الأطباء وهجرتهم

أثار الطلب المقدم من أحد أعضاء مجلسِ النواب بحظر سفر الأطباء لمدة ٥ سنوات بعد التخرج، وأيضاً الأحاديث المثارة حول سداد الأطباء قيمة ما تكلفته الدولة في تعليمهم قبل سفرهم للخارج وترك البلاد دون أطباء، ضجة كبيرة ولغطاً أكبر. والحقيقةُ أن هذه آراء واقتراحات تؤكد عدم دراية أصحابها بلبِّ قضية هجرة الأطباء ونقص الأطباء في مصر، بل وندرة توفر أطباء في تخصصاتٍ معينة، مما يهدد الأمن والاستقرار الصحي في مصر.
وظاهرةُ انتقال الأطباء من بلد لآخر ظاهرة موجودة منذ قديم الأزل، وإلا ما كان لدينا د. مجدي يعقوب وأمثاله الكثير، ولكنها كانت في الماضي فقط للحصول على تعليم أفضل وفرص أفضل في التعليم، وأيضا لتحسين الدخل قليلا، فالفوارق في الدخل في الماضي لم تكن بهذا الشكل المبالغ فيه الآن.
ولكن الآن الأسباب تعددت، والظاهرة أصبحت أكثر تعمقاً، وبأعدادٍ مهولة من الأطباء يهرولون للخارج، ولابد من وقف هذا النزيف من الآن أو الحد منه لتعويض النقص في عدد الأطباء بالنسبة للسكان، فالمعدل الطبيعيّ العالمي المتوسط هو ١.٨ طبيبٍ لكل ١٠٠٠ من السكان، نجده في مصر ٠.٩ طبيب لكل ١٠٠٠ من السكان، وهي نسبة قليلة نسبيا، ولكن بالتأكيدِ هناك أقل وهناك أكثر بكثير، فعلى سبيل المثال كوبا مثلاً بها ٨.٤ طبيبٍ لكل ١٠٠٠ من السكان، بينما هناك دول إفريقية كثيرة يوجد بها ٠.١ طبيب لكل ١٠٠٠ مواطن، وهي نسبة قليلة، وهذه النسبة في مصر حتى بدايات عامِ ٢٠٠٠ كانت أفضل بكثير، ولكنها تقل عاما بعد عام وأصبحت ظاهرة خطيرة الآن.
وللبدايةِ، فإن سداد الطبيب قيمة ما تكلفته الدولة لتعليمه قبل الشروع في السفر يتعارض كلياً مع نص وروحِ المادةِ ٢١ من الدستورِ، والتي تنصُّ على أن تكفل الدولة تطوير التعليم الجامعي ومجانية التعليم الجامعي في جامعات ومعاهد الحكومة، وبالتالي لا يجوز أن يكون هناك ربط مطلقاً بين سفر الأطباء للخارج للعمل وما أنفقته الدولة عليهم لتعليمهم، حيث إن هذا يخالف نصوص الدستور في الحريات وتكافؤ الفرص لكل إنسان، طبيباً كان أو غيره من المهن.
ولكن سفرهم للخارج للعمل حتماً له دوافعه وأسبابه التي نوقشت وطرحن آلافَ المرات، وحلها كلها أو جلها أو بعضها يحل هذه المشكلةَ التي تمثل خطرا حقيقيت على صحة المصريين، فالأطباء في المقام الأول يهمهم التقدير المعنوي قبل المادي، يهمهم ويُبقيهم في الوطنِ لخدمة الوطن والمواطن احترام وتقدير مهنته، وما يقدمه من جهد وتفان لخدمة المنظومة الصحية في مصر والذود عنها.
وليس وباء كورونا وبطولات الفرق الطبية المصرية آنذاك بعيدة عن الأذهان، ويهمه أيضاً حمايته، والمنع للاعتداءاتِ المتكررة عليهم، أو أضعف الإيمان الحد منها لأبعد مدى، بقوانين تحميهم، وتقوية وسائل أمنية بالمؤسسات الصحية تمنع الاعتداء عليهم، وتخفيف الحملات الإعلامية عليهم، وتقليل تعرضهم لمسائلات قانونية وإجراءات سالبة لحريتهم، في أحوال كثيرة لم يرتكب أي منهم خطأ طبياً جسيماً أو خطأ طبيا بوجهٍ عام. وتعليمهم وتدريبهم وفقاً لأحدثِ المعايير ليستمروا على قمةِ التفوق الطبي عالمياً، كما هو مشهود لهم في العالم، وأيضاً تغيير بيئة العمل التي لا تليق بهم، ولا بما يقدمونه لخدمة صحة المواطن والوطن، وأيضاً النظر في ساعاتِ العمل وقدرة الطبيب والجهد المبذول فيه، والذي نرى نتائجه وأضرارَه في تكرار وفاة أطباء شباب نتيجة جهد العمل والضغط النفسي الواقع عليهم، تعويضاً للنقص في العدد، وسدا لهذا العجز، وعدم التقصير في خدمة وطنِهم ومواطنيهم.
ثم في آخر المصاف، المقابل المادي لما تقدمه الفرق الطبية من خدمة، وأهميتها للوطن والمواطن من الناحيةِ الصحية.
إذا استطعنا أن نتعمق في هذه القضايا وعلاجها ولو نسبياً، لن يهاجر الطبيب، ولن يترك وطنه، ولن يبخل بجهد وعلم على أهلِه وذويه، وليس حل هذا الأمر بمنع الأطباء من السفر وتقييد حريتهم، أو أن يدفعوا ما أنفقته الدولة عليه لتعليمهم، رغم ما في هذه الطروحات من مخالفة بشكل واضح قاطع لدستور البلاد وقوانينها.
Trending Plus