أبواب مفتوحة وشبابيك مستباحة.. عن حماس والمنظمة بين الإصلاح والصلاحية فى فلسطين

بيتٌ كبير بحديقةٍ فسيحة، لكنه يُدخَلُ إليه دومًا قفزًا على السور، أو تسرُّبًا من النوافذ الخلفيّة. عُقدة فلسطين أنها ظلَّت تُؤتَى من غير الطرق المستقيمة، وما تزال، وهذا فى النضال كما فى الاحتلال.
قُل ما شئتَ عن الظروف والتحديات، وعن المُواءمة والتناسُب، لكنها على ما يبدو صارت حقيقةً مُلازمةً لها، ولو بحثنا فى التاريخ القديم سنجدُ الحكايةَ بحذافيرها، عندما كانت سبيلاً للخروج من مصر مثلاً إلى عالم الشام الفسيح وما وراءه، أو للدخول إليها من شبه الجزيرة وأرض الأعاجم فى الأناضول وفارس.
مهمَّةٌ دائمًا، لكنها لا تُطلَبُ لذاتها، وأقربُ إلى المُشهِّيات أو الأطباق الجانبية. حتى زراعة إسرائيل فيها كانت لغايات أكبر من الدولة المُلفّقة، وتتّصل بطموح الغرب فى قاعدةٍ مُتقدّمة.
ليس أغرب من نظرة الآخرين لها تحت هذا السقف، إلَّا أنَّ كثيرين من أبنائها لم ينجحوا فى تجاوزه، والخروج بها لِمَا فوقه، بما يعنيه من الكيانيَّة الخاصة والاستقلال النفسى، وأنهم جزءٌ من خريطة، لا زائدة دودية فائضة عن حاجتها وتركيبها السليم.
لا يقفُ التاريخ الإسلامىُّ طويلاً أمام إطلالة الدولة الوليدة على ساحل المُتوسِّط من أرض كنعان فى قاعدتها الجنوبية. لسهولة تحصيلها أو لأنها لم تكن غنيمةً كُبرى وقتها، المهم أنَّ الطموح تركَّز على قلب الشام شرقًا ووادى النيل غربًا. وسليم الأوَّل قضمَ تفَّاحة دمشق ثم منها للقاهرة، رغم أنَّ فلسطين كانت طريق المماليك إلى المعركة.
اليهود تدفَّقوا تحت الراية العثمانية، مُستغلِّين سيولة الإمبراطورية المريضة وانفتاح حدودها، والإنجليز وَعَدوا ثمَّ أمّنوا وعدَهم بالانتداب، لحين اكتمال الصهيونية وتجسُّدِها على أرض الواقع.
الثوَّار الأوائل رأوا أنها فضاءٌ عقائدىٍّ يُقتَطَع من حظيرة الدين، والعرب ثاروا دفاعًا عن مُلحقيَّة لا بلدٍ كامل الأهلية. وتحت خيمة القوميَّة صار الصراعُ على شعارٍ أكبر من الأرض وساكنيها، وجرّب عُشَّاقه الفلسطينيِّون كلَّ صور النضال، إلَّا أن يكون فلسطينيًّا خالصًا، ومن الداخل. بينما ظلَّت المُناكفة الأُصوليَّة تتحيَّن الفُرَص، حتى تيسّر لها أن تُلَوِّن المأساةَ بألوانها الخاصّة فى زحمة الانتفاضة الأُولى.
كانت مُنظَّمة التحرير تغيُّرًا كبيرًا فى المسار، رغم ما شابها من أخطاء البدايات، وما تعثَّرت فيه قبل أن تصفو لنفسها وتستقرَّ على شاطئٍ واضح. واليومَ، يُمكن القول إنَّ تاريخ القضية قد صار وثيقَ الصِّلَة بتاريخ المُنظَّمة، ومن قبل نشأتها أصلاً.
كأنَّ فلسطين كانت فى صراعٍ دائمٍ بحثًا عنها، ثمَّ فى صراع تالٍ لاستثمارها وحمايتها وإبقاء صوتها عاليًا. بُنِيَت على أكتاف شبابٍ قليلى الخبرات، كبروا فيها ونضجت بنُضجهم، وحقَّقت لنفسها وآلاف المنكوبين ما كان مُستحيلاً عليهم لعقودٍ سالفة، بأن تتجسَّد الفكرةُ فى بيئتها، وتُمارسَ وجودَها المادىَّ والمعنوىَّ فى حيِّز منظورٍ بين النهر والبحر، ولو ظلَّ خافتًا ومُطوَّقًا بالنار. الاختناقُ نفسه وأكثر كان رفيقهم بين العواصم، ولا ضيق يختلفُ عن آخر، ولا فسحةَ أوسع من براح الوطن، وإن كان مُحتلًّا.
قيمةُ مُنظَّمة التحرير أكبر من مجموع أعضائها، ورمزيَّتُها تتخطَّى فكرة السلطة السياسية، أو المشروعية القانونية الناشئة لاحقًا عن اتفاقية أوسلو. إنها فى الجوهر الأهمِّ رسالةُ أمل، ودليلُ قدرةٍ على التجميع والاتحاد، وعلى تخليق البدائل من ركام التجارب الفاشلة.
شتلةٌ وطنية خضّرت أرضًا خضَّبتها الدماء، وأعادت لها الثقةَ فى مَقدرتِها على استنبات المُمكن من المستحيل، وإبقاء القضية بعُدَّتها الكاملة، والوقوف على قدم المُساواة مع الغريم، ولو كان ميزانُ العالم مكسورًا وضميرُه مُختلًّا.
إشارةٌ بأن أصحاب الحقِّ ليسوا مُجرَّد بنادق، مع مشروعيَّتها، وأنهم لا يفتقدون القدرةَ على الاجتماع والوفاق، وعلى تنظيم أنفسهم، والمُحاججة بالحياة والانضباط، وكلِّ اللغات التى يفهمها الكوكب الظالم، وبالمظلومية الثابتة واقعًا وتاريخًا، وقد حُيِّدَت القوَّة، أو اتَّسعت فيها الفوارق بين الطرفين.
والحال، أنها لا يصحُّ أن تكون موضوعًا للتنازُع من الأساس. يجوز الاختلاف فيها قطعًا، إنما ليس عليها. لقد صارت واحدةً من أُصول فلسطين الكبرى، ورصيدًا يحتار العدوُّ ذاتُه فى تبديده أو شطبه من الحسابات.
صارت ثابتًا يُمكن البناء عليه، بل يتوجَّب، ويُرذَلُ الضرب فى قواعدِه وتقويضها، أو السعى إلى تهديمه لأغراضٍ خفيّة أو ظاهرة. وثباتُها إنما ينبعُ من كَونها ثمرةَ نضالٍ طويل، وخيمةً جامعةً فى عراءٍ شاسع، وعنوانًا واحدًا يُمكن الوصول لفلسطين من خلاله، ويُمَكِّنُها من الوصول للعالم أيضًا.
لهذا، لم يكُن بريئًا أن تختصِمَها حماس منذ النشأة، ولا أن تُصوِّبَ عليها لأكثر من ثلاثين سنةً دون انقطاع. ولا حجَّة هُنا لهزالِها واتِّضاع مكانتها بعد عرفات، لأنَّ الأُصوليِّين لم يتوقَّفوا عن القدح فيها على حياة رمزها الكبير، والفارق الوحيد أنه كان مُشِعًّا لدرجة تحييد أضوائهم، هادرًا بما يكفى للخصم من خطابتهم الزاعقة، ويملك من الكاريزما والقبول ما يُحيل حضورَهم غيابًا، أو رمادًا تذروه الرياح. بينما الجبلُ لا تهزّه ريح، كما كان يقول.
لا أحدَ فوق فلسطين، أكانت حماس أم المُنظَّمة نفسها، لكنَّ القضية ليست سؤالاً مُعلَّقًا فى الفراغ، ولا حكايةً أُسطوريَّةً متروكة لاجتهادات الخيال. الجغرافيا مُسيَّجة بحدودٍ وتواريخ، والمأساة مفتوحةٌ على جهات الأرض الأربع، والطريقُ إلى الوطن تمُرُّ وجوبًا من الأحراش وحقول الألغام، فإمَّا أن تكون قادرًا على المُناورة والنجاة، أو جاهزًا للالتفاف وخَوض الأهوال لمسافاتٍ أطول.
وإذ تبدو فلسطين بعيدةً على الجميع ماديًّا، فإنها قطعت شوطًا معنويًّا بعيدًا بالكيانيَّة الرسمية المُجسَّدة فى مرافقها النظامية، ولا حصافةَ فى إزاحة القائم طمعًا فى المجهول، ولا براءة لطموحات الارتداد بالجميع إلى نقطة الصفر.
والقَصدُ، أنَّ المُنظَّمة جهازٌ سياسىٌّ وتنفيذىٌّ مُتحقِّقٌ فعلاً، وله الشرعيّة والولاية. تخالطُه العِلَل وأمراض الشيخوخة ربما، لكنه ليس عَصيًّا على الإصلاح والتعافى. البحث معها عن القتل الرحيم مُؤامرةٌ كاملةٌ، يتشاركها بعضُ الصاخبين مع عدوٍّ جارح، وادِّعاء التطلُّع إلى مُداواتها لا يستقيمُ مع البقاء بعيدًا منها، أو التصويب عليها من الخارج.
اختزالُها فى شخص الرئيس عباس أو فصيلِه تدليسٌ كامل، لأنها أكبرُ منه وأبقى، والتنافسُ معها من أرضيَّةٍ فصائليَّةٍ يشقُّ الصفَّ، ويطعنُ فى الكبير ولا يُضيف إلى الصغير. باختصارٍ، قد تتضرَّر بالحرب الحماسيَّة عليها، أو هى تتضرَّرُ فعلاً، لكنَّ الحركة لا تزيد بهذا حجمًا ولا أثرًا.
نتنياهو يكره أوسلو وروائحَها، ولا يتوقَّف طويلاً أمام إخفاق مسارها عمليًّا. حرَّضَ على «رابين» حتى صعد للحُكم فوق جثّته، وينزعج لأنَّ ميراث عرفات ما يزال حاضرًا فى رام الله.
الهشاشةُ خطابٌ بلاغىٌّ نختصم به فيما بيننا، لكنَّ الوحش الكاسر لا يرضَى إلَّا بموتٍ كامل. عُقدته مع المُنظَّمة ربما تتخطّى عُقدةَ حماس، فالأخيرة تخوض منافسةً لانتزاع الولاية السياسية وتخزينها فى مخازن السلاح، والصهاينة يتطلَّعون للغاية نفسها، إنما من جهة سَحب الشرعية التى اعترفت بها، وتُؤنِّبُ نفسَها عليها، ووَصْم المجال الفلسطينى كاملاً بالإرهاب وغياب البدائل.
خلال الأسبوع الماضى، عقدت المُنظّمةُ اجتماعًا لمجلسِها المركزى. استبقَه الحماسيّون ببيانٍ يُعلن المُقاطَعة، ويُثير الغبار، والمُفارقة أنهم مُقاطِعون بالأصل، لغيابهم عنها منذ التأسيس، ولعدم اعترافهم بشرعيّتها أو التوافق على أجندتها الوطنية والسياسية.
أفضت المُخرجات إلى تعيين نائبٍ للرئيس، يختاره عبّاس وتعتمدُه اللجنة التنفيذية، وقد وقع الخيار على حسين الشيخ، ومن جديدٍ أصدرت الحركةُ بيانًا مُضادًّا، وصفت فيه العملية كلَّها بأنها من قبيل «نهج التفرّد والإقصاء».
موقفٌ غريب بالكُليّة، وخالٍ من العقل والمنطق، لأنهم يُفتَرَضُ ألَّا ينشغلوا بُمؤسَّسةٍ لا يعترفون به، وإن كان لا بدَّ من الانشغال، فليس لهم أن يعترضوا على اختياراتها الداخلية، اللهم إلَّا لو كانوا يتطلَّعون لاختيار نائبٍ منهم، فى كيانٍ يرفضونُه أصلاً.
وليس معنى انتقاد الحركة هُنا أنَّ المُنظَّمة فوق النقد، بل العكس تمامًا، إنما من جهةِ الدعوة لأن يكون البحثُ ورشةُ جماعيّة، وبانتماء عمومىٍّ صادقٍ وأمين. الحقّ أنها لا تعيشُ أفضلَ حالاتها، وتحتاجُ لهيكلةٍ شاملة وإصلاح مُعمَّقٍ على كلِّ المستويات.
لا تنحلُّ العُقدةُ بتصعيد نائبٍ للرئيس، ربما تفرضُه الظروف اتّصالاً بعُمر «أبومازن» وتعقيدات الصراع مع الاحتلال، إنما ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلّه. وما يُقال فيها ينسحبُ على خصومها أيضًا، لا سيَّما أنهم يعيشون فى حاضنةٍ أيديولوجية مُغلَّقة ومُعقَّمة، ولا تُعرَف لهم آليَّةٌ أو معايير فى الفرز وانتقاء القيادات.
الديمقراطيّةُ غائبة عن حماس نفسِها، ولو ادّعت العكس. إذ حتى لو فعّلَتْها داخليًّا، فإنها تنطلقُ منها لتغييب الخارج العريض بالإجمال، واستلابِه، والانفراد بتقرير مصيره بإرادةٍ فردية، أو بإلزامٍ تُمليه الانتماءاتُ والأُطرُ الولائيَّةُ مع الحلفاء والمُمولِّين.
تحتاجُ الحركة للهيكلة الشاملة أيضًا، وفى البنية والخطاب على السواء. يتوزّع بناؤها على ثلاثة أجنحة، بعضهم ينخرطون فى مشروعِ الإخوان، والبعض تحت عمامة الشيعيَّة المسلّحة، والقليل القليل يُخلصون لفلسطين فى وجهها المُجرّد، ومواجعها وانشغالاتها الخاصة.
ادّعت فى 2017 أنها عدّلت ميثاقَها، لتُقرّ القبول بدولةٍ فلسطينية على حدود يونيو 1967، وما تزال تنتقد المُنظَّمة على أوسلو، والاعتراف بإسرائيل، وعلى سعيها لتجسيد الدولة وفق الإمكانات المتاحة. وحتى صباح أمسِ تُدير لعبة توزيع الأدوار، وتتحدّث بألسنة بعض مسؤوليها عن الأقصى بعدما ضيّعت غزّة، وعن أوهام التحرير الكامل من النهر للبحر، وهى أوّل العارفين أنه حديثُ استهلاكٍ وتدليس وابتزاز للعواطف.
والحال، أنه لا منطقَ للتنابُز بالأمراض، ولا حقَّ لمريض أن يضع وصفةَ العلاج لغيره. وبافتراض أنَّ المُنظَّمة أضعفت القضية، فإنَّ حماس وضعتها على مذبح نتنياهو فى الطوفان.
الفريقان لديهما أخطاء، والحلُّ فى ذهاب الجميع إلى الاعتراف والتصويب، لا فى تطهُّر الجُزء وتعليق خطاياه على الكُلّ. وما يُستَشف فى غزَّة اليومَ، أنَّ القسّاميين يفرضون رُؤاهم على المكوِّن السياسى، والخنادق تحكُمُ الفنادق، أو يُحكَمَان معًا من طهران وغيرها.
تضعُ الحركةُ نفسَها فوق البلد، والأيديولوجيا قبل القضية، ويشغلُها أن تبقى ولو على طللٍ وأشلاء، لا أن تُعيد النضالَ الوطنىَّ لمساره الصحيح، أو تُجنّبَه أعباء الحساب عن مُقامراتها الفردية الخالصة.
عليهم أن يتواضَعوا قليلاً، وأن ينظروا فى المرآة قبل أن يُنَصّبوا أنفسَهم حُكّامًا على الآخرين. حماس ليست الفصيلَ المثالىَّ لتتطوّع بإسداء النصائح دون طلبٍ، وعن حاجةٍ ذاتيّة ماسّة إليها، أو لتكون معيارًا يُقاس عليه، وقاضيًا يوزّع الاتهامات والبراءات.
إخلاصُ الوجه للوطن يقتضى الأخذَ بالأسباب، وأوَّلها اليومَ أن تُرشِّدَ فواتير الدم بكلِّ السُّبل المُمكنة، وأن يُحاسَبَ المُخطئ على خطيئته، بدلاً من تحميلها للمنكوبين العُزّل، وكلُّ ما يُقال باستقامةٍ مُدّعاة لا معنى له من دون السعى للمُصالحة، والمبادرة إليها، وتدعيم الأُصول الوطنية الباقية، والدخول تحت خيمة مُنظَّمة التحرير، لأنها مهما كانت ضعيفةً، فليست أضعف من الفصائل الأُصوليَّة راهنًا، ولا أكثر شُبهةً أيضًا.
وما فاتَ لا يعنى التغاضِى عن وجوبية المُراجعة الصادقة داخل المُنظَّمة، وإعادة تعريفها على وجهٍ يستجيب للتحديات الطارئة، ولا يُفرِّطُ فى الأُصول الركيزة منذ النشأة. المجلس المركزى الذى أقرّ اختيار النائب حلقةٌ وسيطة بين المجلس الوطنى واللجنة التنفيذية، لكنَّ المجال الفلسطينى أوسعُ كثيرًا من الثلاثة.
عليهم أن يفتحوا الباب لاحتواء النافرين، وأن يُثيروا حوارًا مُوسّعًا بشأن حاضر المُمثّل الشرعى الوحيد للشعب والقضية ومُستقبله، والأفكار والاقتراحات المُمكنة للإصلاح والتأهيل. وعليهم أن يستحثّوا كامل القدرات الكامنة، وأن يلحظوا الفارقَ الدقيق بين الانحياز للسياسة، والانفراط تمامًا من المُقاومة فى صورِها الخَشِنَة. التوازن مُهمٌّ ومطلوب، ولُغةُ الخطاب تحتاج لإنعاشٍ عاجل، وفتحُ الأبواب يُقوِّى ولا يُضعِف.
غابت المُنظمةُ عن الاهتمام نسبيًّا. بعد قرار المجلس المركزى ثمَّ اختيار حسين الشيخ، احتفى كثيرون فى الصحافة والإعلام باستحداث منصب النائب، وعدّوه سابقةً تاريخية. وتلك ليست إشارةً للجهل، بقدر ما تُعبّر عن الخفوت وتآكل الرمزيَّة وتأثيرها.
كان المنصبُ موجودًا منذ التأسيس الأوّل مع أحمد الشقيرى، واحتفظ به ياسر عرفات فى صدر تولّيه المسؤولية. شغلَه وقتها إبراهيم بكر، لكنه استقال بعد فترة مُحتجًّا على تغييبه واستلاب صِفَته وصلاحياته. والعودة على أهميتها، فإنها لا تغنى عن التوسُّع فى الأجوبة بما يُغطّى الشواغل الراهنة، والبحث فى الجوهر لا المظهر.
يُمسِكُ الرئيس عباس بعُنق الكيانية الفلسطينية وأقوى مُكوّناتها. إنه قائدُ فتح، ورئيس اللجنة التنفيذية لمُنظَّمة التحرير، ورئيس الدولة ارتباطًا بالمنصب السابق. وفيما يتداول الداخل فى مسارات الإصلاح، فإنه يتردّد الذهاب إلى قسمة العرش على ثلاثة، وفصل المناصب عن بعضها.
ظاهرُ القول يبدو برّاقا وإيجابيًّا، لكنه يفتقدُ للوجاهة والإمكانية العملية. العنوان الفتحاوىُّ يُمكن فصلُه فعلاً، لكن العنوانين التاليين يتلازمان وجوبيًّا، لأنَّ الرئاسة فرع على قيادة اللجنة التنفيذية. والتجزئة إنما تفترض أن يكون الرئيس مرؤوسًا لغيره فى فتح، وفى اللجنة التنفيذية أيضًا، وكلاهما قد لا يستقيم دستوريًّا، فضلاً عن التناسب سياسيًّا، وعن الدلالة غير المُحبّذة بنيةً وسلوكًا وتأثيرًا.
مهمَّة الإصلاح يجب أن تبدأ من التركيبة نفسِها، من علاقة الفصائل ببعضِها داخل المنظمة، وآليات تصعيد المُمثِّلين والقادة. ويجب أن يُفصَل منصبُ الرئاسة عن عضويَّة أيّة حركة، أو عن تشكيلات المُنظَّمة من المجلس الوطنى مرورا بالمجلس المركزى وحتى اللجنة التنفيذية.
الصيغة القائمة أقربُ إلى هيراركى الأزمة، ونشأت عن فلسفة الجبهة المُقاومِة بأكثر من كونها تعبيرًا عن فكرة الدولة النظامية. وهنا يتوجّبُ أن يكون الرئيسُ خارجًا على الفصائليَّة، ليس بمعنى عدم الانتماء من الأساس، إنما بألَّا يكون الاختيار مَبنيًّا على موقعه داخل تيّار بعينِه، أو حضوره فى أروقة المنظَّمة أيضًا.
صارت فلسطين دولةً فى وعى قادتها، لكنها ظلّت حركةً فى مُمارساتهم. صحيحٌ أنها لم تتجسّد بعد، والطريق إليها مُلغّمةٌ ولن تكون ميسورةً لسنواتٍ أو عقودٍ مقبلة، لكنَّ استكمال معالمها على المستوى الداخلى مُقدّمةٌ ضروريَّة للسعى إليها خارجيًّا، وصورة من صور المُقاومة الخلّاقة أيضًا، فضلاً على أنَّ الخيال النضالىَّ يحتاج إلى أن يتحرَّك فى الزمان ولو مُنِعَ عليه المكان، إذ الثباتُ مَقتلةٌ لكلِّ فكرة أو مشروع.
وما يُساق مع المنظمة، يصحُّ بشأن حماس بالحرف والفاصلة. إنها كيانٌ قديم، باهت، تجاوزَه الزمن. يُمكن أن يصخب أو يثير جلبةً، وأن يُدغدغَ العواطف ويستحثّ فى أصحابها فخرَ القرون الوسطى، لكنَّ بقاءه مرهون بديناميكيته، وبقدرتِه على تجاوز ماضيه الخاص، وقبل ذلك الانقطاع عن التجارة الكاسدة فى مَواضِى الأُمَّة الغابرة.
الإصلاحُ ليس رفاهية على الإطلاق، ولا يُنَحَّى بدعوى أنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». إنه مطلوب لغزة أضعاف رام الله، ولحماس قبل منظمة التحرير، والأفضل أن يكونا بالتزامن من أجل فلسطين وقضيتها وشعبها.
الحماسيّون آخرُ طرفٍ يصلُح للقيام بمهامِّ الإنقاذ اليومَ، والسلطة أكثر جاهزيَّةً نِسبيًّا، لكنَّ كليهما لا يستطيعان بحالتهما الراهنة إلَّا أن يمضيا بها خطوةً واحدة بعد المأساة، أو إلى عُمقها، أمَّا المُداواة والنقاهة وصولاً للتعافى فتتطلّب كُلُّها شروطًا أُخرى.
وزبدة القول، أنَّ القفز من الشبابيك ليس خيارًا منطقيًّا لو كانت الأبواب مفتوحةً، لأنه يضعك تحت لائحة اللصوص لا الزوّار وأهل البيت. وأن اللاعبين لا يُسجِّلون الأهداف من خارج الملعب. عليهم الاندماج مع الفريق أوّلاً، والاضطلاع بأدوارِهم فيه، وألَّا يُنَصّبوا أنفسَهم مُدرّبين وواضعى خُطَط، لأنهم عندما انفردوا بالمرمى أحرزوا الهدفَ فى شباكِهم وشباك القضيّة للأسف.
Trending Plus