كل الطرق تؤدى إلى روما.. حديث الهيمنة والانكشاف على طاولة واشنطن وطهران

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

جراحةٌ دقيقة باحتمالاتٍ مُتساوية بين النجاح والإخفاق. يضع ترامب مشرطَه بمُوازاة مشرَط خامنئى، كلاهما يتطلَّعُ لاستئصال الورم، ونتنياهو على باب غرفة العمليات، لا يعنيه إلَّا أن يخرُجَ المريضُ بعاهةٍ دائمة.


يعرفُ الامبراطورُ الأكبر أنَّ إعلان الفشل ليس فى صالحه، كما يتيقَّن المُرشد الأعلى من أنها ربما تكون فرصته الأخيرة. والرهان الوحيد على الوقت وكفاءة التعقيم، وعلى أن يتوصَّل الطرفان للقرار الصائب قبل أن تُطلِقَ الأجهزةُ صافرةَ انقطاع النبض.


التأمَتْ الجولةُ الثانية من مُداولات المشروع النووى الإيرانى. ويتكوف فى مواجهة عراقجى، وبينهما وزير الخارجية العُمانى، فى سفارة السلطنة بالعاصمة الإيطالية روما.


لا يهمُّ إن كان الحوارُ مُباشرًا أم من وراء ستارٍ ورسائل عابرة بين الغُرَف المُغلقة. فى آخر المطاف؛ إمَّا أن يجلس الرجلان لطاولةٍ واحدة، ويتجاور توقيعاهما على الورقة نفسها، أو يضىء كلٌّ منهما مصباحَه باللون الأحمر، فينعكس ضوءًا أخضر فى تل أبيب.


يُحاول الرئيسُ الأمريكىُّ استعادةَ الاتفاق الذى انقلب عليه قبل سبع سنوات. لن يرتضى بالصيغة القديمة كى لا يُقيم الحجَّة على نفسه، ولن يُلاقيه الخصوم على تفاهُماتٍ تحملُ طابعَ الإذعان.


الرجوعُ لنسخة 2015 يُثبِتُ أنَّ مُغادرتَها لم تكُن قرارًا صائبًا، والاحتكام إلى النموذج الليبىِّ يُجَرِّع الجمهوريَّةَ الإسلاميَّةَ كأسَ سُمٍّ جديدةً، بعدما امتلأت معدتها بالسموم من كلِّ الأنواع، فى سوريا وغزة ولبنان. أمَّا الحلُّ الوسيط بين الخيارين؛ فقد لا يعجب إسرائيل، وعلى مَنْ كان سببًا فى الانغلاق الراهن، أن يبحث عن الثغرة المُناسبة للنجاة!


ليس لدى واشنطن أىُّ هامشٍ لقبول طهران عضوًا فى الأُسرة النووية، والأخيرة تعلم منذ البداية أنَّ تطوير مشروعها كان مُجرّد ورقةٍ للتفاوض. ربما تريدُه باشتهاءٍ حقيقىٍّ؛ لتُحَصِّنَ الثورةَ ومسارَ تصديرها للخارج؛ لكنه عندما يصيرُ خطرًا وجوديًّا عليها تسقط قيمتُه بالضرورة، ويكون إنقاذ النظام مُقَدَّمًا على الدفاع عن قوَّةٍ مُعطَّلَة عَمليًّا.


تنتهى فاعليَّةُ سلاح الدمار الشامل عند الاضطرار لكَبْس الزرّ الأحمر، إنه أداةُ رَدعٍ، وأهمُّ وظيفةٍ له ألَّا يُستَخدَم من الأساس. أىْ أنّ جدارته نابعةٌ من قوّة مالكه، أو من التوازنات المحيطة به، وليست فى ذاته على الإطلاق.


بنصِّ مُعاهدة حظر الانتشار، لا يُعتَرَفُ إلَّا بخمسِ دُوَلٍ نووية: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا وبريطانيا. وكلّها عبرت إلى الضفة معًا، أو بالتزامن، ومن رُكام الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، قبل أن تكتمل عمارة النظام الدولى الجديد.


لاحقًا؛ انضمَّت أربعُ راياتٍ إضافية للطاولة: إسرائيل فى حماية واشنطن والكون الأنجلوساكسونى، وكوريا الشمالية فى أجواء الاستقطاب بين الشرق والغرب، والهند وباكستان مُغلَّفتين بتناقُضاتهما البينيَّة، وبمحاولة خَلقِ توازُنٍ دقيقٍ فى منطقةٍ مُلتهبة.


تبدَّلَ العالمُ عَمَّا كان عليه، وأُرسِيَتْ التوازُنات ثمَّ رُفِعَت الأقلامُ وجفَّت الصحف. القديم ينحسرُ والجديد لا يجدُ منفذًا لأنْ يُولَد، كما قال الفيلسوف والمُنظّر الإيطالى أنطونيو جرامشى؛ ومن ثمّ فلا مجال للترحيب بوافدٍ جديد.


إيران حاولت اقتحام القاعة فى توقيتٍ خاطئ، فما زال العالمُ أمريكيًّا خالصًا كعهده منذ انتهاء الحرب الباردة، وقادةُ النزاع على شكلٍ مُحَدّثٍ للقُطبيّة لا يملكون مُؤهّلات الحديث من موقع قوّة، أو فرض إرادتهم؛ لو افترضنا أصلاً أنهم يُرحّبون بدولةٍ قَرَوَسطيَّة منقوعةٍ فى الأُصوليَّة الإسلامية؛ لتكون بين مُلّاك السلطة القادرة على إفناء الأرض، أو ترتيب المسرح المُلائم لتراجيديا الفناء.


لا تتوافر لإيران الشروطُ الموضوعيَّةُ التى أنتجت قوى النووى القديمة، ولا الشقوق والفراغات التى سمحت لغيرها بانتزاع بطاقةِ العضوية.


وإذ يتكشَّفُ أنها غيرُ قادرةٍ على إنفاذ إرادتها، وأنَّ ما أرادَتْه أداةَ تدعيمٍ للمشروع قد يكون حافزًا على نقضِه من الخارج أو الداخل؛ فكلُّ ما تستطيعُ العملَ عليه اليومَ أن تُحَيِّدَ الخطرَ بأقلِّ التنازُلات، وأن تبحث عن أفضل سعرٍ مُمكنٍ لصفقة الانسحاب من طريقٍ مقطوعةٍ عليها أصلاً. أىْ أنْ تفتدى نفسَها مِمَّا رتَّبته عليها من أعباء، وبدون أن تكون الخاسر الوحيد فى الذهاب وفى الإياب.


بُنِيَتْ الاستراتيجيَّةُ الدفاعية للشيعة الصفويين بناءً مُركَّبًا، بحيث تتخادَم عناصرُ القوَّة فى علاقةٍ من دون قلبٍ صُلب. دفاعات مُتقدِّمة بالميليشيات والفاعلين من خارج الدولة، تتولَّى تأمين مصالح الرأس الكبير بما فيها البرنامج النووى، بينما يتولَّى الأخير تدعيمَها فى صورة الشبح المُخاتل من بعيد.


وبعدما تضرَّرت الأذرعُ الرديفة صار البدنُ عاريًا، وعندما تعرَّى تضاءلت إمكاناتُ الساحات البعيدة بدرجةٍ أكبر، وهكذا من مُتواليةِ الشراكة فى التقدُّم على محورين مُتوازيين، إلى ثنائيَّة التداعى العميق بالتزامُن، ودون مقدرةٍ على الإنقاذ.


كان الاتّفاقُ الذى أبرمَه أوباما قبل عشر سنواتٍ مِثاليًّا لطهران، وما كانت تُحِبُّ إسقاطَه أو العودة للتداول فيه من جديد. وطوال السنوات الماضية بعد خروج الولايات المتحدة عليه؛ ظلَّت جاهزةً من جانبها للتداول فى شروطه بالضبط والتحسين.


كانت واثقةً على الأرجح من أنَّ أيّة طاولة جامعة ستحتكِمُ اضطراريًّا إلى ملاءة الجمهورية الإسلامية من القوّة، ولن تتجاهل انتشارَها الإقليمىَّ الواسع، وسيطرتَها على أربع عواصم إقليمية، كما كان يتباهى قاسم سليمانى.


أمَّا اليومَ؛ فإنها تُسْتَدعَى للحوار من موقعِ ضعفٍ كامل؛ ولو أنكرت، وتعرف أنها مُلزَمةٌ بتضحياتٍ مُؤلمة، وأكبر كثيرًا مِمَّا كان فى السابق، وبما لا يصبُّ فى مصلحة المشروع كما تتصوُّره؛ مهما كان الشكل النهائى للاتفاق، مع احتمال أن ينقلب عليها وبالاً كاملاً فى حال الشِّقاق.


السيد ترامب ماهرٌ فى الصفقات؛ أو هكذا يظنّ. يطلبُ المستحيلَ حتى يفوز بما يتجاوزُ المُمكِنَ بقليلٍ أو كثير، مع الاعتماد على الغموض والتضارب، وألَّا يترُكَ هامشًا لاستكشاف النوايا ومعرفة حدوده المقبولة وخطوطه الحمراء.
وتُجَّار البازار فى فارس محترفون أيضًا فى البيع والشراء وإبرام التعاقُدات، يطلبون الثمنَ الأعلى ثمَّ ينزلون ببطءٍ عن الأرباح لا عن أصل السعر؛ لكنَّ المُشكلةَ أنهم يسبحون الآن فى مياهٍ سوداء، وبين أعاصير عاتيةٍ وأمواجٍ مُتلاطمة، ولن ينصرف الزبون المُسلَّح عندما تنتهى المُبارزةُ الكَلامِيَّة بينهما دون بَيعٍ أو مَنفَعة؛ بل قد يُطلِقَ الرصاصَ عليهم ويسرِقَ البضاعةَ بالإكراه!


كان المبعوثُ ويتكوف لطيفًا فى جولة مسقط، ولن تخرُجَ تعابيرُ ما بعد اللقاء فى روما عن الخطِّ ذاتِه.. امتداحٌ للأجواء وتصريحٌ بالإيجابية والتفاؤل، وإشاراتٌ سيتبادَلها الطرفان عن الطريق المرصوفة بالتعقُّل والاعتدال، وعن غياب العثرات وتنامى فُرَص الوصول الآمن.


ولا يُنتَظَرُ غير هذا فى مراحل الاستكشاف، والعمل على استعادة الثقة، أو بنائها من منسوب سطح الأرض؛ بعدما تهدَّمَتْ تمامًا فى سوابق القصف المُتبادَل. يشترى تُجَّار البازارِ الوقتَ، ويُطَوِّعُهم باعةُ العقارات باللين والاحتواء، وما تزال المفصليَّاتُ المُميتةُ مُعلَّقةً على استمرار السباحة إلى المياه العميقة.


يعتمدُ الأمريكيون تكتيكَ الإغراق؛ بغَرَض مُحاصرة الإيرانيين وإرباكهم. تفيضُ القِطَعُ الحربيَّةُ عن طاقة البحار فى المنطقة، ويُصَعِّدُ الإسرائيليون خطابَهم بوتيرةٍ مُنتَظِمَة. ترامب يقولُ الشىء وعكسَه على فواصل مُتقاربة، وربما فى الجلسة الواحدة؛ لا عن تناقُضٍ وضبابيَّةٍ فى الرؤية، بل لأنه يضغطُ على الأعصاب العارية فى طهران وتل أبيب.


يعرفُ يقينًا أنه بين عَدوّيَن لَدودَين، وتشغله المصالحُ الوقتيَّةُ أكثرَ من حراثة المنطقة وحراستها، ومن ترتيب ملفَّاتها للمدى الطويل. لن يخذلَ الحليفةَ الصهيونيَّةَ بالتأكيد؛ لكنه لن ينجرَّ معها فى الدفاع عن مصالح نتنياهو الشخصية، أو سداد كُلفة نزواته الآن، ثمَّ الاضطلاع وحدَه بأعباء إصلاحها لاحقًا.


طار قائدُ القوَّات الجوية الإسرائيلية تومر بار إلى أرلينجتون فى ولاية فيرجينيا. التقى نظيرَه الأمريكى ديفيد ألفين، وجاء الإعلان من البنتاجون لا من كابينت الحرب أو وزير الدفاع يسرائيل كاتس. بعدها حطَّ وزيرُ الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ومدير الموساد ديفيد برنياع، فى العاصمة الفرنسية باريس؛ للقاء المبعوث ستيف ويتكوف قبل أن يطير إلى روما، ويعقِدَ لقاءه الموعود مع وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى.


خلال الأسبوع الماضى، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرًا عن ترتيب إسرائيل لضربةٍ عسكرية شاملة للمواقع النووية الإيرانية. قالت إنَّ الجنرالات قالوا إنها لن تكون جاهزةً قبل أكتوبر، لكنَّ رئيسَ الحكومة العجوز بيبى أرادها فى مايو؛ قبل أن يتلقَّى رفضًا عليها من جانب ترامب، ربما فى لقائهما الأخير بالبيت الأبيض قبل نحو أسبوعين.


إزاءَ ما فات، لم يتوقَّف سيّد البيت الأبيض عن التصعيد فى الخطاب والإجراءات. تتوالى العقوباتُ الجُزئيَّةُ على إيران باصطياد كياناتٍ وأفرادٍ وَثِيقى الصِّلَة بالحرس الثورىِّ، وربما بالمشروع النووى، ويُلَوِّحُ الرجلُ بثِقَل الوَطأة حال فشل المفاوضات، بينما يُصَرِّحُ بلُغَةٍ لا تقبلُ التأويل بأنه ليس فى عجلةٍ من أمره لضرب الجمهورية الإسلامية، كما نُقِلَ عنه الخميسَ الماضى، وكانت حاملةُ الطائرات الثانية "كارل فينسون" ما تزال تُرتِّبُ تمَوضُعَها بعد أيَّامٍ قليلة من وُصولها للمنطقة، والضربات تتصاعد بكثافةٍ ظاهرةٍ على معاقل الحوثيِّين فى اليمن، وعدّة القاذفات الثقيلة تكتمل فى قاعدة دييجو جارثيا بالمحيط الهندىِّ.


يقبِضُ على جَزرةٍ واحدةٍ فى يده؛ بينما يُرَصِّصُ العصىَّ والهراوات فى صفوفٍ مُنتظمة ومُتقاربة. يقمعُ زعيمَ الليكود لاتِّقاء المُغامرة العسكرية، بالتزامن مع استكمال استعداداتها. ولا تتوقَّف الاتصالاتُ وأعمالُ التنسيق من واشنطن إلى تل أبيب والعكس، مرورًا بباريس لمُجرَّد تثبيت الرسالة التى يعلمها الجميع، بمَنْ فيهم الإيرانيِّون، عن حضور إسرائيل فى مَتن المُفاوضات ولو لم يُحْجَز لها مقعدٌ على الطاولة، وأنَّ الولايات المُتَّحدة تستطيعُ كبحَ الحليف الصغير قطعًا، وإملاء إرادتها عليه؛ لكنها تهتمُّ بقبولِه ورضاه عن المسار، ولن تُمرِّر شيئًا فوق رأسه أو من أمام أنفِه المعقوف.


لقاءُ جِنرَالَى الطيران من البلدين إشارةٌ حربيَّة صريحة، واجتماع ويتكوف مع وجهين بارزين من المستويين السياسى والأمنى له معنىً آخر. يُحتَمَلُ أنَّ تسريب "نيويورك تايمز" جرى بالتوافُق ضمن أغراض الترويض، أو كان محاولةً للضغط فى واشنطن وإبراء الذمّة فى تل أبيب.


والاحتمالان السابقان؛ إنما يُؤدِّيان لنتيجة غير إيجابية؛ وإن اختلفا فى المظهر والجوهر: إمَّا أنَّ الحليف التابع يفتقد أدوات التأثير على الشريك المَتبوع، أو أنهما يقتسمان الأدوار فى لُعبةٍ محسوبةٍ تمامًا، ومحسومةٍ سِلَفًا، بينما يخوضُها المُنافس بفردانيَّةٍ مُطلَقة، وتحت ضغط العراء الكامل تقريبًا من الفاعلية وأدوات الضغط والمناورة.


أراد ترامب أن تكون مُفاوضاتٍ مباشرةً، وتشدَّد خامنئى فى العكس؛ فكان البديل أن تتوسَّط عُمان بينهما، قبل أن يتحدَّث ويتكوف مع عراقجى فى الرّدهة لنحو خمسٍ وأربعين دقيقة.


بعدها قرَّرت واشنطن نقلَ الجولة الثانية إلى روما، وتمسّكت طهران بالبقاء فى مسقط، وانتصرت إرادةُ الأُولى.
قد يراهُ البعضُ تفصيلاً عابرًا؛ لكنه ينطوى على تعبيرٍ عن القوَّة والهيمنة وامتلاك اليد العُليا، وعلى إيحاءٍ بقابليَّة إيران للتطويع ومُواصلة المسار وفقَ الرغبة الأمريكية. عَمليًّا؛ تُختَبَرُ النوايا والحدودُ بالنقاط الصغيرة مثل الكبيرة، وربما قبلها.
المُخطِّطون فى الجمهورية الإسلامية عليهم التوقُّف أمامَ كلِّ التفاصيل؛ وقد ازدحمت الطاولةُ بالأوراق والإشارات المُتعارضة. حديثُ الضربة قد لا يتجاوزُ الإرباكَ المعنوىَّ غالبًا؛ لكنه يحتملُ الصحَّة أيضًا، ولا يجوزُ إغفاله.


لقاءاتُ العسكريين والسياسيين من البلدين تُوحى بالشَّرخ وافتراق الرؤى، كما تحتملُ الانسجام والتنسيق وتوزيع الأدوار. وحتى رسائل ترامب فيها ما يُزعِجُ للغاية فى أشدِّ حالات برودتِها واعتدالها، وحينما يقول إنه لا يريدُ الحربَ بأكثر مِمَّا فى اللحظات التى يُهدِّد فيها بالنار والبارود.


قال الرئيسُ إنه ليس فى عجلةٍ من أمره. إشارةٌ إيجابيَّةٌ قطعًا؛ لكنَّ من مضامينها أنَّ الخيارَ حاضرٌ بقوّة، والخلاف على التوقيت فحسب.


الخبرُ الجيِّد أنَّ السيد دونالد غير قابلٍ للابتزاز والتطويع من جانب نتنياهو، أمَّا السيِّئ فأنه عَصىٌّ على ضغوط ومُراوغات إيران وغيرها أيضًا. مِيزةُ عدم الخضوع لذئب الليكود، يقابلُها أو يتفوَّقُ عليها عيبُ أنه يتعالَى على الجميع، ويتعبَّد لنفسِه أمامَ المرآة، ولا يرى سواها؛ أكان فى مُواجهة عَدوٍّ أم فى معيَّة صديق.


الحلُّ الأمثل، وهذا يخصُّ العربَ كما يخصُّ إيران، أن يُجَارَى فى حدودٍ مُرسَّمةٍ بدقّة، وضمن صفقاتٍ جُزئيَّةٍ لا تسلبُه ما يريد، ولا تمنحه إيَّاه دفعةً واحدة.


يتعيَّنُ إبقاءُ الحال فى نطاق المُقاومة الذكية، والمهادنة اليَقِظَة؛ وفيما بين الإذعان والتحدِّى. الحلُّ فى إغرائه بالربح، وترهيبه بالمخاطر، بالتلميح لا التصريح، ومن دون إفراطٍ أو تفريط.


لقد جلبَ إيران إلى الطاولة تحت سقف "الضغوط القُصوى". صحيحٌ أنه سرَّب عبر أعضاء من إدارته ما يشى بقابليَّته للتنازُل من أجلِ صفقة؛ لكنه اقتنص تنازُلاً استباقيًّا، ولن يقبل إلَّا أن يكون الأخيرَ فى الأعباء والأوَّلَ فى المنافع.


اللحظةُ التى تتساوَى فيها الخسائر والمكاسب لديه رماديَّةٌ تمامًا، والتى لا يكونُ مُتقدِّمًا فيها خطرٌ داهِم. إنْ مَنَحتَه بسخاءٍ سيطمع، وإن مَرَّرت تجاوزاته سيتجرَّأُ عليك أكثر، والأسوأ من هذا أن تسلُبَه لو تمكَّنت، أو تُناطِحَه لو أوجعَتكَ كرامتَك. الأفضل ألَّا تترُكَ له مَنفذًا ليدوسَ عليها من الأساس.


نتنياهو على دلالِه لديه تجنَّبَ الصِّدام معه فى زيارته الأخيرة. استمعَ صامتًا، وتلقَّى ما يُشبه التأنيب عَلنًا، وأضعافَه بالتأكيد فى الخفاء. تسريبُه للصحيفة الأمريكية فى أسوأ الافتراضات مُجرَّد مُحاولةِ ضغطٍ، لا تُزعِجُ الوحشَ الكامنَ داخله، ولا تستفزُّ غريزتَه الافتراسيّة.


يُريد "بيبى" أن يغسل سُمعتَه أمامَ بيئته، ويقول لهم إنه ليس جبانًا أو مُتخاذلاً؛ لكنه رُدِعَ من الأخ الأكبر. يُضيفُ بالاستعراض الشكلانىِّ جبهةً ثامنةً لجبهات حربه السبع المفتوحة، وظُلم ذوى القُربى أشدّ مضاضةً طبعًا، كما قال الشاعر العربى طرفة بن العبد.


وفيما وراء ذلك؛ فإنه لم يتلقّ رفضًا نهائيًّا على المُقترَح. أخبره الرئيسُ أنه يُريد إفساحَ الطريق للحوار، لا إغلاقها تمامًا على الحرب. فكأنه يقولُ ضِمنيًّا إنَّ ترامب تركَ البابَ مُوارَبًا، والضربةُ آتيةٌ ما لم ينزِلْ الإيرانيِّون عن الشجرة انضواءً تحت السقف، وفى غياب أيّة مُؤشِّراتٍ بشأن الحدود المقبولة، يصيرُ التنازُل نزيفًا مفتوحًا لا يُعَرَفُ آخره، ولا يُؤمَنُ المَكرُ فيه. أىْ أنَّ على الملالى اغتنام الفرصة، وتقديم القرابين دون معرفة شروطها، ومتى تُقبَل أو تُرَدّ.


فى زمن الإمبراطورية الرومانية، شاع أنَّ "كُلّ الطُّرق تُؤدّى إلى روما". وما يُستَدّلُ به على الاتساع والهيمنة، قد يدلّ على الانكشاف وسهولة الاصطياد أيضًا. سعَتْ إيران لأنْ تستعيدَ ذاكرة الإمبراطورية الفارسية، وأن تُؤدِّى كلُّ الطُّرق إلى طهران؛ لكنها انكشفت قبل أن تحوز السيطرة، أو تكون لها الغَلَبةُ على الخصوم والمُناوئين.


الكلامُ رَحبٌ كسهلٍ فسيح، والسلوك يضيقُ كأنه قبرٍ سحيق. البوارجُ جاهزةٌ، والمُفاوضون يُصَدِّرون الابتسامات، ومُهلةُ الشهرين تضغطُ على الأعصاب، دون تحديد موعد بدايتها أو منتهاها.


غابةٌ مُتشابكةُ الأغصان، مليئةٌ بالجوارح، ولا خريطةَ للتحرُّك بين أدغالها. أغلقَ محورُ المُمانَعة متاهتَه على نفسِه، من طوفان السنوار إلى إسناد نصر الله ونَزَق الحوثيين.


سدَّدت طهرانُ التكاليف المُعجَّلَة من حساب تابعيها؛ حتى تبدَّد رصيدُهم، وعليها اليومَ أن تستكمِلَ فاتورةَ الانكشاف من خزائنها الخاصة.


كلُّ الاحتمالات واردة: الصدام والتهدئة، اتفاق 2015 أو تجربة ليبيا، بقاءُ نظام الملالى أو سقوطه، وإبرام صفقةٍ أو بقاء الأمور معلقة.


لا قُدرةَ لأحدٍ على الجَزم بعدم رغبة ترامب فى الحرب، ولا بإقدامِه عليها حينما تنقطِعُ بدائلُها، أو بقاء نتنياهو طويلاً فى مقعد المُتفرّج. يُمكن أن يُطيعَ واشنطن أو يعصيها بمبادرةٍ مجنونة، ويُمكن أن ينقلب رجلُ الصفقات فى لحظةٍ على ما يرفضه أو يقبله.


الجيِّدُ والسيِّئ مُتشابهان تمامًا، وقريبان أيضًا، ويُمكن الوصول إليهما من ذات الطريق. كلُّ الاحتمالات مُمكنةٌ بفُرَصٍ مُتساوية، وتلك نعمةُ الصهاينة ونكبةُ المُمانِعين، والمأساة أنَّ الأخيرين أهدَوها للأوائل مجانًا، وباستخفافٍ لا يُحسَدون عليه مَطلَقًا.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اللى معاه كلب يربطه.. وزارة الزراعة تبدأ عهدا جديدا لتنظيم حيازة الحيوانات

"فى منزلنا جثة".. قصة شقة عاش سكانها فوق جثمان مدفون 8 سنوات بالإسكندرية

الأهلي يتوج بالسوبر الأفريقي لليد على حساب الترجى ويتأهل لمونديال الأندية (صور)

حر نار.. تحذير عاجل من الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الأربعاء 14 مايو 2025

أحمد عيد عبد الملك مديرا فنيا لحرس الحدود بدورى نايل


المتحدث الإقليمي للخارجية الأمريكية: حرب غزة أولوية في مباحثات ترامب خلال زيارته للرياض

بشرى سارة.. "التعليم" تعلن عن مسابقة فى يونيو لتعيين معلمى الحصة

الحرارة ترتفع لـ 44 درجة.. تغيرات مفاجأة فى حالة الطقس اعتبارا من الجمعة

زيارة ترامب للسعودية.. 600 مليار دولار استثمارات وصفقات سياسية ورفع عقوبات

التحقيقات: التيك توكر أم رودينا تمتلك حسابا بـ2.4 مليون جنيه ومحافظ إلكترونية


صحتك بالدنيا.. أعراض تتطلب المساعدة الطبية فى الهواء المحمل بالأتربة؟.. الشاى الأسود يحتوى على مادة تحارب الشيخوخة.. دراسة تثبت فعالية أدوية للسكر فى مكافحة سرطان البروستاتا.. وتغيير بسيط يفقدك 3 كيلو فى شهرين

الرئيس اللبناني: رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا سينعكس خيرا على لبنان

آسر أحمد يكتب: روث لانجمور شخصية رمادية كما يجب أن تكون

إبراهيم عادل يستغل خطأ عواد ويسجل أول أهداف بيراميدز في شباك الزمالك.. صور

جنازة سما عادل إحدى ضحايا حريق خط غاز طريق الواحات من مسجد الحصرى غدا

أفضل 10 إطلالات للنجمات على السجادة الحمراء لمهرجان كان السينمائى.. صور

وفاة "سما عادل" المصابة فى حريق خط غاز طريق الواحات

الزمالك وبيراميدز.. 6 لاعبين يغيبون عن الأبيض

البيت الأبيض: السعودية ستستثمر 600 مليار دولار فى الولايات المتحدة الأمريكية

وزير العمل يعلن 1072 فرصة عمل فى الإمارات بمرتبات تصل لـ55 ألف جنيه

لا يفوتك


مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025

مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025 الثلاثاء، 13 مايو 2025 09:25 م

المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى