هاني منسي يكتب: سؤال الموت بين القصة والقصيدة عند محمود درويش وأحمد إبراهيم الشريف

الكاتب والناقد هاني منسي
الكاتب والناقد هاني منسي

تعد فكرة الموت من أقدم وأشد الثيمات حضورًا في الأدب الإنساني، لما تمثله من غموض وهاجس وجودي. وربما الحديث عن الموت هنا لنثبت لأنفسنا أولًا أننا على قيد الحياة. شغل الموت تفكير الإنسان على مر العصور، وارتبط بالمجهول. بل عُرف مفهوم المجهول من خلال الموت، واختلف تفسيره باختلاف الثقافات، وكان مادة خصبة في الحكايات والأساطير والأديان. عرف العالم "كلود برنار" الحياة بأنها الموت لأن جميع الوظائف الحيوية ناتجة عن عملية الاحتراق العضوي، معنى ذلك أن الحياة هي الموت. قضية الموت والخلود كانت الشغل الشاغل للبشرية طوال تاريخها.

وطبقًا لأفلاطون أن الفلسفة هي تأمل للموت، والموت عند شوبنهور هو الموضوع الملهم الأكبر للتفكير الفلسفي. كما رأى إرنست هوكنج أن الإنسان لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يدرك موته هو شخصياً، لأنه ببساطة سوف يكون في ذلك الوقت في تعداد الموتى. وأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر في الموت، كما أنه يتقبل موته وموت الآخرين على أنه شيء حتمي وربما ضروري في الحياة. لكن في الأدب العربي المعاصر تتجاوز الرثاء والفقد، ليتحوّل إلى فعل جمالي وفلسفي يُحاور الذات والعالم. في هذا السياق، تلتقي تجربة أحمد إبراهيم الشريف القصصية (زغرودة تليق بجنازة) مع تجربة محمود درويش الشعرية في مقاربة سؤال الموت، لكن كل منهما يستخدم أدوات وأساليب ومخيالًا مختلفًا، نابعًا من خصائص جنسه الأدبي.

الموت في مجموعة "زغرودة تليق بجنازة" حيث الموت المعيش في الحياة اليومية. لا يأتي الموت كحدث مأساوي فقط، بل كجزء من نسيج الحياة اليومية. إنه موجود في القرية، في الدرب، في شباك يطل على المقابر، في صوت امرأة تموت وهي تلد، في طقس الغُسل، في البحر، في الحقول، في تلقين الشهادة،  في زيارة القبور، في عادة الأخذ بالثأر، في حكايات العفاريت، في غياب المعنى الإنساني في العلاقات العائلية، في الطقوس الدينية والاجتماعية: الميلاد والزواج والموت..، في الغياب لأجل تأمين الحياة، في بندقية ابن الأكابر، في بندقية "هندي" تقف حائلًا في توزيع الميراث، في وجبة طعام على أرض دفن فيها مؤخرًا جثة أحدهم .. كطقس يومي معتاد، وجاء الموت بطريقة متصالحة مع الحياة، لا استغراب، ولا خوف مبالغ فيه، بل يمكن التعامل مع الموت كضيف حتمي وجزء أصيل في صيرورة الحياة اليومية والعادية.

في قصة "ملاك الموت"، تقول الأم: "تقسم أمي أنها رأت، منذ دقائق، ملاك الموت في كامل هيبته يمر في الدرب... فردّ عليها: خليكِ في حالك". هنا يصبح الموت جارًا، عاديًّا، شريكًا في الحياة، يُسخر منه أحيانًا ويُخشى منه أحيانًا. لا غيبيّ بالكلية، ولا فانتازي بالضرورة، بل يتجسّد في شارع شعبي، ويرتدي جلبابًا مصريًا ويتكلم بنبرة مصرية دارجة.

في قصة "فرح"، الموت يتسلل بهدوء إلى جانب الفرح "شربت جدتي كوب الماء وصمتت تمامًا. وقال أبي: يوم موت أم محمد سعد سأقيم فرحًا وأرقص فيه". القصة تختزل التناقض بين الطقوس الجماعية للفرح، والموت الفردي الصامت، في بيت يُطفأ بينما الشارع يضج بالحياة.

الموت في شعر محمود درويش يتدرج من الذات إلى الأسطورة، فالموت عنده يتجاوز المحلي واللحظي إلى الفلسفي والكوني. هو سؤال وجود، هوية، ومصير. في قصيدته الطويلة "جدارية"، يقول "هذا هو اسمك/ قالت امرأة، وغابت في الممر اللولبي..." "وأنا من أنا لأخيب ظن العدم؟!"

وفي قصيدة أخرى يقول "أيها الموتُ، انتظرْ! حتى أُعدَّ حقيبتي: فرشاةَ أسناني، وصابوني... وهل المناخ هناك معتدل؟ وهل تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء؟..." "ويا موتُ انتظرْ، يا موت، حتى أستعيدَ صفاءَ ذهني في الربيع وصحّتي، لتكون صيادًا شريفًا لا يصيد الظبيَ قرب النبع..." الموت هنا ليس حادثًا، بل لقاء مع المجهول، انكشاف للذات أمام نفسها، فعل فلسفي وجودي، لكنه أيضًا شعري. تُصبح القصيدة وسيلة لترويض الفقد، وتدوين الصراع بين البقاء والزوال.

في قصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، يقاوم الموت بالجمال "على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أمُّ البدايات، أمُّ النهايات... كانت تسمى فلسطين، صارتْ تُسمى فلسطين". الموت هنا مرتبط بالوطن، بالهوية، لكنه ليس نفيًا للحياة، بل جزء من نضالها.

يعتمد أحمد إبراهيم الشريف على الاختزال والتكثيف. ترك فجوات ليملأها المتلقي، كل حسب ثقافته وخبراته في الحياة، شخصياته تواجه الموت بالصمت أو الهذيان أو الطقس الشعبي. الموت مرئي، محسوس، لا رمزي ولا ميتافيزيقي. يستخدم المفارقة اليومية: الموت وسط فرح، أو في هيئة ملاك يُرمى بالحجارة. بينما يستخدم محمود درويش التكرار والمجاز. الموت عنده طريق للتأمل، ولتأسيس الذات الشعرية. يخلق علاقة حميمة بين اللغة والموت. ويطرح أسئلة فلسفية تأملية عن الوجود.

يتجلّى في هذا التقاطع بين الشريف ودرويش دور الجنس الأدبي في تشكيل كيفية التعامل مع سؤال الموت. القصة القصيرة عند الشريف وسيلة لالتقاط الهشاشة، لكتابة اللحظة، لتوثيق المأساة اليومية كمحاولة لاستئناس هذا الكائن الأسطوري الذي يسمى الموت. القصيدة عند درويش مسرح داخلي للصراع الوجودي، أداة لتشكيل معنى في مواجهة العدم. القص عند الشريف يجسد، يلامس الأرض، يكتب على الجدران. الشعر عند درويش يحلق، يتأمل، يكتب على الغياب.

يقول محمود درويش: "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء". هذه العبارة تختصر البُعد الإنساني الفادح للموت، ليس بصفته حدثًا بيولوجيًا، بل أثرًا نفسيًا وجوديًا عميقًا فيمن ظلوا بعده. في القصص القصيرة لأحمد إبراهيم الشريف، يظهر هذا الوجع في تفاصيل الغياب: صوت الجدة، خطوات الأب الموجوعة، امرأة تموت أثناء الولادة، رجل يصمت أمام جثمان زوجته.

في بعد شعري موازٍ، تتجلى فكرة أن الموت لا يقتل الموتى بل يكسّر من تبقّى، كما في المقطع التأملي لدرويش "أَيُّها الموتُ، انتظرْ حتى أُعِدَّ حقيبتي... فالموت حقاً لا يوجع الموتى لأنهم فارقوا هذه الحياة جسداً ولكن لا تزال أرواحهم تخلق في كل الأماكن التي حولنا..." هنا يتماهى الصوتان – القصصي والشعري – في الإحساس بأن الفاجعة ليست في الموت، بل في من تبقى: في دموع الرجل، وانكسار الروح، وفي "توزيع مقاعد الجنة والنار حسب إضاءة وجه الميت"، كما تقول الكتابة الشعورية الحديثة التي ترى في الجنازة لحظة فلسفية شديدة الكثافة.

يصبح الموت في الحالتين مرآة: لا للراحل، بل للحيّ الذي يعيد تشكيل العالم بعد خسارته. وكأن الفقد هو لحظة قياس جوهر الوجود، وصدى المحبة، وصمت المعنى في زمن سريع لا يرحم.

عبر أجناس أدبية مختلفة، يعيد كل من أحمد إبراهيم الشريف ومحمود درويش إنتاج الموت لا بوصفه نهاية، بل كنص معيش، كحدث جمالي، كفرصة للبوح والتأمل والتوثيق. الموت، هنا، ليس حزنًا صامتًا، بل وسيلة لإنتاج المعنى. وإذا كانت الزغرودة تليق بالجنازة، فإن القصيدة تليق بالغياب، ومن قبل ومن بعد يليق بالفن طرح السؤال.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

ثروت سويلم: الأهلى تفاجأ بموعد القمة وانسحابه بسبب الحكام غير مُبرر

محامى عمرو وأحمد الدجوى: آخرون من العائلة سرقوا وادعوا على موكلينا

المطر لا يفسد متعة المشاهدة فى مهرجان كان السينمائى.. صور

الأمم المتحدة: 14 ألف رضيع قد يموتون فى غزة خلال 48 ساعة

النيابة تستمع لأقوال أحفاد نوال الدجوى فى واقعة سرقة الذهب والدولارات


بيراميدز يؤدى تدريبين فى بريتوريا استعدادا لمواجهة صنداونز

موعد مباراة بيراميدز وصن داونز فى نهائى دوري أبطال أفريقيا

صلاة واحدة فى هذا المسجد تعادل أجر عمرة

نور الشربينى تتصدر قائمة الأكثر تتويجا ووصولا لنهائى بطولة العالم للاسكواش

عمرو الليثي يخضع لعملية جراحية ويشكر الأطباء


نيويورك تايمز: قطر أرادت "بيع" طائرتها الفاخرة حتى وضع ترامب عينيه عليها

إيلي كوهين.. ماذا تعرف عن أشهر جواسيس إسرائيل فى الستينيات

ختام بطولة أفريقيا للشطرنج تحت سفح الأهرامات اليوم بمشاركة 17 دولة

الأهلى أمام شبيبة كينشاسا الكونغولى فى ربع نهائى الكؤوس الأفريقية لليد

سيارة بنتايج تكشف حقيقة الرحيل عن الزمالك

موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025

بريطانيا تحذر مواطنيها: استحموا أسرع قبل فرض قيود لاستخدام المياه وحظر الخراطيم

23 عاماً على أمتع المباريات.. زى النهارده الأهلى يتعادل مع الإسماعيلى 4/4

مجلس الأمن الدولي يعقد اجتماعا خاصا عن الوضع في السودان

القناة الناقلة لمباراة الزمالك وبيراميدز فى نهائى كأس مصر 2025

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى