قادش ومعاوية والجولاني.. جيوسياسية سوريا الملعونة (5)

مايكل فارس
مايكل فارس
بقلم : مايكل فارس

انهيار رجل أوروبا المريض

تغيًر العالم وموازين قوته أعقاب الحرب العالمية الأولي، انهزم رجل أوروبا المريض "الخلافة العثمانية" لتتفتت أراضيه في عام 1918، أصبحت سوريا تحت الانتداب الفرنسي رسميًا في عام 1920م، بعد مؤتمر سان ريمو، واستمر هذا الانتداب حتى حصول سوريا على الاستقلال في عام 1946. تفككت الإمبراطورية المترامية الأطراف عام 1922م  ودخلت الإنعاش حتى إعلان قيام الجمهورية التركية في عام 1923م، وماتت رسميًا بإعلان انتهاء الخلافة العثمانية 1924م، ليطوى التاريخ صفحة جديدة من أحقابه.

فرنسا وتقسيم سوريا طائفيًا 1920 – 1946م

لم ترغب فرنسا في وجود سوريا موحدة، فاستغلت التنوع الديني والعرقي والإثني، في إطار استراتيجية "فرق تسد"، لإضعاف فكرة الوحدة، وقسمتها لأربع أقاليم ضمت دمشق، وحلب، و"إقليم العلويين" شمال المناطق الساحلية، مثل اللاذقية وطرطوس، وسعت جاهدة لتعزيز الهوية الطائفية لديهم ومنحتهم حكماً ذاتياً نسبياً، ثم إقليم الدروز في منطقة السويداء جنوب سوريا، حيث يتركز الدروز.

رفقاء السياسة والسلاح

عقب استقلال سوريا عن فرنسا 1946م، مرت بعشر سنوات أغلبها انقلابات على الحكم والصراعات الداخلية، وخلالها صعد جمال عبد الناصر على سدة حكم مصر، لينشر أفكاره عن القومية العربية، فصدر مشهد "الزعيم العربي"، انحازت سوريا له ولقناعاته، فقررا سويا تشكيل الجمهورية العربية المتحدة 1958م في محاولة لخلق وحدة عربية  قوية في مواجهة الاستعمار والهيمنة الغربية، وقد استمرت حتى عام 1961م عندما انفصلت سوريا، بعد انقلاب عسكري داخلها، لتدخل في مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، وانقلاب آخر أدى لسيطرة حزب البعث على الحكم.

أعقاب نكسة 1967، واحتلال إسرائيل لأراض سورية ومصرية، خاضا سويًا معركة تحرير 1973 لتتمكن مصر بعدها من انتزاع سيناء من الكيان، بينما لم تتمكن دمشق من عودة الجولان المحتل.

1979م.. عام  تغير خريطة العالم

كان ذاك العام كفيلاً بتغيير خريطة التوازنات ليس في الشرق الأوسط فحسب بل العالم أجمع، مصر وإيران قلبتا قواعد التحالفات الراسخة، لبناء مرحلة جديدة، تبعاتها لا تزال مستمرة.


قاد آية الله الخميني في إيران ثورة إسلامية ضد الأسرة البهلوية، لينهي حكم الشاه، لتتحول طهران من حليف أمريكا إلى عدو، ومن عدو للاتحاد السوفيتي إلى صديق، وفي مصر وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، ليدير دفته من رفقاء السلاح، السوفيت في الشرق، إلى كنف الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدى لقطيعة سورية وعربية معها، وظل خلال تلك الفترة وبعدها في سوريا حكم البعث وعائلة الأسد هما المسيطران على المشهد السوري.

النفوذ الإيراني 45 عامًا في الحديقة الخلفية

إيران الخومينية الشيعية، وسوريا البعثية العلوية السنية، فرقهما المذهب الديني، وجمعهما العداء الاستراتيجي لأمريكا، ونظام صدام حسين العراقي على حد سواء، وحين نشبت الحرب بين العراق وإيران، كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة الداعمة لطهران لوجستيا وسياسيا، لترد الأخيرة بدعمها في وقت لاحق تجاريا وسياسيا وعسكريا لنظام البعث.


تمكنت طهران من مد نفوذها والسيطرة على الأرض في سوريا، خاصة أعقاب غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق 2003م، حيث تشكل تحالف غير معلن بينها وبين حزب الله الشيعي وسوريا السنية، لمقاومة الاحتلال الأمريكي ونفوذه في الشرق.


مر قرابة 45 عامًا منذ الثورة الإيرانية 1979م، حتى سقوط بشار الأسد، هيئة تحرير الشام التي قادها الجولاني المعروف بـ"أحمد الشرع"، في ديسمبر 2024م، وخلالها كانت إيران هي الدولة المتحكمة ذات النفوذ الأكبر على السياسة السورية، والتي تمكنت خلالها من بناء ما أسمته حرب الساحات بدعم مجموعات مسلحة في سوريا والعراق ولبنان واليمن وحركة حماس أيضا.

يمثل الجولاني نقطة فارقة في تاريخ سوريا لشخصه وأقكاره المتشددة من جهة، وفي تغير دفة التحالفات في سوريا من جهة أخرى، فها هي دمشق تولي ظهرها لإيران، وتتوجه نحو تركيا.

النفوذ المصري على سوريا .. 1164 سنة

وهنا لست بصدد كتابة بحث أكاديمي، ولكني سأعرض نتائج سلسلة المقالات السابقة بحساب عدد السنوات التي خضعت فيها سوريا لمصر و"إيران " و"تركيا" جيوسياسيًا.

سيطرت مصر منذ التاريخ القديم بشكل مباشر وغير مباشر على سوريا، ما بين القوى الخشنة والناعمة، كان مصر تكتب تاريخها هناك أيضًا، منها 50 سنة عبر التجارة في المملكة القديمة، إبان ظهور حضارة بيلا، وزاد النفوذ المباشر مع صعود  المملكة الوسطى ليستمر قرابة 100 سنة، ليصل إلى ذروته عهد تحتمس الثالث بعد معركة مجدو لتفرض مصر قوتها على مدن سوريا الكبرى حتى قادش، واستمر ذلك حوالي 400 سنة، وعقب إفول الحضارة المصرية القديمة اختفت السيطرة.

وعاد النفوذ المصري على سوريا مع  العصور الإسلامية، الدولة الطولونية 37 سنة، ثم الإخشيدية حوالي 34 سنة، ثم الخلافة الفاطمية 200 سنة، وأعقبها الدولة الأيوبية التي وحدت مصر وسوريا في كيان واحد حوالي 90 سنة، ثم حكم المماليك 250 سنة، حيث أصبحت سوريا جزءًا من دولتهم حتى الغزو العثماني.
وشهدت سوريا في العصر الحديث وحدة سياسية قصيرة مع مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة  لمدة 3 سنوات من 1958–1961م،  وبذلك، يكون مجموع النفوذ المصري حوالي 1164 سنة، بين سيطرة مباشرة و غير مباشرة.

النفوذ التركي على سوريا .. 1085 سنة

نافست الأناضول في العهود القديمة للسيطرة على سوريا، بدءًا من الإمبراطورية الحيثية التي سيطرت على شمال سوريا حوالي 1600 – 1200 ق.م، أي  نحو 400 سنة متقطعة،  ثم جاءت الإمبراطورية الرومانية الشرقية "البيزنطية"، وحكمت سوريا من 395 م- وهنا أتحدث عن الإمبراطورية كقطعة جغرافية يونانية الثقافة على أراضي الأناضول-  حتى صعود القوى العربية في 636 م، أي حوالي 240 سنة.

عاد النفوذ التركي في العصور الوسطى عبر السلاجقة حوالي 100 عام بشكل متقطع حيث سيطرت على أجزاء كبيرة منها، ولكن مع الدولة العثمانية، تمت السيطرة كلية عليها من 1516 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 م، أي حوالي 402 سنة من السيطرة المباشرة,
في العصر الحديث، كان هناك تقاربا اقتصاديا وسياسيا بين أنقرة ودمشق من 1998 حتى 2011 م، ومنذ بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، تدخلت تركيا عسكريًا وسياسيًا في شمال سوريا، خاصة عبر عمليات عسكرية مثل درع الفرات وغصن الزيتون، ليكن المجمل حوالي 14 سنة من النفوذ المباشر حتى عام 2025. بجمع هذه الفترات، امتد النفوذ التركي على سوريا لحوالي 1085 سنة، أغلبها نفوذ عسكري وسياسي.

النفوذ الإيراني على سوريا .. 500 سنة

سيطرت إيران  كـ"جغرافيا" تاريخيًا على سوريا، منذ العصر الأخميني، حين ضمها كورش العظيم  إلى إمبراطوريته بعد سقوط بابل آخر حضارات العراق حوالي 539 ق.م، لتصبح كذلك قرابة 200 سنة من السيطرة المباشرة، وإثر صعود الإمبراطورية البارثية سيطرت على أجزاء من سوريا لفترات متقطعة، خصوصًا في القرنين الأول قبل وبعد الميلاد حوالي 100 سنة، ليصعد بعدهم الساسانيون ليؤكدوا النفوذ الفارسي، على سوريا قرابة 150سنة،  من224 – 636 م، وخاصة في عهد كسرى، وحتى بداية الصعود العر بي لتصبح سوريا مقر الخلافة الأموية عام 661م .

وعاد النفوذ الإيراني في سوريا أعقاب الثورة الإسلامية عام 1979م، ليصل إلى ذروته بعد تحالفه مع نظام الأسد ودعم حزب الله اللبناني الشيعي، ليستمر ذلك قرابة 32 عامًا حتى عام  2011 م، حين اندلعت الحرب السورية بين قوات النظام ومعارضة مسلحة مدعومة من مخابرات عدة دول،  لتمارس إيران نفوذا مباشرًا وعسكريًا عبر الحرس الثوري استمر حوالي 14 سنة، وينتهي بسقوط نظام بشار الأسد ديسمبر 2024، وبذلك تكون السيطرة المباشرة وغير المباشرة في الحديث نحو 46 سنة من النفوذ، ويصبح إجمالي سنوات خضوع سوريا لإيران حوالي 500 سنة.

في النهاية، تناوبت الإمبراطوريات، وتغيرت أسماء الدول وتبدلت، وبقيت لعنة الجغرافيا حاضرة تحيط بسوريا من كل صوب، وتوجهها الأخير نحو تركيا وإسرائيل، ليس إلا صفحة جديدة من صفحات التاريخ.

لقراءة سلسلة المقالات

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

Trending Plus

اليوم السابع Trending

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى