عبد الرحمن الأبنودي.. شاعر الدراما الإنسانية

في تاريخ الشعر العامي المصري، يقف عبد الرحمن الأبنودي كعلامة فارقة ومتفردة، ليس فقط لأنه امتلك لغة بسيطة تنبض بالصدق، ولكن لأنه أعاد تعريف القصيدة الشعبية، فجعل منها نصًا إنسانيًا حيًا، أقرب للمشهد الدرامي أو الصورة السينمائية، فلم يكن شاعرًا تقليديًا، بل كان راوٍ كبير، يحكي بقلب الفلاح وعين المثقف، فاستحق أن يُلقب بـ "الخال"، لا باعتباره شاعر الجنوب فقط، بل لأنه أصبح صوت مصر كلها، بشوارعها، وناسها، وجروحها، وأحلامها.
وُلد الأبنودي عام 1938 في قرية أبنود بمحافظة قنا، وسط بيئة مشبعة بالحكايات الشعبية والطقوس الصعيدية، والتي شكّلت وجدانه الشعري لاحقًا، كان الصعيد بالنسبة له ليس مجرد مكان، بل نبع دائم للإلهام، بكل ما فيه من تضاد "القسوة والطيبة"، "الجمال والمعاناة"، "الفخر والانكسار".
لكن الأبنودي لم يكن شاعرًا محليًا، بل حمل هم الوطن كله. كتب عن نكسة 67 وانتصار 73، كتب للأم والطفل والعامل، وتغنى بأحلام البسطاء، كما صرخ من أجلهم في وجه الظلم والتهميش، أغنياته الوطنية التي قدمها مع عبد الحليم حافظ مثل "عدى النهار" و"أحلف بسماها"، ما زالت تلامس قلوب المصريين حتى الآن.
ما ميّز الأبنودي حقًا هو قدرته الفريدة على تحويل القصيدة إلى حكاية، فلم تكن قصائده تعتمد على الزخرفة أو الغموض، بل كانت أشبه بصفحات من رواية أو مشهد من فيلم، استخدم العامية المصرية، لا كأداة للتبسيط، بل كلغة أدبية قادرة على التعبير العميق والمعقد.
في ملحمته الشهيرة "جوابات حراجي القط"، يصوغ الأبنودي قصة عامل بسيط في السد العالي يكتب لزوجته فاطنة، كاشفًا من خلال هذه الرسائل أبعادًا اجتماعية، وإنسانية، وسياسية شديدة العمق. لم تكن القصائد مجرد خواطر، بل رسائل مشبعة بالمشاعر، نُقلت بصوت راوي يعرف كيف يُمزج الحنين بالوعي، والصدق بالحكمة.
الأبنودي بشكل عام، لا يكتفي بعرض القصة، بل يحفر في دواخل أبطاله، يرصد تصرفاتهم بلغة سينمائية، تتنقل بين الحوار والمونولوج الداخلي، ليصنع من قصيدته نصًا يتجاوز حدود الشعر، ويمتد ليصبح سردًا روائيًا محكم البناء.
لم يكن الأبنودي شاعرًا فقط، بل كان أيضًا باحثًا في التراث الشعبي، وأحد أهم من ساهموا في جمع وتوثيق السيرة الهلالية، وهي من أعظم السير الشعبية في التراث العربي، قضى سنوات طويلة من عمره في الصعيد وسيناء وجنوب مصر، يسجّل الروايات الشفهية من الحكّائين والمنشدين الشعبيين، ليحفظ هذا الإرث من الضياع، هذا الانغماس في الموروث الشفهي انعكس بقوة في شعره، وظهر بوضوح في دواوينه، حيث تتداخل الملحمة الشخصية بالبنية السردية الشعبية، ليصنع من قصيدته صورة ملحمية تمتد جذورها في أرض الحكاية المصرية العتيقة.
الأبنودي لم يكتب قصائد تُنسى بعد قراءتها، بل كتب مشاهد تبقى في الوجدان. خلدته الذاكرة الشعبية لأنه لم يتعالَ على الناس، ولم يكتب عنهم، بل كتب منهم. كانت كلماته مرآة لواقعهم، وأداته الشعرية لم تكن ترفًا أدبيًا، بل سلاحًا في وجه القهر، وأغنية في أوقات الأمل.
لم يكن الأبنودي شاعر مظاهرات فقط، بل شاعر أمة، شاعر وطن، وشاعر التفاصيل الصغيرة التي تمنح الحياة معناها الحقيقي، استطاع أن يحتفظ بصدق الموهبة، ونقاء اللغة، وحسّ الراوي الشعبي، فجعل من شعره تراثًا حيًا لا يموت.
في النهاية، لم يكن عبد الرحمن الأبنودي مجرد شاعر، بل كان "صوتًا" حقيقيًا للناس، صوته لم يكن عاليًا، لكنه كان صادقًا، وعابرًا للزمن، كتب القصيدة كمن يكتب وصية، أو يغني، أو يُحكي سيرة، فجعل من كل حرف كتبه مساحة للناس، وسكن في قلوبهم إلى الأبد، لذلك، يبقى حيًا رغم الرحيل، جزءًا من روح هذا الوطن.
من أبرز محطات الأبنودي في مسيرته علاقته العميقة مع رمزين من رموز الفن المصري: صلاح جاهين وسيد مكاوي، جمعته بجاهين صداقة فكرية وإنسانية، حيث آمن جاهين بموهبته مبكرًا وقدمه إلى الساحة الثقافية، وكان يرى فيه "الابن الصعيدي" الذي أكمل ما بدأه من تجديد في العامية، أما سيد مكاوي، فقد جمعت بينه وبين الأبنودي روح مشتركة، ترجمت إلى أعمال غنائية وإنسانية، امتزج فيها الشعر بالموسيقى بشكل عضوي، كلاهما كان يحمل هم الناس، ويبحث عن الجمال في الحياة البسيطة.
ويا لها من مصادفة حزينة ومعبرة، أن يرحل الأبنودي في 21 أبريل 2015، في اليوم ذاته الذي رحل فيه صلاح جاهين عام 1986، وسيد مكاوي عام 1997، تعاون الثلاثي فيما بينهم في أعمال كثيرة، لكن صداقتهما تجاوزت حدود الفن، كانت صداقة بين أرواح متشابهة في العشق، في الحزن، في الاحتفاء بالحياة، وكأن أرواحهم أرادت أن تلتقي مرة أخرى، كما كانت دائمًا متشابكة في الحياة والإبداع.
Trending Plus