما تصدع بفعل الزمان؛ النسق الذى اتبعته الابنة الكبرى " فاطيما" فى إصلاح حياة الأب ومن ثم الأسرة يشبه تماما ً نسق فتيات الأساطير فى تعاملهن مع الوحش الذى تفرض الحياة وجودهن معه بالعالم ذاته سواء إن كان هذا العالم عبارة عن غابة، بيت أو حياة مشتركة، نجحت الابنة التى لا يتخطى عمرها العشرين عاماً فى إصلاح ما لم تفكر الزوجة فى إصلاحه خلال ما يقارب ربع قرن من الزواج، إذ أظهرت إرادة الإنسان الواعى الحر فى تعديل مسار حياته عبر معرفة الخطأ والاعتراف به دونما تعليق خيباته على مشاجب الآخرين وبلا خسائر تذكر وبغير الحاجة إلى الهروب من المسؤولية والمواجهة.
Trending Plus