ميلاد أشرف الخلق.. كيف تحدث عنه العقاد فى عبقرية محمد

عندما يصف العقاد شخصًا بأنه عبقرى، فهو يعنى تلك الصفة، التى من الصعب أن يصل إليها أحد، لكنه عندما يصف بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فالأمر يختلف، فالعبقرية شملت حياة النبى بأكملها، فى الدعوة للإسلام، وفى قيادة الغزوات، وفى إدارته للدولة، وفى تعامله مع أهل بيته، وفى ذكرى ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم، الموثقة حسب التقويم الميلادى، نُلَخِّص ما قاله العقاد فى هذا الكتاب.

في هذا الكتاب المكون من 14 فصلاً، اهتم الأديب والمفكر عباس العقاد، بتحليل شخصية ومواقف سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومقارنتها ببعض الأحداث فى العصر الحديث، ثم عمد إلى الرد على بعض الشبهات، التى أثارها بعض المؤرخين المستشرقين والأوروبيين، والتي سنسردها في السطور التالية.

يحكي العقاد في مقدمة كتابه، عن السبب الذي دفعه للكتابة عن حياة النبي، وهي واقعة حدثت قبل كتابة تلك الصفحات وإصدار الكتاب بأكثر من 30 عاما، ففي أيام الاحتفال بالمولد النبوي، كان العقاد يجتمع مع بعض الأدباء، يتحدثون عن السيرة النبوية، وما يكتبه المستشرقون عنه، وكان كتاب "الأبطال" لتوماس كارليل، هو موضوع الجلسة يومها، إذ أورد الرجل فصلاً عن النبي، وجعله نموذجًا للبطولة، لكن أحد الشباب الموجودين -والذي يراه العقاد لأول مرة- انبرى ينتقد النبي، ويسيء إليه، وكان من بين ما قال، أن بطولة النبي بطولة سيف ودماء، ومع رفض الجميع لحديثه ونقدهم له، بدأ يتراجع عن موقفه، وغادرهم بعدما حاول إصلاح الموقف بكلام -ظنه مقبولاً لدى الحاضرين- لكن النقاش لم ينتهِ هنا، إذ انبرى الحاضرون يتساءلون لمَ يقتنعون بما يكتبه كارليل وأمثاله عن النبي وهم كتّاب غربيون لم يعرفوه كما عرفه العرب.

ولم يكن طه حسين ومحمد حسين هيكل -مع حفظ الألقاب- مشهورين كشهرتهما فيما بعد، ولم يكن كتاب "حياة محمد"، أو "على هامش السيرة" قد صدرا في تلك الفترة، وكان المثقفون يميلون إلى قراءة الكتب الإفرنجية، لتطورها وحداثة أسلوبها، وكان المستشرقون يكتبون عن النبي بأسلوب جديد ومختلف على القارئ العربي، ليقترح بعض الحاضرين على العقاد، أن يكتب عن النبي بأسلوب يناسب العصر الحديث، وهو قبل أن يكتب، لكنه أصدر كتابه بعد 30 سنة من تلك الواقعة، إذ استدعى الأمر منه دراسة وافية، ووقتًا لكتابة أفكاره، ليصدر الكتاب للقارئ العربي عام 1942.

وهو في الحقيقة كتاب ممتع، فالعقاد لم يسرد فيه سيرة النبي كما سردتها كتب التاريخ، وإنما اهتمَّ بتحليل شخصية النبي ومواقفه، في البداية تحدث عن علامات مولد النبي، وأوضح أن الفوضى والمؤامرات الداخلية التي يعاني منها الروم، والفرس، والأحباش، والأخطار التي تحيط بالعرب، من سيطرة الفرس على جزء من البلاد، وطمع الروم في السلطة على مكة، واستغلال طموح أحد القرشيين في جعل مكة مملكة تدين للروم، وأبرهة الذي يسعى لهدم الكعبة، لكنَّ الخطر الذي تواجهه العرب لم يكن من الخارج فحسب، فوأد البنات، وتجبُّر الأقوياء على الضعفاء، والأوثان التي اتخذوها آلهة لهم مع الله.. كلُّها أخطار وفوضى كانت تحتاج إلى مَن يمنع استمرارها، وليس هناك مَن يصلح لهذا سوى نبيٍّ كمحمد -صلى الله عليه وسلم-، لكن الكاتب قبل أن يتحدث عن النبي، تحدث عن نسبه، إذ اختاره الله من قريش، فهي قبيلة اشتهرت بين العرب بالتجارة وحماية الشعائر الدينية للعرب، وقد اصطفى الله عبد المطلب بن هاشم، ليكون جدًّا للنبي، رجل عرِف بإيمانه، وخلُقِه الحسن، وشجاعته، رجل نذر إن رزقه الله بـ10 من الذكور، أن يذبح أحدهم عند الكعبة، فلمّا ضرب القداح وقع الاختيار على أحبِّ أبنائه إليه، فلم ينتهِ حتى أحلته العرّافة بأن يضربوا القداح عليه وعلى الإبل، حتى بلغت الـ100، لينجو عبد الله، أحبُّ الأبناء إلى قلب أبيه، شابٌّ عُرِف بدماثة خلقه وطهارته، ولم يقضِ مع زوجته أكثر 3 أيام، ثم سافر في التجارة ومات، بعد أن زرع في آمنة ثمرة زواج لم يطل، وكأنه جاء إلى الدنيا لمهمة محددة ثم فارقها.

ثم راح الكاتب في باقي الفصول، يتحدث عن الإسلام وكيف نُشِر، ففي الفصل الثاني، تحدث عن خطوات النبيِّ لنشر الدعوة، وفي نفس الوقت كان يرُدُّ على مَن كانوا يثيرون الفتنة ويشيعون فكرة "الإسلام نُشِر بحدِّ السيف"، فكيف لنبيٍّ كان يدعو إلى الإسلام سرًّا أن يجبر الناس على دينه بالسيف؟، إن كانت القِلّة المسلمة في مكة قد رفعت السيف لإكراه ذويهم على الإسلام، فلِمَ لم يردّوا الأذى عن أنفسهم؟، إن كان النبي قد رفع السيف في بداية دعوته، كيف تحمَّل إيذاء أبي جهل وعمِّه أبي لهب دون أن يرُدَّ أذاهم عنه؟ ثم ذكر الكاتب قصة إسلام عمر بن الخطّاب، رجل توشَّح سيفه عازمًا على قتل النبي، ثم إسلام عنقه لبني هاشم ليقتصوا منه، لكنه أسلم بعد أن قرأ جزءًا من سورة طه، أسلم عندما علِمَ أنه على خطأ.. انظر في قصة عمر بن الخطّاب جيدًا، هل رفع أحدهم السيف في وجهه ليُسلِم؟، حتى عندما رفع النبي وأصحابه السيف، لم يرفعوه إلا بعد نزول الآيات التي تأذن لهم بالقتال، لرفع الظلم الذي لحِق بهم من قومهم.

من هنا بدأ الكاتب في الحديث عن عبقرية محمد -صلى الله عليه وسلم- العسكرية، وبدأ يقارن بين قيادة النبي للمسلمين في الحروب، وبين قيادة نابليون وهتلر، إذ يعتقد المؤرخون بأنَّ نابليون من أعظم قادة العصر الحديث، أما ذكره لهتلر، فلأنَّ الحرب العالمية الثانية كانت الشغل الشاغل للمواطنين في تلك الفترة، والكتاب كان يُكتب في تلك الفترة.

ومن بين ما ذكره الكاتب أنَّ بعض المعارضين لنابليون شبَّهوا اختطافه للدوق دانجان وقتله للشاعر كولريج بحادث قتل كعب بن الأشرف، وهنا أوضح الكاتب أن نابليون لم يكن داعيًا لرسالة، وأنَّ معركته مع أعدائه معركة سلاح، أما النبي، فلم تكن رسالته يومًا بالسيف، وإنما هي موعظة حسنة، لكنَّ بعض المعارضين للدعوة الإسلامية، كانوا يهجون النبي، ويسيئون إلى نساء المسلمين، فكيف يرد المسلم مَن يهين دينه؟، كيف يرُدُّ الرجل الحُرُّ الأذى عن عرضه؟

كما ذكر الكاتب مشاورة أصحابه في الحرب، وأخذه برأي الحُباب بن المنذر في غزوة بدر، ورأي سلمان الفارسي لحماية المدينة من المشركين في غزوة الخندق، وهنا أورد الكاتب أن نابليون خالف مجلس حربه وكان مقتنعًا بأنَّ القيصر سيطلب الصلح بعد انسحاب الجيش الروسي أمام جيشه، وقد وقع هتلر في خطأٍ مشابه، إذ كان على خلاف مع مجلس حربه، وكان مقتنعًا بأنَّ الشعب الروسي ينتظر مَن يساعده ليثور على الشيوعيين، أراد الكاتب من ملال سرد تلك المواقف وغيرها، أن يخبر القارئ بأنَّ النبي قد سبق قادة العصر الحديث بخططه الحربية، وأنه كان يتمتع بفراسة لا مثيل لها، إذ علِم عدد جيش المشركين من خلال عدد الإبل التي كانوا ينحرونها للأكل، وإرساله لسَرية عبد الله بن جحش للاستطلاع، والتي ذكر الكاتب من خلال تلك القصة أن الرجل لا يستطلع وهو مُكرَه، ووصية النبي للصحابيِّ الجليل بألاّ يكره أصحابه على شيء، تدُلُّ على هذا المعنى، وما حدث من تبعات تلك الحادثة من قتال مع قريش، وقتل عمرو بن الحضرمِيِّ، واستنكار النبيِّ لمخالفة الصحابة لأمره، ثم ثورة قريش وتأليب العرب على النبيِّ ودعوته، بحجة مهاجمتهم للقافلة في الشهر الحرام، لتنزل الآية بتحريم القتال في الشهر الحرام، وتبَيِّن أن إخراج المسلمين من المسجد -والمقصود بها مكة-، وفتنتهم عن دينهم لهو أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. ثم يورد عبقرية النبيِّ في حلِّ الأمر، حين طلبت قريش فداء أسيريها، رفض تسليمهما حتى تُسَلِّم قريش صاحبيه.. ومن خلال القراءة نعود فنطرح نفس السؤال: كيف لنبيٍّ  استنكر على أصحابه القتال في الشهر الحرام؛ حفاظًا على عادات العرب واحترامًا لشعائر دينهم، أن يرفع السيف في وجه مَن يدعوهم إلى الدين؟

في فصول متقدمة يتحدث الكاتب عن معاملة النبيِّ لزوجاته، ويردُّ على نقطة تعدُّد الزوجات التي يثيرها البعض، ويُرجعون سبب تعدُّده إلى أنه كان رجلاً يشتهي النساء، لكنك في الحقيقة عندما تبحث في سيرته -صلى الله عليه وسلم-، تُفاجأ أنه لم يتزوج بكرًا إلا عائشة -رضي الله عنها-، أمّا مَن تزوجهنَّ من النساء، فقد تعددت أسباب زواجه بهِنَّ -رضي الله عنهنّ- ما بين تأليف للقلوب كجويرية بنت الحارث، وإعتاق للسبايا كصفية بنت حُيَيّ، وإنقاذ مِنَ الغربة أو الفتنة عن الدين كسودة بنت زمعة ورملة بنت أبي سفيان، حتى زينب بنت جحش، تزوجها بأمر من الله، لإباحة زواج الأرجل من زوجة ربيبه، حتى السيدة خديجة أم أبنائه وأحبهنّ إلى قلبه، فكانت أكبر منه بـ15 عامًا، وتزوجها قبل البعثة، ولم يتزوج بأخرى في حياتها.. فكيف لرجل كانت أسباب زواجه كأسباب زواج النبيِّ يقال عنه أنه رجل يشتهي النساء؟، إنها صفة لم يجرؤ المشركون على وصفه بها.

ثم يتناول حادثة الإفك ويصف أسلوب تعامل النبيِّ مع السيدة عائشة، وزيارته لها في مرضها، رغم ما يُرَدِّده الناس في حقها، وتجنبه لسؤالها عمّا يقال وهي في المرض، بل وأذِن لها بالذهاب إلى أهلها ولم يحبسها.. حتى عندما فاتحها فيما جرى كان مترفقًا بها، لم يكن قاسيًا ولا متجبرًا، بل إنك عندما تنظر في أحداث القصة، تجد جاريتها لا تقول عنها إلا خيرًا، وضرائرها لا يقلن عنها إلا خيرًا، وعليٌّ -رضي الله عنه- لم يُكذِّب ولم يُصَدِّق، وإنما أشار على النبيِّ بمفارقتها، ولم يُشِر بقتلها كما يفعل بعض أهل هذا العصر.

كما ذكر الكاتب حسن معاملة النبيِّ مع أصدقائه، خدمه ومواليه، فهو يُمازح أنس بن مالك، ويزوج زيدًا لزينب بنت جحش، ابنة عمته.. ثمَّ لأمِّ أيمن، الجارية التي ربَّته وهو غلام، ويختار ابنه أسامة ليقود جيش الشام.. كما يذكر عمل النبيِّ في بيته، فهو يشارك في أعمال البيت كباقي أهله.. كما ذكر معاملته لأبنائه، وحزنه على وفاة ابنه إبراهيم، ووصف حزنه، إذ بكى ولم يصرخ، ونهى أسامة بن زيد عن الصراخ.

إنك عندما تذكر أخلاق النبيِّ لا تجد ما يُوَفّي حقه من كلمات، لكنك تحاول إخبار الناس بأنَّ رجلاً كهذا لم يجبر الناس يومًا على دخول الإسلام بالقوة.