حالات بائسة وإحالات أشدّ بؤسا.. هدنة غزّة والحاجة إلى بدائل عن نتنياهو وخصومه أيضا

فى «مُتلازمة البطِّ» تبدو الأمورُ طبيعيَّةً تمامًا من السطح، مُضطربةً ومُتسارعةً فى الأعماق. يُواصل نتنياهو عدوانَه على غزَّة بوتيرةٍ مُنتظمة، لكنه يُواجه تفاعلاتٍ خارجيّة وداخلية مزعجة، ويفتقد للمعرفة والرغبة فى مسار خروجٍ آمن من الميدان.
تُظهِرُ «حماس» صلابةً مُدّعاة فى القتال والتفاوض، بينما تتحرَّكُ بيئةُ القطاع على موجةٍ مُغايرة، وتنغلِقُ عليها آفاقُ التسوية مع العدوِّ والشقيق. كلاهما يُشبه «البطَّة» فى سباحتها الواثقة، وتتشابك ساقاه تحت الماء، وما يعتملُ فى الصدر أكبرُ وأخطر.
لم تهدأ ورشةُ البحث عن تهدئةٍ ضرورية لمئاتِ آلاف المنكوبين، لكنَّ الجولة تمضى كسابقاتها إلى مقبرةِ الإخفاق المليئة برُكام الاقتراحات والمحاولات السابقة. من ورقةِ المبعوث الأمريكى، إلى التصوُّر المصرى البديل، وصولاً لخطَّة زعيم الليكود من أجل استيلاد الرفض من الحركة، وإبراء الذمَّة أمام واشنطن عن استمرار التأجيج والنفخ فى المحرقة.
كان الحماسيِّون قد تلقّوا مُقترحَ نتنياهو أواخر الأسبوع الماضى. نقله الوسيطان المصرىُّ والقطرى كما تقضى طبيعةُ الوساطة، وتعهَّد خليل الحيَّة ورفاقه بالردِّ عليه فى غضون يومين، وحتى الساعة، لم تضع الحركةُ جوابَها الصريح على الرسالة، واكتفت بإطلالةٍ تليفزيونية لقائد فرعها فى القطاع، من مُستقَرِّه الحالى فى العاصمة القطرية، يُعلن أنَّ «سلاح المقاومة خطٌّ أحمر»، وأنهم جاهزون للبحث فى حزمةٍ شاملةٍ تنتهى بمُبادلة الرهائن دفعةً واحدة، مع الوقف الدائم لإطلاق النار، وانسحاب الاحتلال إلى خطوط هُدنة يناير، أو لِمَا قبل السابع من أكتوبر.
مرَّتْ الورقةُ فى القنوات الخلفية المُعتادة، لكنَّ وجوهًا رسميَّة من داخل التنظيم بادرت بالإفصاح عنها إعلاميًّا، وتورَّط بعضُهم فى التضليل وخَلط الأوراق، عمدًا أو بعشوائيّة واعتباط، لمَنحها صِفَةً تتجاوز طبيعتها الإسرائيلية الخالصة.
تصدّت القاهرةُ بالتصويب، فاضطُرَّ بعضُ القادة التنظيميِّين إلى إجلاء الحقائق. والمهمُّ أنَّ ما وضعوه على الطاولة أمامَ الناس، كان يفرضُ عليهم تمرير الموقف النهائىِّ من الطريق ذاتِها، وكَشْف تفاصيله للجميع فى وَضَح النهار، وليس الاكتفاء بالمنافذ المُعتمة، حسب الهوى والحسابات الحركيَّة والأيديولوجية الخاصة.
لا شىءَ لدى الفصائل أثمنُ من ثوابتها القيميَّة. وأخطرُ ما يُمكن الانزلاق إليه أن تُغيِّبَ الحقائقَ عن جمهورها، أو تخلفَ مواعيدها معهم. وإذ تعهَّدت بدراسة الورقة والتعقيب على مضمونها، كان لِزامًا عليها أن تُحدِّدَ موقفَها النهائىَّ بجدّيّةٍ وصراحةٍ، فى المَوعد المضروب سَلَفًا، وعلى أن يكون مشفوعًا بالتفنيد الدقيق، والأسانيد الوافية، والبدائل الموضوعية الصالحة للتداول أوّلاً، وللتطبيق حال تمريرها بقوَّة المنطق والحجَّة، وفاعليّة الرغائب والتوازنات الإقليمية والدولية.
استدعَى نتنياهو موضوعَ السلاح من خارج فضاء التداول أصلاً. ربما يكون شبيهًا فى جوهره بالهدف المُعلَن للحرب، من جهة القضاء على حماس عسكريًّا وسياسيًّا، وضمان ألَّا تكون جزءًا من «اليوم التالى» فى غزة، إنما يظلُّ الفارقُ عريضًا وعميقًا بين الغاية المستحيلة فى شَطبِ تنظيمٍ عقائدىٍّ من الخريطة تمامًا، وإبقائه فى نطاق الأفكار والهيراركيَّة القديمة، مع نزع دَسَمِه وانحلال قُواه.
وبقَدر ما يُعبِّرُ الزجُّ بالمطلب الصعب إلى الطاولة عن الأزمة التى تُطوِّقُ الحكومةَ الصهيونية ورئيسَها داخليًّا، فإنه يُعبِّرُ أيضًا عن الجمود المُهيمن على الضفَّة الأُخرى، وانعدام البدائل من جانب الحماسيِّين، وإصرارهم على إدارة المواجهة بآليّاتٍ عتيقة، يبدو ظاهرًا فيها الجهلُ بأنها لم تَعُد واقعيَّةً تمامًا، وأنّ الزمن تخطَّاها بالحوادث والتداعيات.
اتُّخِذَ «طوفانُ السنوار» ذريعةً للتوحُّش ضدّ غزَّة، لكنه فَقَد وجاهتَه منذ الأسبوع الأوَّل، وبعدما تعادلت أرقامُ الضحايا المدنيين بين المستوطنات والقطاع.
لم يكُن مُمكنًا الوقوف طويلا على وقائع هجمة الغلاف، واستحلاب صلاحيَّتها فى تمرير سرديَّة الإرهاب و«حقّ الدفاع عن النفس»، وقد سَدَّد الغزيِّون من دماهم أضعافًا مضاعفة.
وهكذا، انتقلَ العطاءُ من الفعل إلى الفاعل، وجُسِّدَت المسألةُ بكاملها فى الحركة وكتائب القسَّام، بمعزلٍ عن المُسبِّبات البعيدة والقريبة.
قطعًا، يظلُّ الاحتلال عِلّةَ الصراع وأهمَّ بواعثه، لكنَّ الصهاينةَ نشطوا على خطِّ التجزئة واختزال الصورة الكُليَّة فى أحد مُكوِّناتها.
صارت حماس عبئًا على القضية لا رصيدًا لها، لأنها لم تضَعْ إمكاناتها فى خدمة المشروع التحرُّرىِّ بنكهةٍ وطنيَّة خالصة، ولا اندرجت ضمن سياقٍ فلسطينىٍّ جامع.
أُلقِيَتْ تبعةُ عمليَّتِها غير المحسوبة على كاهل الاجتماع البشرىِّ العريض، ولم تستَفِد من طاقة السياسة ولو بدَتْ خافتةً، ولا أفادت سلسلةَ النضال المُمتدَّة فى تلاوينها الثريّة، وتعدُّد حلقاتها بتعداد العقود ومحطّات التصعيد والخفوت.
تعرفُ «حماس» قبل غيرها أنَّ السلاح وسيلةٌ لا غاية، ولو أظهرت العكس. نشأتْ فى ركاب انتفاضة الحجارة، وكان أثمن ما يملكُه الغزِّيون مظلمتهم الصافية، واختلال التوازن بين ضحايا عُزَّل، وجُناةٍ مُسلَّحين حتى الأسنان.
حقَّق الأطفالُ ما لم يُحقِّقه المُقاتلون، وتجسّدت الدولةُ فى كيانٍ لأوَّل مرَّة، ولو ظلَّ رمزيًّا وأقلَّ من الطموحات. «أوسلو» اللعينة تحقَّقت بالحجارة لا البنادق، والنكبةُ الراهنة فى غزَّة خلَّقتها الصواريخُ والدانات، وشعور القوَّة المُفرطة، وأوهام التعادُليَّة التى لا دليلَ عليها من واقعٍ أو خيال.
إنها ليست دعوةً لإلقاء السلاح بالطبع، وليس لأحدٍ أن يُقرِّر لأهل القضيَّة ما عليهم إتيانه لنصرة قضيَّتهم. لكنَّ الله يُحبُّ التعبُّد إليه بالوسائل كما يُتعبَّدُ بالغايات، وأن تُؤتَى رُخصُه كما تُؤتَى عزائمُه.
الصهاينةُ نازيّون مُتوحِّشون، لكنهم قبل «الطوفان» كانوا على أطراف القطاع، وبعده صاروا فى عُمقِه من الوريد إلى الوريد. المُقامرةُ فتحَتْ ثغرةً كان العدو يتمنَّاها، أو يتعثَّر فى اختراعها، أمَّا التباطؤ فى اجتراح الحلول العاقلة، فعقَّدَ البسيط، وزاد المُعقَّدَ تعقيدًا.
المسألةُ تتجاوزُ الخلافَ على سلاح القسَّاميِّين بعد ثمانية عشر شهرًا من الإبادة. النوايا فى تلِّ أبيب عدوانيَّةٌ دومًا، ولن يكونوا شُركاء بإرادتهم الخالصة، ولا خصومًا مُحترمين أبدًا.
السؤال حصرًا فى استهلاك كلِّ هذا الوقت، مع الإشراف على مقتلةٍ مفتوحة، ودون البحث فى منافذَ جادّةٍ لتفكيك الذرائع، وإزاحة الحركة من موقعِها كشاخصٍ للتصويب.
ما بادرَ القادةُ الحماسيِّون إلى إعادة تكييف حضورهم على صورةٍ أقلّ صخبًا، بل زادوه فى استعراضات تسليم الرهائن. كما لم يُبادروا بإلقاء الكُرة للسلطة الوطنية، ولا حتى مُداولة الغزيِّين فى نكبتهم، ودعوتهم إلى أن يتشارَكوا فى الاتفاق على برنامجٍ واضح، أقلّه ليكونَ الموتُ المجَّانىُّ مقبولاً لديهم، ومُقنعًا أيضًا.
يحفظُ الأرشيف مقطعًا مُصوَّرًا للقيادى البارز محمود الزهَّار، يقول فيه إنَّ فلسطين بالنسبة لحماس لا تتجاوز حالَ المسواك بين الأسنان.
الحركةُ لديها مشروعٌ أكبر من الجغرافيا الضيِّقة بين النهر والبحر، ومن الديموغرافيا الفلسطينية البائسة أيضًا. ربما يعود لجذورها الإخوانيَّة، أو لطموحٍ فى الأُمَميَّة الإسلاميَّة، تنقّلت بالرهان عليه من الجماعة الأُمّ، إلى «جبهة الصمود والتصدّى» مع سوريا الأسد وعراق صدّام وما بعد صدّام، ثمّ للعُثمانيّة الجديدة، ومعها الشيعيَّة الفارسيَّة المُسلَّحة تزامُنًا.
دعائيّة «الوَقف الإسلامىِّ» مُجرَّد حجَّةٍ لإبقاء الصراع أبديًّا، على شُركاء القضية قبل خصومها، ومُناطحة الوحش الصهيونىِّ إلغاءً بإلغاء، مع فارق أنَّ المُحتلَّ يفعلُ، والمُقاومَ يكتفى بالأقاويل وخُطَب المنابر العَصماء.
قلّصَتْ الأُمَمُ المُتَّحدةُ فلسطين إلى أقل من النصف فى قرار التقسيم، وأكلَ الصهاينةُ نصفَ النصف وأكثر فى الـ48 ثم يونيو 1967، واختزلتها الأُصوليَّةُ الإخوانيَّةُ الحماسيَّة فى 365 كيلو مترًا، تُمثِّلُ نقطةَ غزَّة فى بحر الدولة الضائعة على أىِّ مقياسٍ من الثلاثة: التاريخىّ والأُمَمىّ والإحلالىّ.
وفى العقول كما فى الجغرافيا، لُخِّصَ المجموعُ فى نزاعاته الفئويَّة، وجُيِّرَت الأخيرةُ لصالح المقاومة المُسلَّحة، واحتكرت حماس تمثيلَ الأخيرة حصرًا، وصارت بندقيَّةُ القسّامىّ غايةً فوق الغاية، وقضيّة قبل القضيّة. صارت أهمَّ من رُوح الغزّى، أىْ أهمّ من الوطن الذى لا قيمةَ للحجر فيه من دون بشرٍ.
والنضالُ من حيث كونه عملاً ديناميكيًّا مُتجدِّدًا، تُقولِبُه الحركةُ وتُجمِّدُ مفاعيلَه، وتفرضُ عليه تصوُّرًا نظريًّا مُتخشِّبًا، بانفصالٍ عُصابىٍّ وعِصابىٍّ عن التطوُّرات المُتلاحقة، وعن إلزاميَّة الاستجابة العقلانيَّة لها وفقَ الظروف والمُقتضيات، وبمطاوعةٍ لبيئتها اختيارًا، بدلا من أن تُفرَضَ عليها اضطرارًا لصالح العدو.
لم تشفَعْ الحركةُ صلابتَها مع الصهاينة بتنازُلاتٍ وطنيَّة جادّة وحقيقية، ناهيك عن أن تكونَ ملموسةً، فكأنها تخوضُ الصِّراع مع تل أبيب ورام الله بالعقليَّة نفسها، وبإرادةِ الوجود فوق المُنازعة ودونَها، وقبل الوطن فى أقلِّ تجلّياته الباقية.
تتوسَّعُ عرائضُ الغضب فى الشارع العِبرىِّ. وصلت لنحو 150 ألفًا من العسكريين والمدنيِّين والساسة والأكاديميين، لكنها لا تصلُحُ للرهان عليها من أيَّةِ زاويةٍ. الخلافُ بينهم على الأسرى لا الحرب، وكلُّهم ينظرون لحماس من منظارٍ واحد.
البَرَمُ اليهودىُّ الذى يُعوّلُ عليه الحماسيِّون، يُقابله بَرَمٌ شبيهٌ يرفضونه فى غزَّة، ويُكَتِّمون أصواته بالبطش والقهر، ما استطاعوا لهذا سبيلاً، ويُنكِّلون بالغاضبين وقادة ثورتهم.
وليس البحثُ هُنا فى الاتِّساق بين الخطاب والمُمارسة فحسب، بل فى الاستقامة التى تفرض على الوكيل أن يرتدِعَ للأصيل، وألَّا ينوب عنه فيما يقتضى حضوره، ولا أنْ يُمثِّله قسرًا أو على خلاف ما يراه فى مصالحه الحيوية.
الإسرائيليِّون فى النهاية يعرفون موعدًا للخلاص، ولو كان مُمتدًّا إلى الانتخابات العادية فى خريف العام المُقبل، لكنَّ الغزيِّين مُختَطَفون بين نارين: قاتلٍ وَقِحٍ، وسجّانٍ لا يسمحُ لهم بالتريُّض خارج مرمى بصرِه المحدود، ولا بالتداول فيما وراء قضبان الزنازين الخانقة.
يُنتَظَرُ أن يحلَّ ترامب ضيفًا ثقيلاً على المنطقة مُنتصفَ الشهر المقبل. يتشدَّدُ نتنياهو لأنه لن يخسرَ من تشدُّده، ويتعشَّمُ الحماسيون فى إملاءٍ أمريكىٍّ يستَبِقُ الزيارةَ بتمرير الهُدنة المأمولة من تحت أنف نتنياهو.
لكنَّ الذاكرةَ القريبة ما تزالُ مُعبّأةً بالدُّخَان وروائح الشياط، وقتما رفضت الحركةُ شروطَ الصفقة المطروحة عليها، فهدَّد الرئيسُ الذى لم يَكُن رئيسًا بعد بالجحيم، وكان الاتفاق على ما ظلّ مرفوضًا منها لشهورٍ.. وليس تفصيلاً عابرًا أنها كانت البنود نفسَها المطروحة فى الورقة المصرية واقتراح بايدن منذ العام الماضى.
لا عقلَ استراتيجيًّا، ولا رؤية واضحة، حتى لَيَبدو أنَّ الحركة ترتجِلُ المواقفَ ارتجالاً، وتتصارعُ الأجنحةُ فيها بتضارُبٍ ظاهرٍ بين المحاور والتحالفات: بين الخنادق والفنادق، وفى داخل كل فصيلٍ منهما أيضًا.
أوشكَتْ المخازنُ على النفاد، ما لم تكُن نفَدَتْ بالفعل. ما عاد السلاحُ حاضرًا للهجوم أو الدفاع، ويُوَلِّدُ الخسائرَ الماديَّةَ بأكثر مِمَّا يُعَزِّزُ موقعَ المفاوض السياسىِّ، أو يُرَمِّمُ شروخ المعنويات التى اتّسعت، ولا تتوقَّف عن الاتّساع.
ومع التفهُّم الكامل لأهميَّة المبدأ نفسه، فإنَّ الطريقَ للمقاومة ليس شرطًا أنْ تمُرَّ حصرًا من قناة حماس، والمُستجدَّات ربما تفرضُ عليها الهيكلةَ اسمًا ومبنىً، أو إعادة إطلاق نفسِها تحت عنوان جديد، وربما ضمن معمارٍ مُحدَّثٍ وأكثر رحابةً من فضاء الأيديولوجيا الضيِّق.
الإيمانُ بفلسطين يقودُ لقناعةٍ لا تتزعزعُ بأنها باقيةٌ دومًا، بالفصائل ومن دونها، أمَّا إيمانُ كلِّ فصيلٍ بذاته فقط، فلا يُؤَدِّى غالبًا إلَّا للانتحار، وتسليم القضية لِمَن بعده عند نقطةٍ أسوأ كثيرا مِمَّا تسلّمها من السابقين.
سيادةُ الفصائلية صورةٌ ناعمةٌ عن الاحتراب الأهلىِّ، ربما لا تتوافرُ الظروفُ اللازمة لتظهيرِه فى هيئةٍ خَشِنَة، لكنه يظلُّ واقعًا لا يُمكن إنكاره.
مَرَّ لبنان بالتجربة قبل نصف القرن، وكان يستعيدُ ذِكرى حربِه خلال الأسبوع الماضى، وما يزالُ حبيسًا فى تداعيَّاتها حتى اللحظة.
استُثنِىَ حزبُ الله من نَزع السلاح بعد اتفاق الطائف/ وثيقة الوفاق الوطنى، فأدخلَ البلدَ فى حربَيْن مجّانيِّتين، واستجلَب الاحتلال فيما وراء نهر الليطانىّ كما هى الحال الآن. كما زجّ بالبيئة اللبنانيّة المُركَّبة تركيبًا رخوًا، فى قلبِ دوَّامةٍ من الاستئساد والاغتيالات واقتحام العاصمة بالسلاح.
وقد رأينا بروفةً شبيهةً فى غزَّة مع انقلاب حماس قبل نحو عقدين، ولولا فجاجة الاحتلال لكانت أعلى صخبًا، وتلك فاجعةٌ كُبرى أصلاً، أنْ تكون المأساةُ مع الصهاينة حائلاً عن مأساةٍ أكبر بين الأشقاء. وأن يُهرَب من الحالات البائسة، إلى إحالات لا تُؤازرها قرينةٌ واحدة، ولا تُقصِّر محطّة فى تخطئتها وإثبات عوارها المُشين.
ظلَّ حسن نصر الله قابضًا على جَمر الخُطَب النارية، منذ افتتاح «حرب الإسناد والمشاغلة» بعد الطوفان، حتى طمرته قنابلُ الإسرائيليِّين تحت رُكام الضاحية.
تكبَّد لبنان خسائر تفوقُ طاقتَه، واضطرَّ ورثةُ الأمين العام للنزول عن الشجرة، وتفويض الأخ الأكبر نبيه برّى فى التفاوضِ باسمهم. ومع اتفاق وقف الأعمال العدائية أواخر نوفمبر الماضى، أقرّوا عَمليًّا بالقرار الأُمَمىِّ رقم 1701، وضِمنيًّا بنَزع سلاحهم وحَصر أدوات العنف واحتكارها لصالح الدولة، ثمَّ عادوا مُؤخَّرًا لِمَا يُشبه الخطابَ القديم، وحفّزوا عناصرَهم على التهديد والوعيد، والتلويح بقَطع اليد التى تمسّ قدراتهم الحربيَّة، على الرغم من انكشافها الصارخ فى الميدان.
ولا يُفهَمُ الرجوع لِلّغة القديمة، إلَّا اتّصالاً بالمُفاوضات الأمريكية الإيرانية على برنامج طهران النووىِّ، والاستمساك بنظريّة الدفاع المُتقَدِّم ضمن أوراق المُقايَضة المُحتَمَلة، والخطر من أن يكون التصوُّر لدى حماس نابعًا من تلك الأسباب أيضًا.
أفضى السنوار إلى ما قدَّم، لكنَّ جَردةَ الحساب تُرجِّحُ أنه كان رصاصةً فى بنادق الآخرين، وتكتيك ضئيلٌ فحسب ضمن مُناورةٍ قتاليَّةٍ كُبرى. ربما تعجَّلَ الميقات، أو خُذِلَ من الحلفاء على خلاف الوعود السابقة، إنما المُحصِّلةُ أنه أدار لُعبةً أكبر منه، ومن غزَّة وأهلها.
وعندما يحينُ أوان الوفاء بمُستحقَّاتها الثقيلة، فليس من البطولة أن يُوضَع الناسُ فى الواجهة، ولا أن يتترَّس ورثَتُه بسرديَّة النصر، ولا دليل عليها، اللهم إلا أنهم يُقيِّمون برُؤيةٍ تنظيميَّة مُغلَقَة، ولا يعدّون الغزِّيين بين التزاماتهم العَمَليَّة، أو يحشدونهم تحت عنوان «الخسائر التكتيكية»، كما صرَّح خالد مشعل بالفعل فى وقتٍ غير بعيد.
لن تتغيَّر الأوضاعُ قبل غياب نتنياهو، كما لا أملَ فى وجود حماس. يحتاجُ القطاعُ إلى قيادةٍ مُتجرِّدة، وإلى استراتيجيَّةٍ لا تُغفِلُ التكتيك، ولا تغرق فيه حتى الاختناق.
تمريرُ الوقت تحت سقف الهدوء ربما يُحفِّزُ التفاعلات السياسية فى الداخل العِبرىِّ، أو على الأقلّ يصلُ بالمشهد إلى محطَّة الانتخابات بأقلِّ قَدرٍ من الأضرار، ودون ذرائع أو بطولاتٍ وهميَّة يَعُدّها الليكود بين مُنجزاته وبرنامج ترشُّحه المُقبل.
الهُدنةُ لم تَعُد مهمَّةً من زاويةٍ إنسانيَّةٍ فحسب، وتلك وحدها تكفى، لكنها شديدةُ الأهميَّة لجهة إفساح المجال للاصطفاف الوطنىِّ، وتمكين مشاريع التعافى وإعادة الإعمار من بدء الدوران، والأهم على الإطلاق استعادة الأمل لدى الغزِّيين، حتى لا يختاروا الهروبَ تحت الضغط، حالما تُفَعِّلُ إسرائيلُ مشروعَها للتهجير وسط أجواءٍ قاسية ومُستقبلٍ غامض.
يقولُ الحماسيِّون إنَّ نتنياهو يريدُ الحرب لا الأسرى، ويقتلُ رهائنَه بيده ليتحلَّل من ضغوط عائلاتهم، لكنهم لا يُواكبون الفِكرةَ بالعمل، ولا يُسوِّقون بديلاً لجمهورهم قبل الآخرين.
والأصلُ أنهم لو كانوا عاجزين عن إنتاج الأفكار، فالتنحِّى وتجديد دَمِ القيادة يصيران فريضةً لا فضيلة. وإذا كانت كلُّ تصوُّراتهم تنصرِفُ للعودة إلى السادس من أكتوبر، فعلامَ كان الطوفان أصلاً؟! وإذا كانت الكيانيَّةُ الواحدةُ مُهدَّدةً فى وجودها كما لم يكن فى أيَّة مرحلةٍ سالفة، فما نَفعُ الفصائليَّة والرايات المُتصارعة لو انتصرت إحداها على الأخرى؟!
غابَ العقلُ قَبلا، وتغيبُ الشجاعةُ والخيال رَاهِنًا. والذى كان جزءًا من المشكلة لن يكون طريقًا إلى الحلِّ.. وكما يَصدُق هذا على النازىِّ الوقح بنيامين نتنياهو، فإنه يَصدُق على الأُصوليَّة الساذجة أيضًا.
Trending Plus