من تاريخ الخوارج «1»

لا سبيل لفهم فكر الحركات التكفيرية عبر التاريخ بغير الانطلاق من فهم تاريخ وفكر حركة الخوارج فى التاريخ الإسلامى الباكر.. وإن كان تاريخ تلك الحركة قد قُتِلَ بحثًا وكتابة، إلا أن ثمة أسئلة تحتاج إلى إعادة طرح من حين لآخر.
أسئلة مثل «كيف نشأت بهذه السرعة - فى مرحلة مبكرة جدًا من قيام الدولة الإسلامية - فرقة منشقة تعادى كل تيارات المسلمين المعاصرة لها، وتصم بالكفر كل من عاصروها من الجيل الأول من المسلمين الذين تلقوا الدين مباشرة عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام؟ لماذا تجاوزت تلك الفرقة مراحل للمعارضة مثل النقد الحاد والانعزال و«قفزت» مباشرة إلى القتل كحل جاهز للاختلاف؟ لماذا يعتبر كثير من المحللين المعاصرين - ومنهم كاتب هذا المقال - أن فكر حركة الخوارج هو بمثابة الفكر التأسيسى لكل حركات الإسلام السياسى المتطرفة اللاحقة؟».
الحقيقة أن تاريخ الخوارج تحتاج قراءته إلى الرجوع بالزمان لما قبل نشأتها «رسميًا»، بل وحتى قبل نشأة حركة «القراء» التى من رحمها وُلِدَ الخوارج.
أرجو ألا يندهش القارئ العزيز إذا قلت له: إن جذور تلك الحركة تبدأ عند المرحلة الأخيرة من حياة وبعثة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وبداية عصر الخلافة الراشدة، بل لا أرانى مبالغًا لو تتبعت الجذور إلى ما قبل ذلك.
مبتدأ الأمر ومنطلقه كان «القبلية والعشائرية»، ولئن كانت دعوة الإسلام قد أعلنت اتساع نطاقها لما هو أكبر من القبيلة والعشيرة، فإن هذه الدعوة كانت لا تسعى للقضاء على الانتماء القبلى أو العشائرى، وإنما كانت تسعى لتحقيق التوازن بين الأخوة فوق القبلية من ناحية، واحترام الروابط الاجتماعية القائمة والموروثة من ناحية أخرى، بل إن دعوة الإسلام قد بدأت بـ«أنذر عشيرتك الأقربين»، فكانت بداية الدعوة موجهة لعشيرة بنى هاشم القرشية أولًا، ثم اتسع نطاقها لتخاطب قريشًا، وسائر الناس بعد ذلك.
وعندما وجهت الدعوة برد فعل قرشى عنيف- ماديًا ومعنويًا-لعبت العشائرية دورها، فقد إنحاز بنو هاشم- مؤمنهم وكافرهم- إلى الرسول، فمن لم يؤمن به نصره لصلة الدم، وتمثل رفض بعض العشائر القرشية للدعوة فى قول عمرو بن هشام المعروف بأبى جهل- سيد عشيرة بنى مخزوم- أنه لن يؤمن بنبى من بنى هاشم، وعندما أبرم سادات قريش صحيفة «المقاطعة» - لا بيع ولا شراء ولا نكاح - وجههوها ضد كل بنى هاشم، الذين حوصروا فى بعض شعاب مكة، وإذ ارتفعت بعض الأصوات العاقلة بين سادات قريش لوقف الشقاق، تطالب بأن «خلوا بين هذا الرجل وما يريد»، كانت حجة أصحاب هذه الأصوات أن الرسول إن انتصر «فهو منكم وعزه عزكم».
وعندما أعيت سادات قريش من غير بنى هاشم الحيل، ودبروا اغتيال الرسول، حرصوا أن يمثل منفذو الاغتيال عشائر قريش، فلا تقوى عشيرة بنى هاشم عليهم، فى نوع من الإعلان المتطرف عن الإجماع القبلى.
وفى الهجرة للمدينة، يصف الدكتور حسين مؤنس فى كتابه «تاريخ قريش» الحدث بأن قريشًا شابة راحت تنشأ فى المدينة المنورة، تتمرد على قريش العجوز فى مكة، مما يعنى أن «خريطة جديدة للعلاقات العشائرية داخل قريش» كانت تُرسَم.
وعند بناء مجتمع المدينة الجديد، راعت الصحيفة التأسيسية للدولة الإسلامية الوليدة العلاقات الداخلية السابقة للهجرة، فتأسس نظام تصنيف المسلمين إلى «مهاجرين» و«أنصار»، ثم المؤاخاة بين كل مهاجر ورجل من الأنصار، وكذلك فى احترام الزعامات القبلية فى استمرار معاملة سادات قبيلتى الأوس والخزرج كممثلون للقبيلتين، واختيار اثنى عشر نقيبًا يمثل كل منهم عشيرته.
وبعد فتح مكة، وانتشار الإسلام فى قريش، عندما قرر تحالف قبيلتى هوازن وثقيف غزو مكة، خرج القرشيون جميعًا- مؤمنهم وكافرهم- مع الرسول لتوجيه ضربة استباقية للقبيلتين، فقد ضمت الصفوف بعض من لم يكن الإيمان قد استقر فى نفوسهم، مثل أبوسفيان بن حرب، أو من لم يكونوا قد آمنوا بعد، مثل صفوان بن أمية، وهم نفس من حاربوا الرسول حتى الأمس القريب، لكنهم خرجوا معه نصرة لوحدة القبيلة، والقارئ لتاريخ العرب يلاحظ ذلك التوازن- الذى يخطئ البعض، فيحسبه تناقضًا- بين الصراعات العشائرية داخل القبيلة الواحدة من ناحية، وتداعى نفس العشائر المتصارعة لنصرة بعضها بعضًا أمام عدو غريب، من ناحية أخرى، فالقبيلة قد تقبل فى قانونها أن تبلغ أعتى درجات البطش فيما بينها، إلى حد القتل، بينما قد تشن حربًا لمجرد تعرض أحد أبنائها- وإن كان من عشيرة منافسة- لإهانة من قبيلة منافسة، وهو ما عبر عنه بعد ذلك بعقود الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبى سفيان، عندما زجر رجلًا غير قرشى سب على بن أبى طالب أمامه، فلما قيل لمعاوية: «ولكنك تسبه» أجاب: «أنا آكل لحمى ولا أوكله!».
قلتُ فى بداية المقال إن الجذور الأولى لحركة الخوارج ترجع للفترة الأخيرة من حياة الرسول محمد، وبدايات عصر الخلفاء الراشدين، وتحديدًا ما يُعرَف بحروب الرِدة، وهو وصف غير دقيق تمامًا لتلك الحروب، فالحركات المتمردة لم تكن كلها «مرتدة عن الإسلام» بالمعنى المباشر، بل تنوعت بين ردة صريحة من البعض، ورفض لدفع الزكاة من غيرهم، والتفاف حول مدعين النبوة من البعض الآخر.
تلك الصور الثلاث من التمرد كانت القبلية منطلقها، وكانت «مشكلة» المتمردين ليست مع الإسلام، وإنما مع الانتماء القرشى للرسول، والحسد لقريش على مكانتها وصدارتها تسبق الإسلام، إلى درجة أن كتب تاريخ العرب قبل الإسلام تذكر قيام قبيلة ثقيف بتقديم الدعم لحملة أبرهة الحبشى المتوجهة لغزو مكة، وكانت ثقيف تهدف من ذلك أن تحتل مدينة الطائف مكانة مكة، وأن تحتل ثقيف مكانة قريش،
فلما استشعرت زعامات بعض القبائل اقتراب أجل الرسول، ثم بلغها خبر وفاته، رأت فرصة سانحة للإعلان عما بداخلها.
كيف جرى ذلك؟ وما علاقته بالخوارج؟
للحديث بقية فى المقال المقبل إن شاء الله.
Trending Plus