بيتهوفن الأصم ملأ الدنيا أنغامًا.. اكتشف حكاية مقولة جوتة واحد وبيتهوفن واحد

لم يبلغ أحدًا من نجوم الموسيقى لم يبلغ ما بلغه لودفيج فان بيتهوفن من شهرة خلال حياته، تضاعفت على مر الأيام حتى يومنا هذا، حتى أصبح رمزًا للفنان الذى يتوفر على فنه في وجه المصاعب المالية والصحية، ويضحى بعلاقاته الاجتماعية وحياته العاطفية فى سبيل إخراج درره الموسيقية، ومع ذكرى وضع بيتهوفن معزوفة البيانو الشهيرة فى عام 1810م، نستعرض لمحة من حياته.
بيتهوفن لم يختر تلك الصورة لنفسه، بل إن ظروفه ومسار حياته هي التي فرضتها عليه فرضًا، ولكن ساهم فيها أيضًا حبه الجامح للحرية مما جعله لا يطيق أن يخضع لأية قيود سياسية كانت أو اجتماعية.
ومن أشهر الأحداث التي تبين ذلك، إعجابه الشديد بقائد عصره نابليون بونابرت، الذي استطاع أن يلم شمل فرنسا بعد عصر الإرهاب ويصنع منها دولة قوية متحدة، فأهداه بيتهوفن سيمفونيته الثالثة في بداية الأمر، ولما سمع الموسيقار أن نابليون قد توج نفسه إمبراطورًا، أعلن أن القائد قد خان مبادئه الديمقراطية، ومحا بيده اسم نابليون من صفحة سيمفونيته، وسماها بدلًا من ذلك بسيمفونية البطولة، وقال إنها لذكرى رجل كان عظيمًا!، بحسب كتاب "بين الفن والأدب" لماهر البطوطي.
ولا شك أن السائر على خطى بيتهوفن لا يحتاج كثيرًا إلى الذهاب إلى متاحفه والمدن التي عاش فيها، ففي وسعه الاستماع إلى روائعه الموسيقية أينما كان، كما أن التعرف على حياته والتمتع برؤية متعلقاته ستحمل المعجب به إلى مدينتين: بون في ألمانيا، وفيينا عاصمة النمسا.
ومتحف بيتهوفن الأساسي هو المنزل الذي وُلد فيه في مدينة بون، وعاش فيه حتى رحيله النهائي إلى فيينا، ويتجوَّل الزائر في أبهائه التي شهدها الموسيقار العظيم في صباه وشبابه المبكر، ويرى مئات الأشياء التي كان يستخدمها في حياته اليومية، والآلات الموسيقية التي عزف عليها، ومنها فيولين نادر كان محببًّا إليه حتى أنه ختمه باسمه. كما يضمُّ المتحف أكبر مجموعة من المخطوطات الأصلية بخط بيتهوفن لمؤلفاته الموسيقية. ومن حسن الحظ أن هذا المبنى لم يُصَب بسوءٍ في أثناء القصف الذي تعرَّضت له المدينة في الحرب العالمية الثانية. وهناك تمثالٌ ضخمٌ لبيتهوفن بالقرب من متحفه.
وقد وُلد بيتهوفن في 17 ديسمبر 1770م في تلك المدينة، وقد برع في دراسته الموسيقية، مقتفيًا خطى جده الموسيقي وليس أبيه، وأتيح له تقديم أول حفل موسيقي وهو في التاسعة من عمره، رغم أن أباه قدَّمه على أنه في السابعة حتى يزيد من إعجاب الناس بنبوغه المبكر.
ورغم أن نجاح بيتهوفن في نشاطه الأول لم يكن كبيرًا، فقد وضع الكثيرَ من المقطوعات، كما نشر أول ثلاث أسطواناتٍ من تأليفه وهو في الثالثة عشرة من عمره فحسب، وجذب ذلك النبوغ المبكِّر اهتمام كبار الموسيقيين، فتولَّوه بالرعاية والتشجيع، فتتلمذ على يد واحدٍ منهم هو «نيفي»، الذي سرعان ما أوصى بضرورة أن يتوجَّه إلى عاصمة الموسيقى في كل زمان، فيينا. ويتضافر بعض نُبلاء مدينة بون كي يحققوا ذلك، فيسافر بيتهوفن إلى فيينا عام 1787م.
وزاد إعجاب الناس بفنِّه وإنتاجه بقدر ما أزعجهم سلوكه الاجتماعي الغليظ الذي يقترب من الفظاظة، وتُحكى عنه قصص كثيرة من سوء معاملته، وعدم اهتمامه بمظهره، وهيامه في الطرقات وهو يُهمهِم بالنغمات التي يسطرها بعد ذلك في نوتة صغيرة يحملها معه دائمًا لمثل هذه المناسبات.
وكان يرفض حتى تحية النبلاء والأثرياء، ويعتبر ذلك تذليلا لهم، وله قصة مشهورة مع شاعر ألمانيا الكبير «جوته» حين كانا يتمشَّيان معًا في مدينة بالقرب من «كارلسباد»، حين تنحَّى جوته عن الطريق كي يُحَيِّي شلَّة من النبلاء، الذين لم يُعِيروه التفاتًا بينما توجَّهوا بالتحية إلى بيتهوفن الذي مضى في طريقه ولم يردَّ عليهم، وقال بعد ذلك لجوتة معاتبًا: "هناك جوتة واحد وبيتهوفن واحد، أما هم فهناك الآلاف منهم".
ثم يطرأ تغيُّر خطير على حياة بيتهوفن؛ إذ بدأ يشعر أن سمعه يضعف تدريجيًّا، وهو ما تأكّد له بعد ذلك بالفحص الطبي، وجاء ذلك ضربة شديدة لطموحه الفني قلبت حياته رأسًا على عقب.
وكان رد فعل بيتهوفن الأوَّلي عنيفًا، إذ اعتكف في المنزل الذي كان يسكنه وقتها، وكتب خطابًا لم يرسله موجَّهًا إلى أخوَيه، وهو عبارة عن وثيقة حادة اللهجة يصف فيها الظلم الذي أنزلته به الحياة، وكيف أنه كان قد قرر الانتحار، إلا إنه استقر على أن يعيش لفنِّه ويحيا به.
والمل الوحيد فى تلك الكارثة التي حلّت ببيتهوفن هو أنه قد توفر على التأليف الموسيقي بدلًا من صرف وقته في إحياء الحفلات عازفًا موسيقاه وموسيقى غيره.
وقد حملته مرارة فقدان سمعه على الدخول في عالم جديد من الألحان التي لم تسمع من قبل، والتي زخر بها الطور الثاني من إنتاجه (1806–1812م)، الذي يشمل سيمفونياته من الرابعة حتى الثامنة التي تبرز من بينها السيمفونية الخامسة بافتتاحيتها الشهيرة، والسيمفونية الرَّعوية التي استلهم مؤلفها الطبيعة الساحرة للغابات المحيطة بفيينا والتي كان يعتكف فيها مناجيًا الأشجار والطيور والمياه الرقراقة.
كما وضع بيتهوفن في تلك المرحلة الأوبرا الوحيدة التي ألفها وهي «فيدليو»، وافتتاحية مسرحية جوتة «إجمونت»، وصوناتة كرويزر، ومقطوعة «إلى إليز» التي أصبحت من أشهر مقطوعات البيانو الخفيفة، وذلك ضمن عشرات الأعمال القصيرة الأخرى.
ويبدأ الطور الفني الأخير لبيتهوفن حوالي عام 1816م، وتتميز أعماله فيه بدرجة أكبر من العمق والتعقيد، وتعتبر درة هذه المرحلة سيمفونيته التاسعة التي استغرق تأليفها منه ست سنوات وأتمَّها في 1823م، وقد أدخل فيها لأول مرة في الفن السيمفوني الكورال الذي غنى مقطوعة «نشيد للبهجة» من تأليف الشاعر الألماني شيللر.
وقد أمضى بيتهوفن عامه الأخير فريسة للمرض، وتوفي في 26 مارس 1827م في ليلة عاصفة مرعِدة، وشيع جثمانه ثلاثون ألف شخص حيث وري الثرى في ركن الموسيقيين بمقبرة فيينا المركزية، التي تضم أيضًا رفات شوبرت وبرامز، ولا يحمل شاهدُ قبره إلا كلمة واحدة: بيتهوفن.
Trending Plus