حظر الإخوان وسقطة حماس مع الأردن.. عن النزق والمَلشَنة وإعلاء الفصائل فوق فلسطين

يُعرَف الرجالُ بالحق ولا يُعرَف الحقُّ بالرجال؛ فأمَّا من لَجَّ فى العناد فيُوشك أن يلقى بيده فى التهلكة، فيخسر دنياه وآخرته، كما قال علىّ بن أبى طالب، أو يُنسَبُ له فى كتب الأثر.. وبهذا؛ فإنه يُحتَجُّ بالوقائع على البشر، لا العكس، وتتحدَّد الجدارة بمقدار الوعى وكفاءة السلوك، وتُقام الحجّة على أىِّ شخص مهما توهَّم أنه فوق النقد والمُحاججة.
وإذ يغيب ذلك عن حركة حماس وقادتها؛ فيجب ألَّا نُغيبّه عن التداول والاشتباك مع الظرف الراهن، وألَّا يمنعنا الحرج والإشفاق من الاحتداد والمُكاشفة، ولا الابتزاز من الجَهر بالحقائق الساطعة، والتصدّى لكلِّ محاولات الطمس والتشويه والتضليل.
ومن أسفٍ؛ أن يتصدَّر فريق للناس لمهام تفوق طاقتهم، وأن ينفصلوا بها عن الواقع، دون إقرار بالانحراف أو رغبةٍ فى الاستقامة. وفوق الخطأ فى تقدير الظروف والمُلمّات، يُخطئون فى ترتب الأولويات أيضًا، وفى اختيار معاركهم، ويصطنعون مواجهات زائفة وغير ضرورية إطلاقا.
الحماسيون غارقون فى غزة، وأغرقوا معهم أهالى القطاع، وبدلا من الاجتهاد فى تحصيل أسباب النجاة، والاحتماء بالإجماع وترصيص الصفوف، ينزلقون إلى ما يُشبه الفتنة، ويستدعى مزيدًا من الشقاق والشبهات. رصاص طائش فى اتجاهاتٍ غير مُثمرة، وتصويب جهول على الشقيق والصديق، وكلها لا تضيف للحركة شيئًا، وتسلب الغزِّيين القليلَ المُتبقّى لهم، ولا تصبُّ إلَّا فى صالح الاحتلال.
قبل ساعاتٍ من مَوعد الدعوة لاجتماع المجلس المركزى لمنظمة التحرير، أصدر الفصيلُ (المُنسحق تحت حذاء الأيديولوجيا) بيانًا صاخبًا. يغمز من قناة التأخُّر فى الانعقاد ثمانية عشر شهرًا عن الحرب، ويطعنُ فى المشروعية من جهة أنه لقاء لا يُعبّر عن الإجماع الوطنى، ولا يرتقى لمستوى التضحيات. فضلاً على المطالبة بوقف التنسيق الأمنى، وتصعيد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال.
حال الضفة ليست عظيمة؛ لكنها أقل سوءا من القطاع. حكومة عباس تحتاج للإصلاح قطعًا، وهذا لا يكفى لإبراء حماس من جريرة أفعالها، ولا للطعن فى أى مسلك مُحتمَل للنجاة؛ لأجل أن تظل الحركة قضاءً مُبرمًا على رؤوس المنكوبين، ومسارا اضطراريًّا لا بديل عنه.
والغرابة ليست فى التصويب على السلطة، عبر الطعن فى المُمثّل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى، ولا فى التحريض على جرّ الضفة الغربية لمستوى الإبادة الذى تعيشه غزّة حاليًا؛ بل فى أنَّ الحركة تُنَصّب نفسها مرجعيَّةً سياسية وأخلاقية فوق الجميع، وتعتمد آليّةً رخيصةً للتهرُّب من مسؤولياتها، لا بالتجاهل والتعالى فحسب؛ إنما بأن تكون خصمًا وحَكمًا فى اللحظة ذاتها، وتدّعى على غيرها بما فيها، بحيث تحشره فى رُكن الدفاع عن النفس، ويتيسَّر لها الانتقال من لائحة الاتهام إلى منصَّة الادعاء؛ أو هكذا يُصوِّر لها خيالها المريض.
حماس لا تعترف بمنظمة التحرير، وليست عضوًا فيها. اصطنعت "الطوفان" من خارج الشراكة الوطنية، وما تداولت مع أحد فيه، ولا سمحت لأحدٍ حتى الآن بأن يتقدَّم لإصلاح ما أعطبته بإرادةٍ فردية، أو بإملاءٍ عليها من الخارج.
ومن حيث أنها تعتبر "رام الله" خصمًا مُباشرًا؛ فليس من حقِّها أن تُمَحِّص مواقفها أو تُحدِّد لها المسار، ولا أن تنتقد ما تسير إليه السلطة أو تتقاعس عنه. الانتماء للعائلة شرطٌ ضرورى للجلوس على طاولتها، والاشتراك فى مداولات الهيكلة والإصلاح.
الحركة أنكرت أوسلو ثمَّ ترشحت للانتخابات على قاعدتها، ارتضت بنظامها ثمَّ انقلبت عليه، وعدَّلت خطابها إلى الإقرار بدولة فلسطينية على حدود يونيو 1967؛ لكنها ما تزال ترفض "حلَّ الدولتين" وتتلطّى وراء شعارات الوقف الإسلامى، والحقوق النهائية من النهر إلى البحر.
تناقُضٌ يخلق العثرات، وينقُضُ الغَزل، ولا يُحرّك الأوضاع الجامدة على الإطلاق؛ وإن حدث فللوراء لا الأمام. وعلى قدر الخِفّة فى موقفها المشار إليه صبيحةَ الأربعاء؛ فإنَّ الحماقة التى ارتكبتها قبل ذلك كانت أكثر استخفافًا وفداحة، وأقصد بالتحديد بيانَها الذى لا يُوصَفُ إلَّا بالوقاحة تجاه الأردن فى الليلة السابقة.
بعد أيام من الصمت؛ تفتّق ذهن أحد العباقرة داخل الحظيرة الحماسيَّة عن خطوةٍ لا معنى لها، ولا مُسوِّغ، وتضرُّ أكثر مِمّا تفيد. كانت المملكةُ قد أعلنت قبل أقل من أسبوعين عن إحباط مُخطّط إرهابىٍّ، وتوقيف نحو 16 متهمًا يتوزّعون على أربع خلايا، انصرف نشاطهم إلى استجلاب المواد المُتفجّرة، وتصنيع الصواريخ والطائرات المُسيَّرة، والتحصُّل من جهات خارجية على تمويلٍ وتدريبات فى إحدى دول الجوار.
اعترف المَوقوفون بالتفاصيل، وبانتمائهم للإخوان. لاذَ الفرعُ الأردنىُّ للجماعة بالمراوغة وادّعاء البراءة؛ بعدما أنكر معرفتَه بالجريمة، وشدَّد على أنها أعمال فرديَّة لا صِلة له بها. لكنّ الحماسيين قرَّروا أن يكونوا إخوانًا أكثر من الإخوان أنفسهم، وأن يُدافعوا عَمَّا أنكره أصحابه وتنكّروا له.
ابتعد البيانُ عن التوصيف، أو الاقتراب من صِلَة المَوصول بالجماعة أصلاً. تجاهل تمامًا أنها جريمة موصوفة، ولم ينطلق حتى من كونها خطأ غير مقصود. إنهم أبطال لا يستحقون اللوم ولا المساءلة، ويتعيَّن على الدولة أن تنزل عن كرامتها وقوانينها وشخصيتها الاعتبارية لصالحهم؛ لأنهم ينصرون فلسطين ويدافعون عن القدس ويرفضون عدوان الاحتلال.
وباعتبار دعم المقاومة واجبًا قوميًّا وأخلاقيًّا؛ فعلى السلطات الأردنية شُكرهم والاحتفاء بهم. لا حقَّ لها فى الإدانة أو التجريم، وعليها أن تُفرج عنهم فورًا دون قيدٍ أو شرط، وأن تُقدِّر دوافعهم المُشرّفة أيضًا.
خطابٌ ليس أقل من سفاهةٍ كاملة، ولا يُوصَفُ إلَّا بالجنون؛ إن لم يكن من جهة كشف المستور والدفاع عن الإرهاب، فأقلّه لأنه يَستعدى جارًا لصيقًا، وطرفًا مُهمًّا وفاعلاً فى ورشة الدفاع عن القضية خارج العاطفة والاندفاعات الأُصوليّة الهائجة، التى ما حرّرت أرضًا ولا وفَّرت دمًا بريئًا، وأضافت للفلسطينيين نكبةً كُبرى فوق نكباتهم؛ بل ربما تكون الأكبر على الإطلاق.
أسوأ من الخطأ أن تتمادى فيه، وأفدح من التسبُّب فى الخراب، أن يسعى المرء لتعميمه على الآخرين.. لا مصلحةَ لفلسطين وأهلها فى إرباك الجوار، والأردن تحديدًا. والفصائل الغَزّية أكثر المُتضرّرين من الوقيعة بين الشعوب، أو الإيحاء لشعبٍ منها بأنه أدنى رتبة من غيره، أو عليه أن يكون حطبًا للنار التى يشعلها غيره فى الخارج، وأن يحترق راضيًا ومُذعنًا؛ وإلا يكون مُتّهمًا بالتخاذُل والخذلان ونقص الإيمان والشرف.
ولا يُفهَم إطلاقا على أيّة قاعدةٍ تستند حماس، ومن أين لها كلُّ هذا الشعور بالاستحقاق، والجرأة على تلبيس الباطل عمامة الحق، والمُزايدة على الآخرين فى أوطانهم ومصالحهم، وليس لمنفعةٍ ستعود عليها أو تستنقذ المُضارين من مُغامراتها الفجّة وغير المحسوبة؛ إنما لحساباتٍ فئوية تنظيمية، وعلى مُرتكَز من الرجعية الدينية وتحالفاتها المشبوهة، وسعيًا للزجّ بغيرها فى دوائر وتيَّارات لم يختاروها، ولا يُقرّونها على خطابها المُلتاث وسلوكها المشبوه.
فلسطين أمانة عربية؛ ما أنكرها العرب ولا قصّروا فى إسنادها، خصوصًا مصر والأردن. إنما لهم كامل الحق فى سياسة الأمور بحقِّها، وحسب الوقائع والتوازنات، ومن دون الانفصال عن السياق المُحيط بالقضية.
الدولة غير الميليشيا، وما يُقبَلُ من الفصائل داخل الأرض المُحتلّة، قد لا يكون مُتاحًا لها من خارجها، أو يُرتِّب أعباء مُضاعَفةً عليها وعلى المشروع التحرُّرى نفسه.
الأردن يلتزمُ باتفاقية سلام مع إسرائيل؛ لكنه يتصدَّى لخطط التهجير والتصفية بالوسائل السياسية، وما يعينه على إنجاز مهمَّته أن يظلّ صلبًا ومُستقرًّا، لا أن يُطعَن من الظهر أو تُصطنع له الحرائق داخل البيت.
أىُّ اهتزازٍ لا يُهدِّد المملكةَ وحدها؛ بل يفتح الباب لاحتمالاتٍ كلها سوداء ومُزعجة، من أول التوريط فى مُواجهةٍ غير ضرورية، وحتى إفساح الطريق لأجندة الترانسفير وكَنس الكتلة البشرية أو بعضها من الضفة الغربية للشرقية.
لم تُعقّب المملكة رسميًّا؛ لكنها اكتفت بتصريحٍ على لسان مصدر حكومى، قال إن الدولة أكبر من أن ترُدَّ على فصائل، ولها مُؤسَّسات راسخة وصامدة تاريخيًّا، وكل الجماعات التى عملت ضدّها تبخّرت.
والحديث يستدعى بالضرورة ما كان فى "أيلول الأسود" قبل أكثر من نصف القرن، وقد أفضى إلى توتُّراتٍ عظيمة جرّت خرابًا، وقادت حركات المقاومة وقتَها للنزوح وتكرار المأساة فى لبنان.
تعافى الأردن؛ لأنه رسم حدودًا واضحة بين النظام والفوضى، وبين واجب الأشقاء عليه والتزاماته أمام شعبه؛ أمَّا اللبنانيون فما زالوا محبوسين فى حلقة النار.
اتفاق 1969 اصطنع لهم دويلةً داخل الدولة وفوقها، ومع خروج "فتح" من الجنوب ورثه حزبُ الله، وما زال يضع نفسَه فوق البلد ونظامه وسلطته، وبعدما جلب لهم الاحتلال مُجدّدًا، يتبجَّح فى مسألة نزع السلاح، ويُهدِّد بأنه سيقطعُ اليدَ التى تتصدّى لمُقامراته المُقرَّرة وراء الحدود، بولائية مذهبيّة صريحة، وبمعزلٍ عن أيّة مصالح أو حساباتٍ وطنية.
تتصرّفُ حماس كأنها غير مَعنيَّةٍ بما آلت إليه الأوضاع. تفرُغ من مغامرةٍ لتدخُلَ فى غيرها، ولا هَمَّ لها إلا أن تظل فوق المأساة ودون المُساءلة. ومن حيث لم تستفد من خبرات المقاومة المُتراكمة طوال العقود الماضية؛ فإنها تُكرِّر خطاياها كما لو كانت تبدأ من الصفر، وليس عليها أن تستكمل مسيرة النضال أو تكون جزءا ناضجًا وفاعلاً منها.
شعور مُفرط بالعظمة، وطهرانيَّة مزعومة، وتجبُّرٌ غاشمٌ على الحق والمنطق. لم تعد القضية وسيلةً للتربُّح فى بيئتها فحسب؛ إنما صارت "قميص عثمان" فى رحلة البحث عن فتنة كبرى، وأداةً لإسناد أجندة أُصوليّة طائفية تختصم المنطقة فى الأساس، ولا يتجاوز الصهاينة فيها حيِّزَ الذريعة، وبئرَ النفط التى لا تنفد منها الأسباب والمُبرِّرات.
وبعيدًا من المُزايدة والابتزاز وتبويس اللحى؛ فإنَّ تخطئة حماس ليست كفرًا بفلسطين أو انحيازًا لعدوِّها. النظر فى الوقائع ليس مكرمةً على الإطلاق، والنقد فريضة لا فضيلة. إن كانت الأمور تُؤخَذ بالمآلات فقد أُبعِدَ الفلسطينيون عن غايتهم أضعافَ ما كانوا، وإنْ بالوسائل فلا حصافةَ فى رَبط العُزَّل إلى قضبان القطار دون منطقٍ أو احتياج.
النيّة الطيِّبة وحدها لا تكفى لإبراء الذمَّة، والخسران لا يغنى عن الحساب، والمبادرة بالهجوم على الآخرين لن تُغيِّر الحقائق. لم يَكُن أحدٌ ممن يُعَرَّض بهم اليومَ مع "السنوار" وقتما اتَّخذ قرارَه، وما نما لعلمِنا أنَّ الله اطَّلع على أهل الطوفان؛ فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
تُلامُ الحركةُ لأنها ليست فوق الملامة؛ ولأنَّ ما سارت فيه بإرادة فرديّةٍ مُتغطرسة استجلب الخراب، وأورث المنطقة كلَّها ما تحتاجُ عقودًا لمداواته. وما فى الإصرار على تنزيهه إلَّا إشارة مُزعجة لمراميه البعيدة، وما كان مُضمَرًا فيها من أهدافٍ "فوق فلسطينية" منذ الرصاصة الأُولى.
حجمُ العملية كان أكبر من قدرات حماس، وارتداداتها المُتوقَّعة أضعاف ما يستطيع القطاع احتماله. أراد القسّاميِّون لها أن تكون "أُمَّ المعارك"؛ مُراهنين غالبًا على وفاء محور المُمانَعة بتعهُّداته، وعلى أن تتكفَّل "وحدة الساحات" بخَلط الأوراق، وتضخيم المحرقة حتى يتطاير شررها فى الأرجاء.
وبعدما وقع الخذلان ثقيلاً وصادمًا على رأس الحركة؛ فيبدو أنها قرَّرت أن تُحقِّق هدفها من طريق غير مُباشرة. دعا محمد الضيف إلى إشعال الجبهات العربية جميعًا، وحرّض خالد مشعل على دخول الأردنيين فى قلب المواجهة. والدفاعُ اليومَ عن خلايا إرهابية يُعيد تعريف الوقائع بأثرٍ رجعىٍّ، ويُشكِّك الناظرين للمشهد الآن، فى نوايا صانعيه الحقيقية صبيحة السابع من أكتوبر.
لو كانت عمليّةً محدودة وتضخَّمت منهم بدون قصد؛ فالأوقع وقتَها أن يسعوا إلى الهبوط الناعم، ويُغلِّبوا السياسة على السلاح، ويعتصموا بالدائرة العربية بأكثر من اعتصامهم بالشيعية المُسلَّحة. والأرجح أنها راهنت على الانفجار لا الحَرق المحدود، ولأنها لم تكن مُنسَّقةً بالكامل، أو انفرد فيها السنوار بالموعد والتفاصيل، فقد طُرِحَت من أولويات المُمانِعين سريعًا، واستُعيض عن حرب المحور الوقتيَّة المُباشرة، باستدراج الآخرين إليها ببطءٍ واشتغال متدرج.
يقفز البيان على حقائق ساطعة؛ أولها الشراكة فى الإدانة. خلايا الأردن أعضاء فى الإخوان، وتلقوا التدريب فى الأردن، ما يعنى أنهم اتصلوا بالحزب أو الجماعة الإسلامية أو فرع الحركة نفسها هناك. وهكذا؛ فإنها جزء من حكاية الاختراق، وليس وسيطًا نزيهًا ولا شاهدَ نفى.
التهمة تمسُّها كما تمس المُتّهمين الأصليِّين، وبعيدًا من انعدام جدارتها بتبرئتهم؛ فإنها فى واقع الأمر تكون بموقفِها الأخير أقربَ لمن يتبرّأ أو يُبرّئ نفسه؛ حتى أنها تندفع من دون تفكير لتثبيت الصِّلة بين الطرفين، على خلاف ما تزعمه الآن ومنذ ثمانى سنوات.
فى العام 2017 عدَّل الحماسيِّون أوراقهم، وادّعوا فك الارتباط مع التنظيم الدولى للإخوان. اليوم يفعلون العكس، ولا معنى لدفاعهم عن عصابةٍ هدَّدت أمن بلدٍ مجاور؛ إلا أنهم لا ينشغلون بالدول وأمنها وشعوبها، ويضعون الانتماء العقدىَّ الولائىَّ فوق المصالح الوطنية الاستراتيجية، والأيديولوجيا قبل القضية والسياسة. يُغلّبون الصِّفةَ الإخوانية على الفلسطينية، ويُقدِّمون التزاماتهم بمُوجَب الاندراج فى مشروع الجماعة، على واجباتهم تجاه فلسطين ومشروعها التحرُّرى.
قد يُفهَمُ من بيان الحركة أنه يُعبِّر عن الانحسار وضيق الخيارات. ملجأ الغريق بينما يُشرِف على الهلاك، والتخبّط حتى لو تسبَّب فى جنايات أكبر. وأقولُ إنه مفهومٌ وليس مُبرَّرًا؛ لأنه من طرفٍ خفىٍّ ينُمّ عن الأولويات الحقيقية. إذ يتأتّى غالبًا من رغبةٍ فى إنقاذ الإخوان، ومُبادرةٍ لتوظيف القضية وفوائضها العاطفية فى إسناد التنظيم، قبل تداعيه فى واحدة من حواضنه الأخيرة.
حماس ليست محلّ إجماعٍ داخل فلسطين؛ لتفترض أنها مُجمَعٌ عليها خارجها. كما أنها لا تملك رفاهية إنقاذ غيرها؛ إلَّا لو كانت تُقدِّم الأخونةَ على غزّة وأهلها، وتُخلِصُ لمَلشَنة الدول أضعاف ما تتطلَّع لدَولنة الميليشا؛ أىْ لاستيلاد الدولة الفلسطينية الضائعة، والتحوّل إلى كيانٍ سياسىٍّ طبيعى فيها؛ وليس نتوءًا عقائديًّا يتسلّط على الجغرافيا والبشر.
دعوتُ فى مقال بالأسبوع الماضى؛ إلى أن تتصدّى المملكة للمسألة بحَزم، وأن تُحرِّك ما كان مُعطّلاً لخمس سنواتٍ مضت. وقصدتُ الشطبَ على الإخوان كجماعة، والنظر فى أمر حزب جبهة العمل الإسلامى كذراعٍ سياسيًّة لها، ومسربٍ جانبىٍّ تُمرِّر منه أهدافها.
لم يكن الوضع القائم مثاليًّا، وتُرِكَ الحَبلُ على الغارب لفصيل مُنحطٍّ مع افتقاده للشرعية القانونية والأخلاقية أيضًا. حسنًا فعل الأردن أمسِ بالاستدراك على نفسِه وحلّ الجميعة، أو بالأحرى تفعيل حُكم محكمة التمييز الصادر فى 2020؛ بما اشتمل عليه الإجراء من مصادرة الأُصول والممتلكات، وحظر النشاط، وتجريم الانتماء أو الترويج وتداول أخبارها عبر وسائل الإعلام والمنصّات الاجتماعية.
إخوان الأردن أنفسهم دافَعوا من وراء ستار، وكانوا أقلّ تبجّحًا من الحماسيِّين. ربما نختلف على حقّ الحركة فى الانفصال عن السياق، والتغرير ببيئتها جرّاء العُصابيّة والعِصابية التى تُهيمن عليها؛ إنما لا خلافَ بشأن عدم أحقيّتها فى تعميم الأيديولوجيا والخراب، وفرض رؤاها الضيقة على الآخرين.
ليس من حقها أن تُجبر غيرَها على تصوّرها عن القضية، ولا على شكل النضال وطريقة المُؤازرة. وعليها أن تُراجع نفسَها ألفَ مرّة؛ لا لأن بيانها اختلف عن الفرع الأردنى فحسب، بل لتلاقيه مع بيان مجموعة المكتب العام (جبهة الكماليين)، وهى جناح إرهابىٌّ مُدانٌ بأحكام قضائيّة فى مصر، ولا معنى لمُقاسمته الموقف والخطاب؛ إلا أنهما من طينةٍ واحدة.
لا تُنصَرُ القضايا بتفكيك المجتمعات ومَلشَنَتِها، ولا بإعادة إنتاج مأسى المُمانَعة وخطاياها. المُزايدة والابتزاز لا يكسبان أرضًا، بقدر ما يُعكّران الماء مع الجوار. والرسالة التى يُحمَل عليها الكلام أنَّ الحماسيين يعملون ضد أنفسهم وبلدهم وأصدقائه، وأنَّ "الطوفان" كان مؤامرةً كاملة، وقفزة عمديّة فى النار، قُصِدَ منها إرباك المنطقة ولا شىء آخر.
خصومةُ القضية العادلة ليست مع الظالم فحسب؛ بل أيضًا مع مَنْ يُشوِّهونها بالمواقف الرعناء والخيارات الطائشة، ويُفتِّتونها من داخلها، ويتربَّحون بها أو على حسابها.. حماس تنحرف عن جادة الصواب، وعمَّا يُفترَض أن تُمثّله من قِيَم وأولويات، وما يقع فى صلب اهتمامات الفلسطينيين وشواغلهم. قد يغفرُ الأردنُ سقطةَ الحركة، كما غفرت لها مصر سوابق أفدح وأنكى؛ إنما عليها أن تتوقَّف مع النفس، وأن تحتكم للعقل، وتُراجِع ما تورّطت فيه عفوًا، وما جُرَّت إليه عن سابق تنسيقٍ وإصرار.
القَطيعةُ الكاملة مع الإخوان لم تعُد رفاهيةً تقبل الجدل والمُراوغة، والانفلات من ربقة المُمانَعة والشيعية المسلحة أيضًا. معرفةُ العدوِّ من الصديق ضرورة دائمة، تُعزِّزُ الظروفُ القاسية اليومَ من إلزاميّتها.
ليس أقلّ من بيان اعتذار للمملكة، ومن استشعارٍ حقيقىٍّ وصادق للندم، واسترضاء للغزِّيين المنكوبين بكلِّ صور الترضية المُمكنة. أكّدت الوقائع أنَّ الابتزاز يُفرّق ولا يُجَمّع، وأنَّ الأُصوليّة تمضى بالقضية من سيّئ لأسوأ.
وإذا طاشت البندقيَّةُ ووقع المحظور فى السابق؛ فلا مُبرّر لاستمراء الخطيّة، وتضييع الرُّشد، والاندفاع وراء قيادة داخلية قليلة الحظّ من الفهم والعقل، أو أوصياء خارجيين ثبتَ بالدليل أنهم يُقامرون بفلسطين والإقليم والبشر والحجر؛ ويخرجون دائمًا بأقل الأضرار، وربما يصفقات مع الشيطان الأكبر؛ بينما يتركون لنا الصراع على الأطلال وأكوام الرَّدم والأشلاء.

Trending Plus