عن البناء على أسس خائرة.. واجب البحث فى خلاص فلسطين من داخلها أولا

دُفع الفلسطينيون بغلظة حتى التصقت ظهورهم بجدار اليأس. انعدام الآمال أخطر ما يواجه القضية، ويمس صلابتها، ويُعطب مسيرة نضالها الطويلة من أجل البقاء على قيد الحياة. نصف الحل فى الحفاظ على جذوة النار متقدة فى الصدور؛ أما الصراع فيدور على النصف الآخر، وعلى دفع المسألة من الثبات إلى الحركة المثمرة، وليس تجميدها أو الارتداد بها للوراء. باختصار؛ لا معنى للقفز فى المجهول، ولا أخطر من المقامرة بالمتاح طمعا فى المأمول، من دون بينة ورشادة وخريطة طريق عاقلة.
الوهم الذى أدخله «طوفان السنوار» على الناظرين للمأساة من سطح الأحداث؛ أنه غذّى فيهم شعورا زائفا بالنصر المعنوى، وإعادة فلسطين إلى واجهة الأحداث بعدما طُمرت، أو كادت أن تُطمر. وصفة التوهم إنما تنشأ عن انحراف بالمعايير من الجوهر إلى المظهر، والاكتفاء بأن تُلاك الحكاية فى الأفواه؛ وإن لم تتجاوز الحناجر.
عاد المسكوت عنه إلى التداول فعلا؛ لكنها العودة تحت سقف المأساة، ومن منظور إنسانى بأكثر من كونه سياسيا أو قانونيا. يقظة ضميرية تنصرف إلى الجرم الحاضر لا المظلمة الدائمة، وتطعم الجوعى كلاما قلما ينتج فعلا، وإن حدث فأقصاه تحسين ظروف النكبة، والرجوع بالبلاد والعباد إلى النقطة صفر؛ باعتبارها أثمن العطايا المتاحة وآخر ما تعد به الشفقة اليوم وغدا.
كنت أُشفق على الغزيين العزّل منذ فاتحة العدوان، وما زلت طبعا؛ لكننى أضفت حماس والفصائل الشريكة لها مؤخرا إلى مستحقى الإشفاق. شىء من الألم الممزوج بالملامة، من الأسى على اختراع الأزمات والانكسار أمامها، ومن الرهان بكل شىء على لا شىء تقريبا. إقرار بالاستحقاق ووجاهة المقاومة، دوما ومن غير قيد أو شرط، وتحفظ كبير على رومانسية الفراشات التى تفضى بها للوقوع فى النار، وعلى أن تطير بأجنحتها المشتعلة لتنشر الحرائق على امتداد البستان.
أخطأت الحركة وأصابت. وأكبر خطاياها أنها تضخمّت، وتخطّى شعورها بالضخامة حقيقتها الفعلية، وما تملكه من قدرات وأوراق واختيارات. كان اشتباكها مع أجواء الربيع العربى فى أوائل العقد السابق دليلا على الامتلاء، وتعثرا فى فائض القوة، كما كان دخولها فى عباءة الممانعة خروجا من صفاء الوطن، ومن حراسة سرديته بتجرد لا تشوبه شائبة.
على الحق هى، كحال ملايين الفلسطينيين فى المستقر والشتات، والصهاينة على الباطل؛ إنما ما عاد العالم مثاليا للنظر فى الأمور بمعايير القيم والأخلاق. لا تُبنى الأوطان إلا بمجموع أبنائها، ويكفى فصيل واحد يشذ عن القطيع لتفتيتها. الحماسيون يعلقون الجرس على كاهل السلطة، ورام الله تدين الحركة فى اعتبار نفسها أكبر من فلسطين، ونتنياهو يطارد الطرفين معا، ويحلم بأن يكنس «حماس ستان» و«فتح ستان» بمكنسة واحدة.
ينبرى جمهور الأصولية فى حملة واسعة للتبرير والإنكار. يخلطون الحابل بالنابل، والمتفق عليه بالمختلف فيه، ويمررون العقائدى تحت ستار الوطنى، والمبتذل من القول فى رداء الشريف. ودليلهم أن إسرائيل عاشت تقتل دون عذر أو سبب، وأن خمسين ألفا ويزيد ممن قضوا فى القطاع كانوا سيُلاقون الله فى كل الأحوال، وبعد قفزة مقاتلى القسام وراء الغلاف، أو من دونها أصلا.
تُنفخ الحقائق الصغيرة لتزحم المشهد وتخيم على فضائه كاملا، ويُفرّغ المنطق من طاقته لإغفال ما يُراد إغفاله. لا يسأل سائل عن الذهاب لتضعيف المعادلة بدلا من إضعافها، ولا انتقال الفصائل من حروبها المتقطعة وزهيدة الكلفة مع الاحتلال، بين 2008 و2021، إلى مواجهة شاملة تُراكم الذرائع، وتيسّر للوحوش الضارية على الجانب الآخر أن تنتقل من تقليم الأظفار و«جز العشب»، إلى قطع الأذرع وإحراق الحقل كاملا.
ليس قبولا لقدر أقل من الموت، ولا تطبيعا مع البطش عند منسوب ضئيل. إنه السعى للحياة أوّلا، واجتناب الضربة غير الضرورية كلما كان ممكنا. بحث عن الحصافة فى الإقدام والإحجام، وعن ضرورية إدارة المحركات طالما الطريق مسدودة، وخزان الوكود خاوٍ أو يقترب من النفاد.
بكل الحسابات الموضوعية، لم تكن عملية السابع من أكتوبر موفقة فى الحجم والميقات. قضمت أضعاف ما يستطيع الحماسيون مضغه وابتلاعه، وألقت طوق نجاة لنتنياهو وائتلافه اليمينى فى زمن احتدام داخلى، وفتحت شرايين فلسطين على آخرها، فى سياق إقليمى غير موات، وعلى مشارف خضة عالمية ومرحلة انتقال لا يُعرف مداها. كأن سربا من العصافير قصقص أجنحته بنفسه، وارتمى عاجزا عن الطيران فى حظيرة الأفيال.
موت يعلو على كل صوت، وخراب عميم ويستعصى على الإصلاح. مفارز الإبادة لا تنقطع ولا يصيبها الكلل، والحلول معطلة بنزاعات الخارج أكثر من توازنات الداخل، والأخيرة كانت مختلة أصلا وزادت اختلالا. تُدفع الريح فى أشرعة التهجير، والمنكوبون تسوقهم النار من نزوح لآخر، وقد يتدافعون على أية ثغرة دون تفكير أو تدبر. الفصائل تعود أيديولوجيا دون أبنية صلبة، والسلاح يفقد وجاهته، واليوم التالى فى أقصى الأحلام لن يُدانى ولو طرفا من اليوم السابق.
يُسأل قادة الخنادق والفنادق عن الطموحات الكبرى؛ فإذا بها محصورة فى وقف النار، والانسحاب، ووضع خطة إعمار ستأكل مزيدا من السنوات وأحلام الناس الضائعة. أما العودة إلى السادس من أكتوبر فإنها منامات الهانئين، وتخيلات القادرين على الخيال بعدما هبط الواقع بأثقاله فوق الأرواح قبل الأجساد. فرّط الساسة فى فلسطين التاريخية من النهر للبحر؛ هكذا يرى المقاتلون، لكننا نقف اليوم معهم على أطلال دارسة، مُطوقين بمخاوف انفلات القليل المتبقى من بين الأصابع، ولا نعرف طريقا موصوفة للنجاة، ولا حتى للخروج بعاهة لا تقتل صاحبها ماديا أو معنويا.
كان حزب الله قد طفر كنافورة من مستنقعات الدم فى الحرب الأهلية اللبنانية. صعد على أكتاف حركة أمل، وغاص فى الطائفية والتطييف إلى المنخار، وعندما تعب البلد وناسه من القتل المجانى؛ تيسّر له أن يضع سلاحه فوق وثيقة الوفاق الوطنى، ويظل شاهدا على المأساة التى انطفأت نارها وبقيت حرارتها. عاش يلوك شعارات المقاومة، وتاجر بالنصر عندما انجلت إسرائيل عن الجنوب من طرف واحد، وبالإنجاز وفائض القوة قتل الحريرى، واقتحم بيروت، وأدخل البلد فى مغامرة يوليو 2006، ثم أعادها الآن لنقطة الاحتلال التى كانت عندها قبل نشأته وانتصاراته الصاخبة.
ينادى الرئيس جوزيف عون اليوم بحصر السلاح فى يد الدولة؛ فيرد الحزب من كل مستوياته بأنهم فوق الدستور والميثاقية، وسيقطعون اليد التى تمد على ترسانتهم، ويُعاملون المطالبين بتجريدهم منها كما يتعاملون مع إسرائيل. والحجّة أن العدو يخرج لسانه للوطن وأهله، والمفارقة أنهم من أدخلوه إليه أصلا!
لا يُفسر الحزبيون فيما تتجلى فائدة السلاح وقد استجلب الغول ولم يردعه، وبات عاجزا عن الحماية أو الدفاع. ولا يجدون أنفسهم مضطرين أصلا لتبرير ما أطلقوه تحت عنوان «الإسناد والمشاغلة»؛ فما أسندوا غزة ولا شاغلوا نتنياهو، وأورثوا لبنان واللبنانيين هزائم تفوق طاقتهم، وثغرة مفتوحة يرفض المتسببون فيها أن يسدّوها.
لانت الضاحية نسبيا بعد الفاجعة. أقرت ضمنيا بالمحنة ولو أنكرتها فى العلن. فوّضت الأخ الأكبر نبيه برى بالتفاوض على وقف الحرب، وتقبلت بنود الاتفاق بما تشتمل عليه من تفعيل القرار 1701، وفى صلبه نصوص القرارين 1559 و1680 بشأن نزع السلاح وضبط الحدود. لم يُستجد ما يبدل الموقف؛ فلا إسرائيل تراخت ولا شُفى الحزب؛ غير أن إيران دخلت فى سجال مع الولايات المتحدة؛ فاستُدعى الذراع لمهمة جديدة لصالح الرأس، ووضعت الميليشيات الرديفة مجددا، أو ما تبقى منها، حائط متقدما أمام حصون الجمهورية الإسلامية وبرنامجها النووى.
طرح لبنان الرسمى فكرة استيعاب المقاتلين الحزبيين فى المؤسسة العسكرية. ارتضاها العماد عون؛ إنما على صيغة غير ما كان مع «الحشد الشعبى». ضاق العراقيون بالنقد المبطن واعترضوا عليه، ونظّر آخرون فى الإمكانية شريطة ألا تدخل الميليشيا فى الجيش كتلة واحدة. وتجاهل الجميع أن العمائم لن تخضع لقبعات العسكر، وأنهم ينطلقون من أرضية عقائدية ولائية، عمودها المرشد خامنئى، وقرارها فى طهران لا لبنان.
وما كان شمالا يتكرر فى الجنوب بتطابق كامل. غزة مجرد قاعدة انطلاق، وعموم فلسطين ليس أكثر من مسواك فى فم حماس؛ كما قال محمود الزهار. الحركة غير معنيّة بالحل ولو كان مستحيلا أصلا، إذ الوقف الإسلامى بين النهر والبحر لا يقبل النزول عن شبر منه، ولا لتهديد المشروع الكبير بمداواة جرحه الصغير. ولا فارق بين أن يكون الامتداد وراء الحدود إلى جماعة الإخوان، أو العثمانية الجديدة، أو الشيعية المسلحة. كلها تمثلات فرعية عن أصل واحد، لا غرض له إلا تسييل الخرائط ومزجها؛ ولو ابتلعها الصهاينة. إنه السير إلى الصدام الكبير، واللعنة على تجزئته أو اختزاله فى قطاع أو قطيع.
تتدفق الوفود من دون انقطاع، والرسائل طيّارة بين العواصم وسماواتها. حماس تتنقّل بخطيّتها من الدوحة للقاهرة وأنقرة وما وراء ذلك، ونتنياهو جالس فى كابينت الحرب، أو مع ترامب فى مكتبه البيضاوى، يُرصِّص الشروط بما يسمح لها باستقطاع خسارة جديدة من فلسطين، فى الأرض أو البشر، وربما كلاهما معا.
أحدث الجولات كانت أمس. استقبلت مصر وفدًا جديدًا يتقدّمه محمد درويش، قائد الظل الذى يبدو أنها الأعلى صوتًا، وفى معيّته خليل الحيّة، المُوكَّل بالتفاوض والاعتراضات العلنية. يُجرى قادة الأنفاق على لسانه ما لا يسعهم قوله مباشرة. والخيار ما عاد بين حياة وموت؛ بل بين أهون الضررين/ الموتين بالأحرى.
لم يعُد العدوان فى وجهه الذائع أكبر المُلمّات ولا أصعبها. ستتوقّف النار عاجلا أم آجلا، وفى صفقة جزئية أم شاملة. واشنطن تسعى لترتيب المنطقة قبل زيارة سيِّدها الجديد، وما عاد فى قوس الصبر منزع. حماس لن تحكم غزّة، وسلاحها إن أُزيح من الصورة سيُعاد تجميعه لاحقا، وإن أُبقى عليه فلأجل أن يظل ذريعة دائمة.
المُعضلة فى أن التجربة لم تُفضِ إلى خبرة ظاهرة، ولا يبدو أن سلسلة النضال تُراكم معارفها بوعى وبصيرة. لا أحد يبتهج بغلظة حزب الله وتشدّده أكثر من نتنياهو؛ إذ يواجه ميليشيا تبتلع دولة، هزيمتها سهلة والحرب عليها مُبرّرة. وما كان الصمت على انتفاخ حماس؛ بل ورعايتها أحيانًا بالمباشر أو من طرفى خفىٍّ؛ إلا لأنها تُحقِّق للاحتلال ما لا يتحقَّق بالسلطة، وتمُدّه من أسباب العُنف بما يعزّ عليه باللين والسياسة.
تخطّت حماس المحنة أو سقطت فى أتونها، واستبقت سلاحها أو اضُطرّت لإلقائه؛ عليها ألا تعود لِما كانت عليه فى السابق. لا فلسطين تُختزل فيها، ولا بمقدورها أن تنوب عن القضية فى وجوهها المتنوعة. غزّة أكبر من المقامرة، وأصغر كثيرًا من أن تصير دولة. القوّة مصفوفة شاملة من العناصر والأدوات؛ وإن اختلّ التوازن فيها، فالاختلال متبوع حتمًا بمزيدٍ من وحشية الاحتلال.
وبلا مُداراة أو وَجَل؛ فإنها مَدعوّة لاستدراك ما فاتها، واستشراف ما تُقبل عليه بإرادتها، الآن لا غدا، وبجدلٍ خلّاق مع الشقيق والصديق، لا تُرجئه الظروف القاهرة، ولا يلغيه الوقوف فى صحن المذبحة. عليها أن تتقيّأ ما حُشِر فى بطنها من أضاليل المحاور والأحلاف، وأن تُعيد ضبط أجندتها الوطنية، وترتيب أولوياتها، باتّصال عميق مع البيئة الفلسطينية دون حجج أو اشتراطات، وانقطاع جذرى عن فخاخ الأيديولوجيا وامتداداتها الخارجية بمعزلٍ عن أيّة أطماع وولاءات والتزامات فوق وطنية.
رسائل الغضب الشعبى من الغزّيين ليست مُوجّهة ضد الطوفان فى ظاهره؛ بل فى الجزء الغاطس من جبل الجليد. التظاهرات لكزة فى الكتف، ودعوة إلى الاستفاقة قبل فوات الأوان، وإلى التوبة قبل أن تبلغ الروح الحلقوم.
يشعر الناس بأنه زُجَّ بهم فى لعبة أكبر منهم، ولحساباتٍ تتجاوز غزّة والضفة وعموم الجغرافيا الضائعة. تعطّل التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وأطلق حزب الله إسناده، وانخرط الحوثيون، وتقاطع الحشد الشعبى من البعيد البعيد، والمُحصّلة الوحيدة اليوم على الطاولة بين واشنطن وطهران، وقد اتّصل ما كان مقطوعًا بينهما؛ فإن اتّفقا فالخذلان مُجدّدا للحلفاء، وإن اختلفا فالتأجيج على مطمع فى تطويع الشيطان الأكبر. يجب ألا تمتد الدراما على تلك الصورة البائسة، ولا أن تظل القضايا الوجودية عُرضة للتعريض والتوظيف والاستتباع لمصالح مذهبية أو فصائلية.
يخرج القطاع من المقامرة مسحوقًا تمامًا، والبشر على آخرهم. إن لم يُستحصَل من الطوفان رجوعًا جادًّا وعن اقتناع للحظيرة الوطنية؛ فقد ضاعت التضحيات الإجبارية، وسيفهَم الغزّيون الرسالة على نحوٍّ شديد السلبية. لحماس أن تدّعى النصر، ولها أن تتمسّك بالسلاح؛ لكن عليها أن تُقنع أصحاب القضية بأنها أخطأت عن غير قصد، ولم تكُن تُضمر غير ما أعلنته وتاجرت به، والأهم ألا يصرفها تهليل الأصوليين وأبناء الدائرة الواحدة، عن صخب المنكوبين وألمهم الحقيقى الصادق.
اعتراف فاعتذار وارتجاع وتصويب. إدارة مدنيّة غير مُلوّنة، وسُلطة محل اتّفاق من الجميع، ومُداواة بالسياسة لخطايا السلاح؛ وقد صار الأخير عاجزًا وُمولِّدًا للانتكاسات. طلّق الحماسيون إخوتهم فى رام الله لأسباب أقل كثيرًا مِمَّا حاق بهم من المُمانعين، وتوجَّب الفراق على قاعدةٍ من إعلاء القضية فوق الشعارات، ووضع الفلسطينيين قبل غيرهم. إن لم يُعَجَّل بالمُراجعة ورسم المسارات البديلة؛ فقد لا تكون الهُدنة مُفيدةً على المدى الطويل، ولا الندم المكتوم حائلاً عن تكرار الهزائم الثقيلة على فواصل مُتقطعة، مُتقاربة، وأشد ضيقًا من فهم الأصوليين ونزق المغامرين.
Trending Plus