هكذا يبصق نتنياهو على إسرائيل.. الأسرى وجيل السابرا ومأزق التقويض من الداخل

يعرفُ الإسرائيليون حكومتهم أكثر من غيرهم، لكنهم لا يتوقفون عن الاندهاش مع كلِّ نقيصة تُصرِّح بها، وأمام كلِّ انحطاطٍ جديد تُمارسه بقناعةٍ راسخة. نتنياهو ليس غريبًا عن بيئته، ولا كانت أوَّل تجربةٍ يُوسّدونه فيها مقعد الحكم. والتوراتيِّون وأحزاب المستوطنين تفجّرت اندفاعاتهم الهائجة من عروق الدولة العبرية وقلبها العميق، وعبّرت عن سيكولوجية الضباع الكامنة فى روح كل مواطن فيها.
وعلى عُمق ما يُستشعَرُ لدى الجمهور من صدمةٍ وغضب، فقد يكون انفعالاً مفهومًا بحسب السياق الراهن، لكنه ليس مُبرّرًا على الإطلاق. مُجرَّد ندمٍ عابر، أو توبة مُتأخّرة، يحطُّ من صدقيتها أنَّ التائبين ما زالوا على قناعاتهم الوضيعة من دون تغيير.
عندما اغتيل رابين فى ساحة «ملوك إسرائيل» قبل ثلاثة عقود، كان منطقيًّا أن يُحمَل الشَّطبُ الخشن لرئيس الحكومة على كونه عملاً فرديًّا، وتعبيرًا عن نزعة مُتطرِّفةٍ تسهل مُداواتها، وإبراء المجتمع من آثارها بعيدة المدى. إنما حدث العكس تمامًا، بكتابة شهادة وفاة اليسار المُؤسِّس مع تشييع الجثمان، وتصعيد اليمين سباحةً فى الدم، حتى تربَّع بصخبه المُثير للعواطف فوق جبل صهيون.
أراد الناخبون بملء إرادتهم أن يُحدثوا قطيعةً مع ماضيهم القريب، وهو لم يكُن مثاليًا على أيَّة حال، لكنه كان قادرًا لَجم المخابيل نسبيًّا، وتحييد التوراة قليلاً لصالح البراجماتية والعقل. إنه قرارُ التحول الذى اتُّخِذَ بأغلبيَّةٍ واضحة، ويُدفَعُ ثمنُه الآن، وسيُدفَع المزيد منه لعقودٍ مُقبلة.
الفكرة من جذورها غريبةٌ وغامضة. تشويهٌ مقصود لإحداثيات الجغرافيا والتاريخ، ومحاولةٌ لاصطناع حكايةٍ موثوقة ومُقنعة من العَدَم. الشتات الذى يُجَمَّعُ برباط العقيدة وحدها، والأرض المسلوبة من ساكنيها، والعيش المفروض فرضًا على حدِّ السكّين.
ثلاثيّةٌ لا يُمكن إلا أن تُولِّدَ النزاعات من دون انقطاع، وأن تظلَّ الدولة الناشئة عنها فى مواجهةٍ وجوديَّة مفتوحة، لأنها بالإسناد الغربى الكاسح أكبر من أن تُبتَلَع، وبضآلتها الذاتية وضخامة خصومها تظلُّ أقلَّ من أن تبتَلِعَ مُحيطَها الواسع، فضلاً عن أن تهضمه. ومن يومها تتوالى الوقائع بالوتيرة نفسها، لا تبلَعُ ولا تتقيأ، ولا يتغيَّر مَوضعُها المحشور حَشرًا فى بلعوم المنطقة.
كلُّ الصهاينة يَمينيِّون بالأصل والمُمارسة. تفاوتُ الخطابات مُجرّد تنويعةٍ على نصٍّ واحد، وحتى يسارهم يُكاتفُ النزعات المحافظة لدرجة العناق. فكرةُ الدولة الدينية آتيةٌ من أعماق اليمين الساحقة، واستلابُ أرض الغير وتطهيرها منهم، والإيمان ببلدٍ من دون دستورٍ مكتوب ولا حدودٍ واضحة، وبهُويَّةٍ سائلة تُلفِّقُ أصلاً واحدًا للآتين من كلِّ جهةٍ ولون.
كلُّها أماراتٌ على أنه لا ملائكة بينهم، ولا بشر طبيعيين أيضًا. الأحياء منهم غادروا، أو لم يقدُموا أصلاً، والباقون جميعا يأكلون فى أطباق الآخرين، ويختلفون على المسؤولية عن الذنب.
وإذ لا يُنكَرُ أنَّ فيهم غاضبين يستنكفون الهولوكوست المفتوح على غزّة، فإنهم أقليَّةٌ تُمرِّر للأغلبية أهدافها، وتُحَسِّنُ الصورة الجماعية بإثبات صورةٍ مُراوغة عن الديناميكية والاختلاف. ربما يرفضون جرائم الجيش ضد الفلسطينيين، لكنهم ينتفعون من آثارها، ولا يختلفون على جوهرها العميق.
مجرّد بحث فى تحسين ظروف الاحتلال لا إنهائه، وفى ترشيد القتل لا إدانته بالكلية. وجميعهم مُتّفقون على ذَمِّ المقاومة ووجوب إفناء حماس، وعلى حقِّ إسرائيل فى أن تعيش على حقوق الآخرين، وألَّا تبحث فى رَدِّها، وأكثرهم إنصافًا يقضى للمُلَّاك الأصليِّين بالفتات، أو بالإقامة تحت شروطٍ مُشدَّدة من التقويض والاستعباد، وتغييب الحق فى تقرير المصير.
انفعلوا جميعًا بالطوفان، وطلبوا الثأر تصريحًا أو بالصمت الأليف. ولعلّهم افترضوا أن تنقضى المهمَّة المُقدّسة تحت سقف التعادُليّة فى الخسائر، لكنَّ انفراط عقد القتل أجبر الأكثر حياءً منهم على الامتعاض.
تعود المسألة فى جانبٍ إلى تقدير المصلحة الإسرائيلية نفسها، وليس صالح الضحايا أو دمهم المسفوح ظلمًا. بعضهم يُراعون اختلاطهم بالدوائر الغربية وعلاقاتهم الشخصية مع الخارج، وآخرون تحكمُهم اعتبارات المهنة كما فى حال الصحفيين والباحثين وكُتّاب الرأى.
ولا يخلو طرحٌ لهؤلاء جميعا من إدانةِ الفصائل أوّلاً، وربما التعريض بالهمجيّة العربية عمومًا، وتثبيت الحق فى الدفاع عن النفس، وفى تطهير الأرض المُحتّلة من الفصائل والمقاومة بكلِّ صورها.
وإذا كان المشهد غامضًا مع حماس ورفيقاتها، فإنه أوضحُ ما يكون فى الضفَّة الغربية، ومع سُلطة رام الله التى ما تزال مُلتزمةً بمندرجات أوسلو، وليس أفضل منها لو صدقَ البحثُ عن بديلٍ لمُقاسمته مشروع السلام، لكنه الرأى المُوحَّد المخبوء تحت الجِلد، ولا فارق فيه بين أكاديمىٍّ ومُقاتل، إلَّا فى مسار تصفية القضية وآليَّات الإلغاء والطرد.
ليست قسوةً على الإطلاق، ولا تعميمًا من تلك التعميمات التى تُفضى إلى التنميط والاختزال وتغييب التمايُزات. حتى حركات السلام لديهم تلعبُ فى الهامش الآمن ومحلِّ الاتفاق. لم يُجاهر أحدٌ منهم بحقِّ الفلسطينيين فى دولةٍ كاملة الأهليّة، مُستقلّة ومُسلَّحة وذات شخصية اعتبارية وعلاقاتٍ مُنفتحة على محيطها والعالم.
لا يُقال هذا على سبيل الرياضة الذهنية، ولو كان مستحيلاً وغير قابلٍ للتطبيق أصلاً. جميعهم يريدون نَسقًا من الوجود المُخفَّف، الباهت، ومنزوع الدسم، وفى تلك التركيبة لا يختلف الحضور عن الغياب، ولا الاحتلال عن الاستقلال المحدود. أو الحياة وراء الأسوار ومعابر التفتيش، عن القتل فى الشوارع والمُعتقلات.
صدمةُ الصهاينة اليوم ليست فى منسوب التوحُّش وأعمال الإبادة، ولا من بحور الدم التى يسبح فيها أولادُهم الضبّاط والمُجنّدون من غزّة إلى الضفّة وجنوب لبنان. الترويع غير المسبوق ناشئٌ عن الانقلاب الصارخ وغير المُتوقَّع فى دين الدولة، وأنها لأوَّل مرّةٍ تُضحِّى بالدم اليهودىِّ الطاهر، تغليبًا للشهوة والافتتان بالفطيرة التى تعجنها من لحم الغزِّيين وشرايينهم المفتوحة.
لا يُصدّق الرومانسيِّون فى إسرائيل أنَّ وعد الوطن الآمن ينقلبُ إلى صفقة يديرها أحطُّ تيَّارات اليمين لحسابه الخاص، ويُفرِّط فى الرهائن استعجالاً للإبادة، بينما بإمكانه أن ينزل عن الشجرة ليستعيد أبناء داود من قبضة الأغيار، ثم يعود لإباداته الاعتيادية المُتكرِّرة.
الاستفاقةُ المُتأخرة، وجرحُ الضمير النازف، إنما ينصرفان إلى الأسرى لا ضحايا الوحشية الإسرائيلية. الجميع يُطالبون باسترداد النفائس اليهودية المخبوءة فى أنفاق غزّة، ولو كان المقابل وقف الحرب والتراجُع عن أهدافها المُعلَنة.
الحروب ليست مكروهةً لذاتها، والانزعاج من مملكة التوراة التى تطردُ شعبَها من رحمتها الداخليّة الواسعة، أكبر وأعلى من أىِّ انكشافٍ أخلاقى، أو انزعاجٍ من كونها ترتدُّ من حال الدولة إلى العصابة، ومن الأُمَّة المَدنيّة الحداثية الناضجة فكرًا وسلوكًا، إلى قطيعٍ هائج من الضباع التى تختزلُ وجودَها فى فناء الآخرين، وتتعيَّشُ على النهش والافتراس.
إسرائيل تنتحرُ مع سبق الإصرار، لا لأنها تُعَمِّق أزمتَها مع جوارها اللصيق وما وراءه فحسب، بل لأنها تنقلِبُ على نفسها أوّلاً، وتُعمِلُ توحُّشَها فى رقاب شعبها قبل الآخرين، وتُحوِّلُ العلاقةَ معهم من تعاقُدٍ على الأمن والحماية، إلى صفقةٍ تُبتذَلُ فيها القيمة لأجل المنفعة، وتُختَزَلُ الأخيرة فى حكومةٍ وأيديولوجيا وشخصٍ بعينه، فيصير الذاتىُّ أَولَى من الموضوعى، والخاصُ مُقدَّمًا على العام.
وبهذا، فإنَّ ما كانوا يُباهون به من تمايُزٍ على محيطهم العربى، وسَبقٍ فى التمدُّن والرمزيّة الأخلاقية، يتداعَى أمام أعينهم فى ميدان القتال أوّلاً، ثم فى ساحة السياسة وآليات الضغط والتقويم المجتمعى.
يفتقدُ الجمهور قوّتَه الفاعلة، والمُلازمة له دومًا من دون انقطاع، أو هكذا يُفتَرَض. يصير الفردُ مُجرَّد صوتٍ فى صندوق الاقتراع، وبندقيّة على الجبهة، ووقود لمحرقة المصالح، وصناعة الأساطير الخاصة لِمَن وثبوا على المشروع الجماعىِّ، وخصخصوه لصالحهم حصرًا.
وجيعةُ الصهاينة ليست فى نتنياهو بالتحديد، بل فى اكتشاف أنَّ الفكرة التى ظلّوا يتخيّلونها بيضاء تتحوَّل إلى الرماديّةٍ الكابية بوتيرةٍ مُتسارعة، وأنَّ ما أتلفوه بتصعيد اليمين المُتطرّف ربما لا يسهُل استدراكُه، وقد لا يعود قابلاً للإصلاح من الأساس.
كأنَّ الميثاق الذى تجمَّعوا عليه، وتأسَّست الدولةُ تحت سقفِه العالى، يتقوَّضُ من داخله الآن، ويسقطُ على رؤوسهم بأثقال الماضى والحاضر معًا.
يرون من الحكومة ما لم ينتخبوها لأجله. يُصرّ العجوز بيبى على صَفع وجوههم بحقيقة أنَّ أرواحهم لديه ليست أغلى من أرواح الفلسطينيين، والتفاوت فى مُعادلة القتل لا يُعوِّضهم عن فداحة التضحية السهلة. لا معنى أصلاً لأن يكون الواحد بمائة أو ألف، طالما أنه يذهب ولا يعود، بينما فى الإمكان استرداده.
فى السابق، احتمل خمسَ سنواتٍ من التفاوض لأجل جلعاد شاليط، وقدَّم تنازُلات كُبرى، كان منها إخراج السنوار نفسِه لاستعادة الجندى الأسير. واليوم يتقافز على نحو 54 إسرائيليًّا ما زالوا فى القطاع، أكثر من نصفهم مَوتى، بجانب آخرين تحصَّل عليهم جُثثًا، وقُتلوا بنيرانِه الصديقة غالبًا.
وقوّة الحقائق لا تسلبُ الجمهورَ ثقتَه فى الراهن المرئىِّ فحسب، إنما تتَّسع للسالف الخفىِّ أيضًا. ويُمكن اليوم الاستناد بوجاهةٍ إلى ما أُشِيعَ عن تفعيله «بروتوكول هانيبال» وقت هجمة حماس، وأنَّ بعض القتلى الذين تجاوزوا ألفًا وبضعَ عشراتٍ آخرين، أرسلتهم طائراتُ الاحتلال لمثواهم الأخير، وليست بنادق القسّام، وإذ يغضبون ويتململون من سلوك القيادة، فإنَّ باعثًا غامضًا فى النفوس يستحبُّ المسارَ الحالى، ويُؤَطِّرُ الغضبَ ضمن حدود إظهار الموقف وإبراء الذمَّة، باستثناء ذوى المخطوفين طبعًا.
وعلى تلك القاعدة، يُجاهرُ المستوى السياسىُّ بإهاناته المُتكرِّرة لهم دون خشيةٍ أو حَرَج، ولم يجد وزيرُ المال بتسلئيل سموتريتش نفسَه مُضطرًّا للتوقُّف لحظةً واحدة، قبل أن يبصُق على الرهائن وعائلاتهم والمجتمع الإسرائيلى بكامله، ويُصرِّح بأنَّ استعادة الأسرى ليست المسألة الأهمَّ على الإطلاق.
ربما تكون مُهمَّة، هكذا يرى، لكنَّ الأهمَّ القضاء على حماس، وألَّا تعود حاضرة فى المشهد أو سببًا للتهديد، ولا يتأتَّى ذلك بالضرورة من دون الاجتياح الشامل، واحتلال قطاع غزّة.
وما يُضمره الوزير المخبول، أنّه من أجل تأمين الدولة عليها أن تعبُرَ على جُثَث الفلسطينيين، ولتحقيق العبور يتعيَّن أن تنسى أبناءها هناك، وأن تُسَلِّم بأنَّ محارق النازية قد تُضطَرُّ أحيانًا للتغذِّى على بعض مُشعِلِيها، لأجل أن تظلَّ مُتّقدةً وقادرةً على التوهُّج والإحراق وإرعاب الخصوم.
قبله بيومين فقط، كان رئيسُه وشريكُه فى الائتلاف يمرُّ بحذائه الثقيل على وعى الصهاينة وكرامتهم. بدأ مكتبُه التسويقَ لخطابه المُرتَقَب قبل ساعاتٍ طويلة من موعده، ثمَّ حلَّ على الشاشات مساء السبت، بالتزامن مع احتفالات الفصح، ليُعيدَ تكرار سرديَّة النصر والنجاحات المُتشابكة على سبع جبهاتٍ.
كان يتطلّع لإثارة الجدل، والتغطية على شهادة رونين بار، رئيس الشاباك، بشأن الأسباب الحقيقة لإقالته، ومساعى القائد غير الأمين لتسييس الأجهزة الأمنية، وإلحقاها بذيول الائتلاف الحاكم، أو بذيله الخاص مُباشرةً.
ادّعى أنَّ حماس ترفضُ التهدئة، وتسعى لانتزاع ضماناتٍ دوليَّةٍ تعوقه عن استكمال القتال، وأنه لن يرضخ لها حتى المفازة وتحقيق العلامة الكاملة. الحرب لها ثمن باهظ، ولا خيار سوى الاستمرار فيها، لأنَّ الاستسلام يُهدِّد كلَّ المكاسب السابقة.
عرّض بالصحافة والمُحلِّلين وطالبى التوقُّف، لأنهم فى نظره يدعمون الفصائلَ العَدوّةَ من طريقٍ غير مُستقيمة، ويرفضون إطلاق سراح الرهائن تحت النار والضغوط القصوى وتعبير الدولة عن قوَّتِها القاهرة. سيعيدهم دون رضوخ، هكذا قال، ولن يسمح لإيران بالتسلُّح النووىِّ، مُضمِرًا مخاوفَه من مسار المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران، ثم كانت فقرة الاستعراض فى خطابه البائس: «لو رضخت، لَمَا دخلنا رفح، ولَمَا خلقنا الظروف التى أسقطت نظامَ الأسد، وقضينا على الضيف والسنوار. وعليه، فلن ننهى حربنَا الانتقاميَّةَ حتى ندمر حماس».
يقولُ من طرفٍ خَفىٍّ، إنَّ عيدان ألكسندر أو أىَّ أسيرٍ آخر لا يختلف لديه عن السنوار والضيف، طالما أنهم يقفون أمامَ طموحه فى الترويع والبطش وإعلان السيادة الكاملة.
إنها رسالةٌ واقعيَّةٌ للمستقبل، فى حال كان أىُّ إسرائيلىِّ مكانَ الرهائن الحاليين، أو اضطرَّت الدولةُ الجائعة إلى الاختيار بين القيمة والمنفعة: القيمة بمعنى التزامها إزاء جمهورها، والمنفعة بمعنى مصلحة الطُّغمة الحاكمة، وتوظيف المأساة فى تطويع الجمهور نفسه، وترويضه قهرًا أو بالحيلة.
قُتِلَ سُكّان مستوطنات الغلاف لأنَّ نتنياهو افتتحَ الحربَ على الدولة فى نظامها القضائى، فخلخل البيئةَ الداخلية وطمَّعَ «حماس» فى المحاولة. وسيُقتَلُ الرهائنُ مع تماديه فى الخيارات الحارقة، لأنه يحتاجُ لرَدع الشارع نفسيًّا، وإثبات أنه مُفَوَّضٌ بحمايتهم قسرًا، وبإرادة فرديَّة خالصة، وأنهم مُسيَّرون لخدمته دون اختيارٍ أو هامش للتمرُّد، وبما لا يتجاوز كونهم حطبًا للمحرقة كغيرهم.
اختُرِعَت الدولةُ العِبريَّة نظريًّا لأجل الفرد، وها هى تنقَضُّ على الاتفاق المُبرَم بينهما وتنقُضه، وتتغذَّى عليه بدل أن تحميه. وهُنا، فأهمية استعادة الأسرى لا تنحصر فى أعدادهم وقيمتهم الشخصية، بل تتَّسع رَمزيًّا لتُعبِّر عن رفض الإذعان للاشتراطات الجديدة، وتحريف التعاقُدات، وتأكيد التمسُّك بالصيغة التى بُنِيَت عليها التجربة، واستُجلِبَ بها المُستوطنون من شتاتهم ومنافيهم البعيدة.
إسرائيل واقعةٌ تحت سطوةِ شبكةٍ من المُؤثِّرات المُركَّبة: بالنشأة تتنازعُها التناقضاتُ العميقة بين علمانيَّةٍ صهيونية فوق دينية، وأُصوليَّةٍ يهوديَّة فوق وطنيّة، وبالدور يُرَاد لها أن تكون قاعدةً غربيّةً مُتقدِّمةً فى سياقٍ مَشرقىٍّ مُتأخّر، كما أنها تتعثَّرُ بين دعايات الديمقراطية المَدنيَّة، وسلوكيات الرجعيَّة وثيقة الصلة بمَوضعِها ضمن خرائط العالم الثالث.
أمَّا الأخطر، فأنها مُنتمية عضويًّا لذاكرتها الحَيَّة مع الإبادة النازيّة، وبدلاً من اختصام الحكاية المأساوية والانقلاب عليها، تتلبَّسُ رداءَ الجانى وتُعيدُ إنتاجَ جرائمه، وترتاح للقصاص من «الرايخ الثالث» باستحلاب سيرته، وتوقيعها مُجدَّدًا على ضحايا آخرين، فى عمليّةِ إزاحةٍ زمانيَّة ومَكانيَّة للقهر، يستندُ فيها التعافى والتعويض إلى التوحُّش المُفرِط حصرًا، ويكون التعبيرُ الفَجُّ عن الاقتدار سبيلاً لإنكار الضعف البنيوىِّ المُتجذِّر فى روحها، بينما تتولّى المَظلمةُ القديمة التى لا يُرَاد لها أن تندثرَ، تغطيةَ الجنايات الجديدة التى يملّ صُنّاعها عن الابتكار فيها والتجويد.
تبدَّلت عقيدةُ الجدار الحديدى. نتنياهو كان امتدادًا عَملانيًّا لتنظيرات زئيف جابوتنسكى، لكنّه يتحوَّلُ عنها اليوم إلى الاشتباك اللاحق بعد الرَّدع الاستباقى، والحروب الواسعة الطويلة ومُتعدِّدة الجبهات، بيدَ أنَّ ما يُحدثه، مع حُلفائه من التوراتيِّين والحريديين، أكبر وأعمق، لأنه يلعبُ فى التركيبة السياسية بمُشتملاتها الفكرية والنفسية، ويُعيد تعريفَ الدولة على وجهٍ يُحَيِّدُ فلسفتَها الخاصة للمواطنة، ويستحثُّ علاقةً طبيعية بين الوطن والمواطن، فى دولةٍ غير طبيعية وسياقٍ غير طبيعى بالمرّة.
ما أَتَوا لأنها مِلكيَّةٌ خاصّة ثابتة، ولا لأنها حاضنةٌ لا يقومُ الدين بغيرِها. أتوا لغاياتٍ غير ما يفرضها عليهم زعيمُ الليكود اليوم، غاياتٍ نَفعيَّةٍ شديدة الضِّيق، تأخذُ ولا تُعطى، ولا تُرحِّب إطلاقًا بالاحتراق لأجل أوهامٍ وخيالات.
الكُلفةُ باهظةٌ على الفلسطينيين قطعًا، والمعركة طويلة ولن تتوقَّف عن طحن مزيدٍ من الأبرياء، غير أنَّ المُقدِّمات القاسية تحملُ فى ثناياها نتائجَ مُغايرةً تمامًا، ومُهدِّدةً للآمال المُفرِطة لدى وحوش الصهيونية الجديدة.
إنه جيلُ «السابرا»، المولودون داخل إسرائيل، يقودونها بوعىٍ خالصٍ لذاكرة التجسُّد فى أرض المَعَاد، ولا تزدحمُ أدمغتهم بخبرات الشتات ومُعاناة الوصول للمرفأ بعد مُكابدة. الرفاهيّةُ التى لم تتوافر للآباء، والبراجماتية الغائبة عن الأبناء، وفائضُ الغرور الذى لا يجد ما أو مَن يُنازعُه ويُهَندِمُ اندفاعتَه. لن تنتهى الحكايةُ قريبًا بالطبع، لكنهم غالبًا يضعونها على أوَّلِ المُنحَدَر!
Trending Plus