لصوص وغَرقى بين الطوفان والنووى.. عن الوعيد والاحتيال وما تبقّى من أوهام المُمانَعة

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

انقضت ثلاثُ جولاتٍ والرابعةُ فى الطريق. حتى الآن يمضى الحوارُ بوتيرةٍ هادئة، وردودُ الفعل عليه لا تتجاوز الامتداح والتطمينات. ثمّة إشارةٌ إلى رغبة الولايات المتحدة وإيران فى التوصُّل لتوافقاتٍ مقبولة من الطرفين بشأن برنامج الأخيرة النووىِّ، أو أنهما ما تزالان فى مرحلة العُموميَّات ووَضع الأُطر الأساسية للتفاوض، ولم تقتربا من المفصليَّات والنقاط الخلافية.

وفيما يُراهن كثيرون من الإقليم وخارجه على النجاح، يُزجِّى الصقورُ على الناحيتين خطابًا لا يخلو من سخونة، ويتحسَّبُ اليمين الحاكم فى إسرائيل لتمرير أىِّ اتفاقٍ من تحت أنفه، وتقفُ الميليشياتُ الرديفةُ فى محور المُمانَعة على أطراف أصابعها؛ لأنها محكومةٌ بالجولة الثنائية التى لا تشهدها أو تتحكَّمُ فى مجرياتها، وموعودةٌ باحتمالاتٍ سيِّئة من ورائها، وفى حال الإخفاق كما فى النجاح.

كانت طموحاتُ طهران مُؤطَّرةً نسبيًّا فى السابق بالصفقة التى أنجزتها إدارة أوباما خلال العام 2015، ونقضَها ترامب بعد ثلاث سنوات فقط، وفيما كان يقتربُ من منتصف ولايته الأُولى. وإذ يعود اليومَ إلى الطاولة التى قَلبَها بإرادةٍ فرديَّة؛ فالعودة وثيقةُ الصِّلَة بالتحوُّلات الجيوسياسية فى المنطقة، وليس باعتدال الرؤية أو اختلاف الأفكار والغايات فى العاصمتين.

ولا خلافَ على أنَّ «طوفان السنوار» لعب دورًا مُباشرًا فى ترميم الشقوق والتصدُّعات بينهما. بمعنى أنهما قد يحملان آمالاً وطموحاتٍ ذاتيَّة؛ لكنها لم تكن كافيةً فيما مضى لوَصْل المُنقطع، أو القفز على تناقضاتهما العميقة.

استُدعِيَا إلى الغرفة ولم يُبادرا بالدخول، وفى هذا ما يكفى لتغليب البشارة على الحَذَر، كما فيه أيضًا ما يُهدِّد بإرباك المسار بصورةٍ مفاجئة، وتفخيخه من الخارج بمعزلٍ عن أيّة نوايا بيضاء أو رمادية بين وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى، والمبعوث الأمريكى للشرق الأوسط ستيف ويتكوف.

قبل أيَّام قليلة، كتب مايك بومبيو، رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق ووزير الخارجية فى ولاية ترامب الأولى، مُنتقدًا سلوكَ الرئيس إزاء الجمهورية الإسلامية؛ لا سيَّما أنها فى أسوأ حالاتها، وأقربُ ما تكون للهزيمة الكاملة.

يرى الجمهورىُّ الصّقورىِّ أنَّ صفقةً سيئة ستكون أسوأ من لا صفقة، ومن الواجب على البيت الأبيض أن يحسم الأمور بدلاً من ترحيلها سنواتٍ للأمام. وهذا التصوُّر إنما ينبعُ من إيمانٍ لدى المُؤسَّسات العميقة فى الولايات المتحدة بصعوبة التعايش مع نظام الملالى، وأنَّ الصدامَ آتٍ لا محالة.

والخُلاصة؛ أنَّ تلك النوعيَّة من الرؤى، وبينما تتلبَّسُ عباءة التحليل السياسىِّ والاستراتيجىّ، وتدعو لإثارة كل المخاوف وحسمِها دفعةً واحدة؛ فإنها تنحازُ صراحةً أو بالمُواربة لجهة تقديم الخيار العسكرىِّ على البدائل الدبلوماسيَّة.

خبراءٌ وباحثون كُثر أبدوا عدمَ ارتياحهم للمُداولات الجارية، مُؤكِّدين أنها ستتعثَّر وجوبًا حالما تُوضَع العناوينُ المُرجَأة على الطاولة. والقَصْد أنّه لا قيمةَ لتصفية المسائل النوويَّة بمعزلٍ عن البرنامج الصاروخىِّ، وأنماط اللعب الإيرانية القائمة فى الإقليم.

وإذ من المُرجَّح أن يُثير الأمريكيِّون تلك النقاط مع نُظرائهم بعد قَطع شوطٍ فى الملف الأساسى، وبناء حَدٍّ من الثقة يسمحُ باجتراح التفاصيل المُعقَّدة والقفز على خطوطِها الحمراء؛ فلن يكون بمَقدور إيران إلَّا الاختيار من أمرين لهما ذاتُ الأثر: التسليم الناعم مع ما فيه من تحقيقِ أهدافِ التحييد بصيغةٍ أقرب للاستسلام، أو التحدِّى والمُناطحة بما يقودُ لإعادة تفعيل الخيارات الخَشِنَة، وتحقيق الغايات نفسِها بالقوَّة الغاشمة.

ظلَّ المُرشِدُ الأعلى يرفضُ فكرة التفاوض مع واشنطن/ الشيطان الأكبر، ويعُدُّها فخًّا يكاد يُلامس التفريط والنزول تطوُّعًا عن الكرامة الوطنية. حتى أسابيع مضَتْ كانت الخيار مرذولاً لديه تمامًا، أقلّه فى الخطاب المُعلَن.

أمّا الطرفُ الآخر فيقرأ الوقائع، ولا يكتفى عنها بالرسائل الصاخبة. كان تحييدُ الرئيس السابق إبراهيم رئيسى، وسواء جرى الأمرُ قَدَريًّا أم بقَصدٍ خَفىٍّ، بمثابة إشارةٍ افتتاحيَّة مُبكِّرةٍ إلى تحوُّلٍ فى الذهنيَّة وآليات العمل.

وما يُؤكِّدُ الشكَّ أنَّ الطريق تكاد تكون أُخلِيَتْ لخليفته المحسوب على الإصلاحيِّين، مسعود بزشكيان، وهو أقرب لحمائم المحافظين من الإصلاح على وجهٍ دقيق.
استشفّت طهرانُ أنَّ رصاصةَ «الطوفان» ارتدّت عليها، ويتوجَّبُ التحوُّط والبدء فى تجهيز خطط الانسحاب وإعادة التمَوضُع من جديد.
وخامنئى نفسُه قد طرأ عليه قَدرٌ جَلىٌّ من التغيُّر؛ لا سيَّما لجهة الانتقال من شعار «الصبر الاستراتيجى» تسويغًا لتلقِّى الضربات وعدم التعقيب عليها، إلى عنوان «التراجُع التكتيكى» ترجيحًا لخسارة الأرباح على التفريط فى رأس المال، أو بمعنىً آخر تقديم الفكرة على المشروع، والاكتفاء بالدفاع عن الاستراتيجية الكُبرى للنظام وقلبِها الصُّلب.

والحال؛ أنَّ جوهر الشيعيَّة المُسلَّحة كان يستندُ إلى ولائيَّةٍ عقائديَّةٍ راسخة، كما فى الحالة اللبنانية مع «حزب الله» منذ تأسيسه فى زمن الحرب الأهلية، وتنقُّله من الوصاية السورية إلى انعقاد الراية للعتبات المُقدَّسة مُباشرةً.

وعندما تبدَّلت المنطقة جيوسياسيًّا وتضخَّم شعورُها بالقوَّة وحاجتها للتمدُّد، لم يَجرِ التوسُّع تحت السقف نفسِه. والآن لا يُعرَفُ بالضبط مقدارُ السيطرة على بقيَّة الأذرُع، ومدى استجابتها للوصاية المفروضة عليها من المركز.

الطَّيفُ العراقىُّ مُتَّسعٌ لدرجةٍ لا تخلو من تناقضاتٍ حتمًا، والتفاوت كبيرٌ داخل الطائفة الواحد بين مذهبى الاثنى عشريّة الإيرانية وزيدية الحوثيين فى اليمن، والتعقيد أكبر مع حماس وحركة الجهاد فى غزَّة بالنظر إلى صراعات الطوائف وتاريخها شديد التعقيد.

وبهذا؛ فما كانت تحكمُ فيه القيادة فى زمن السلم، قد لا يكون مُتاحًا فى أزمنة الحرب، وما ضُمِنَ تحت خيمة المُمانَعة والمُقاومة قد يتبدَّد؛ لو تغيّر الخطابُ إلى المُهادنة أو الصداقة والوئام.

مأزقُ إيران أنها لا تريدُ أن تفُكَّ الارتباط مع الميليشيات المُتفرِّعة عنها لغرضٍ خاص، ومن أجل استمرار توظيفها ورقةً للتفاوض والمُقايضة. وإذ تخوضُ غمار السياسة بمَنطقِها، ولا تَعدَمُ المُبرِّرات الشرعيَّة اتّصالاً باتحاد القيادة والفُتيا فى رأسٍ واحدة؛ فإنَّ سلوكها لن يُرَى من الأطراف خارج إطار الخيانة، والتضحية بالمبدأ طمعًا فى المصلحة.

وحتى مع الثقة فى ولاء مَندوبيها على رؤوس التنظيمات؛ فإنها تُعرِّضُ القواعدَ لخَضّةٍ تفوقُ احتمالَهم وقدرتهم على الاستيعاب، وتُخلخِلُ القاعدةَ العريضة التى استندت إليها عقودًا، بما يُهَدِّمُ أُسسَ الأيديولوجيا ويُضحِّى بتحالفاتها مرَّةً وإلى الأبد. فماذا لو انقلبت واشنطن على الاتفاق لاحقًا، أو طلبت مزيدًا من التنازُلات؟!
وقتها لن يكون التشغيب على اتساع الخرائط مُمكنًا، ولا الاستئساد وراء خطوط الدفاع الأخيرة مأمونًا على الإطلاق.

وفى كلِّ هذا؛ فإنها كَمَن يسبحُ فى ماءٍ حارقٍ عكسَ التيَّار. ومهما كانت قُدرته على احتمال الحرارة؛ فحتمًا ستخورُ قواه وتخذلُه؛ بأثر الاندفاعة التى يعجزُ عن ترويضها أو امتطائها.

وحتى بافتراض صِدقيَّة الإدارة الأمريكية الحالية؛ فلن تعدَمَ المُنغِّصات من جهة إسرائيل، وسيظلُّ الأمرُ محكومًا بولاية ترامب القصيرة فى عُرف السياسة وأعمار الدُّول.

أمَّا الرهان على الحماية عبر تشبيك المصالح، وإغراء سيِّد البيت الأبيض بالمنافع والاستثمارات؛ فإنه يحتاجُ وقتًا أطولَ بطبيعة الحال، وقد يكون قيدًا عليها لا مسربًا أو ميزة؛ حتى تحت سقف الحرب، طالما بالإمكان التعويض وسداد الفواتير من حسابها المفتوح.

كأنها تُضطَرُّ اليومَ للمقامرة بالمُتاح كلِّه على المجهول، والمشكلة أنه لا خيارَ لديها فى الرفض أو تعديل الشروط. المُرابى دونالد من أمامها، والنازىُّ نتنياهو من خلفها، والخسارة واقعةٌ فى الحالين؛ إنما المُفاضلة فى الحجم والأثر وطريقة السداد.

صباح الاثنين، أعلنت سلطاتُ الاتِّصال الإيرانية عن إحباط هجمةٍ سيبرانيَّةٍ واسعة، وصفَها المسؤولون بأنها واحدةٌ من أكبر الهجمات وأعقدها.
وإذا كانت مُعتادةً على تلك النوعيَّة من الاستهداف، وتعرَّضت بحسب الأرقام الرسمية لأكثر من 57 ألف هجومٍ خلال العام الماضى وحده؛ فالذاكرةُ القريبة لا يُمكن أن تتفلَّت من أنها تلقَّت أقسى الضربات لبرنامجها النووىِّ بعملية شبيهة، عندما زُرِعَ فيروس إلكترونىٌّ فى أجهزة الطرد المركزى، عطَّلَ نظام الطاقة الداخلىَّ وتسبَّب فى انفجارٍ ضخم داخل منشأة نطنز العملاقة.

وعندما نُضيف حادثًا  كالذى جرى قبل يومين فقط من الإعلان الأخير، وأحال جانبًا من ميناء رجائى فى بندر عباس رمادًا؛ فقد يتعذَّر تفسير الوقائع وتَوالِيها بالمُصادفة وحدها.

تردَّدَ أنَّ انفجار الميناء أصاب حاوياتٍ تشتملُ على مواد كيميائيَّةٍ تدخل فى تركيب الوقود الصُّلب لبعض أنواع الصواريخ الباليستية. إسرائيلُ أنكرَتْ مسؤوليَّتَها عن الأمر، والجهاتُ الإيرانيَّةُ الرسميَّة أكَّدت أنها تجمع الأدلة وتُحقِّقُ التفاصيل والأسباب؛ لكنَّ وزارة الدفاع استبَقَتْ المسارَ بالإعلان عن عدم الاحتفاظ بأيَّة موارد عسكرية فى المنطقة المُتضرِّرة.

حجمُ الانفجار وتأثيراتُه، وعددُ الضحايا، والنار المُشتعلة ليومين دون قدرةٍ على إطفائها، تُشير كلُّها إلى أنَّ الحادثة لا تتَّصلُ بمواد عضويَّةٍ عادية، ولا تخلو من عناصر شديدة الاشتعال وعَصيّةٍ على الإطفاء والتبريد بالوسائل المعتادة.

وإن صحَّتْ المعلومةُ المُشار إليها؛ فالإنكارُ قد لا ينصرفُ هُنا إلى الدفاع عن الهَيبة وهواجس المكانة، بقدر ما يُشير لانعدام الرغبة فى التصعيد، وإبعاد شبح الاضطرار إلى الردِّ وفاءً بتعهُّداتٍ سابقة، ما يُعبِّر فى العُمق عن رغبةٍ حثيثةٍ لإنقاذ مسار التفاوض مع واشنطن، أو الهروب من محاولات الاستدراج والتوريط من جانب تل أبيب.

كأنها تقبلُ كلَّ ما كانت ترفضُه فى السابق، إنما بتحويرٍ بسيط، وعلى قاعدةِ التفريط بالقطعة وليس بالجُملة.. اختُبِرَت عَمليًّا فى جولَتَيْن من المُواجهة المُباشرة مع الصهاينة، اكتفَتْ فى الأُولى بالحدِّ الأدنى من التسليح ليتحوَّل الردُّ إلى ما يُشبه استعراضات الألعاب النارية فى سماء الصيف الصافية، وطوّرَتْ نوعيَّة السلاح والذخيرة فى الثانية؛ لكنها حذَّرَتْ استباقًا عبر القنوات الخلفية، وأرسلتها مشمولةً بعِلْم الوصول.

وإذ تقولُ اليومَ إنَّ المفاوضات لن تخرُجَ عن البرنامج النووى، واستمرار التخصيب خطٌّ أحمر، ولا قبولَ لإثارة ملفَّات القُدرات الدفاعية والميليشيات الحليفة، فإنها ترفعُ السقفَ لحاجةٍ إلى الزخم والتكثيف، وتصليب البيئة الداخليّة، وتعرفُ أنها غير قادرةٍ على السَّير بشروطِها حتى النهاية، وأنَّ الأمريكيين جرّبوها فى عشرات الوقائع، ويثقون أنها جاهزةٌ لتقديم المزيد؛ خصوصًا فى أجواء الاختناق السائدة.

الرُّعب كلُّه لدى إيران أن تُقدِمَ على تجرُّع كأس السُّمّ؛ ثمَّ تكتشفُ أنَّ الدولةَ العِبريَّة لا تكتفى منها بهذا الانتحار البطىء، وتتطلَّعُ إلى الإجهاز عليها ذبحًا.
يعجزُ نتنياهو عن ترويض ترامب الآن؛ لكنَّ العثرات التفاوضية قد تُسهِّلُ المهمَّة. طهران تضعُ عينيها على الاحتمال، ولن تصطدِمَ أو تتحدّى؛ كى لا تُقرِّب الرؤيتين المُتباعِدَتَين من بعضهما.

مُضطرَّةٌ هى للتنازُل قطعًا؛ لكنَّ زعيم الليكود بإمكانه أن يُنفِّذَ طموحَه بضربةٍ فرديَّة؛ مهما بدت ضئيلةً أو لم تكُن قاتلة، وسيتعيَّنُ عليها أن تبتلِعَها بصمتٍ لتمنحَه انتصارًا ماديًّا ومعنويًّا سهلاً ورخيصًا، مع تشجيعه على مزيدٍ من المُغامرات المُنفلتة، أو تُعَقِّبَ عليه لأجل الثأر وعدم التفريط فى ورقة الرَّدع المُتبادل؛ وقد احترقت أصلاً، مع ما يترتب على ذلك بالطبع من استنفار الإدارة الأمريكية، واستدعائها إلى جبهة القتال اضطرارًا.

لدى صغار اللصوص تقنياتٌ بسيطة ومكشوفة لإنجاز سرقاتهم الصغيرة. يتولّى واحدٌ منهم مهمَّةَ إشغال الهدف والتضييق عليه، فيما تتسرَّبُ أصابعُ الآخر ببطءٍ لانتشال حافظة النقود.

وما يحدثُ على التقاطُع الثلاثىِّ بين واشنطن وتل أبيب وطهران شبيهٌ باللعبة ذاتها؛ مع فارق أنها تُدَارُ لأجل سرقةٍ ضخمة وأطماعٍ لا حدودَ لها.
وبينما يحدثُ الحصار بابتسامةٍ صفراء تجاورُها بندقيَّةٌ مُشهَرَة فى الوجه، يُترَكُ للّاعب الخلفىِّ هامشٌ عريضٌ للغاية أن يُفتِّشَ الجيوب وينتقى الأهداف. لا سبيلَ للانصراف عن الأوَّل إلى الثانى، ولا مقدرةَ على التركيز فى السياسة والحرب معًا، والخيارات كلُّها سيئة، وتتنافس على مزيدٍ من السوء.
وما يُعقِّد الأوضاعَ المُعقَّدة بالفعل؛ أنَّ الآمال الخائبة شديدةُ الاتِّقاد فى أنحاء المحور المُمانِع، ويتبادَلُ المركز مع الأطرافِ التعويلَ على أن يكون أحدُهما مُنقذًا للآخر.

إيران تستحلِبُ ورقةَ الميليشيات حتى آخر قطرةٍ للإفلات من الكمين، واستخلاص صفقةٍ تُعيدُها إلى رخاء الإدارة الأوباميَّة وانسدال ستارة الوقت بلا حساب، والأذرعُ تتشدَّدُ فى تعاطيها مع مُستجدَّات الواقع على أمل أن يُضافَ لرصيدِها مزيدٌ من النقاط؛ بعدما تنتصر القيادةُ وتُجبر «الشيطان الأكبر» على تقديم التنازُلات بسخاءٍ عظيم.

وفَخُّ العَشَم وسوء الفَهم بينهما يبدو شديدَ الوضوح مع حزب الله؛ إذ بعدما اعترفَ ضِمنيًّا بالهزيمة الثقيلة، وسَلَّم بتداعياتها القاسية فى صورة الاتفاق المُهين له أواخرَ نوفمبر الماضى، بما يفرضُه من تطبيق القرار الأُمَمىِّ رقم 1701، بُمشتملاته المُمتدَّة من نزع السلاح إلى ضبط الحدود وتفكيك الميليشيات، وفق نصوص القرارين 1559 و1680، عاد للحديث عن المقاومة والاحتلال، وأنه «باقٍ باقٍ باقٍ»، وسيتعاملُ مع مَنْ يُطالبون بتجريده من ترسانته كما يُعامِلُ إسرائيل، وسيقطعُ اليدَ التى تمتدُّ على مخازنه.

وما يُقال بشأن ضاحية بيروت الجنوبية وعمائمها المُلتاثة، قد يصدقُ على الحماسيِّين فى أنفاق غزَّة وبين خرابها العَميم. صحيحٌ أنهم لم يُصرّحوا من قبل بإمكانيّة التفريط فى السلاح؛ لكنهم يتردَّدون بين الخروج من المشهد وتطلُّعات البقاء بين مُكوِّنات اليوم التالى، ويُسعّرون حربهم على مُنظّمة التحرير، ويطلبون من الاحتلال ما يوقنون أنه لن يقبله.

بيدَ أنهم يعلمون عِلم اليقين أنَّ السلاح لم يَعُد حاضرًا على وجهٍ كامل، ولا فاعلاً أصلاً؛ لكنّه التمَترُس وراء آخر التلال الباقية، على أمل أن تأتى الحلولُ من الخارج، ولا خارجَ حاليًا تُمكن المُقامرة على طاولته، إلَّا ما يدورُ بين واشنطن وطهران بوساطةٍ عُمانيّة.

خُدِعَ المُمانِعون من قلب المحور ورأسِه الكبير. وسواء دُفِعَ الحماسيِّون بإملاءٍ نحو الطوفان، أو تعجَّل فيه «السنوار» للأخذ بزمام المُبادرة، وإحراج الحلفاء والخُصوم طمعًا فى خَلط الأوراق والساحات؛ فإنَّ قيادةَ الشيعيَّة المُسلَّحة لم تلتزم سوابقَ الاتفاقات بينهما، ولا أَوْفَت بالتعهُّدات، وحتى مع إنكار المسؤولية وغَسْل الأيدى؛ فإنها تُلامُ على النَّفخ فى بُوق حماس دون وَضعِ آليَّةٍ لضَبط الصوت أو امتصاص رَجْع الصَّدَى.

باختصارٍ؛ ظلَّت تُراكِمُ القُدرات ليومٍ مشهود، تُحدِّدُه وفقَ اعتباراتها ومصالحها. خانها الحليف وخانته، وأضافت إليه الحزبَ اللبنانىَّ بتشجيعه على الانخراط فى الحرب، أو عدم كَفِّه عنها بكلِّ ما لها من سُلطةٍ وِصائيَّةٍ عليه.

وباعتبارها الطَّرفَ الأكبر والأقوى، والمُستثمر الوحيد فى المشروع الذى ينزفُ بلا انقطاع؛ فالجميع ينتظرون منها أن تضطلع بمهمَّة الإنقاذ، ويبدو أنها تنظُر لهم من جانبها تحت صِفَة «الخسائر التكتيكية»، كما نظَرَ خالد مشعل لنكبة الغزِّيين فى ذويهم ومُمتلكاتهم.

ولعلَّها حسَمَتْ الاختيار أصلاً بتَرْكِ الجريح لمصيره، واستدراك الدولة قبل أن تلحقَ به على طريق الضياع. وتلك تحديدًا أكبرُ انتصارات الصهاينة، والتغيُّر الجيوسياسىُّ الذى يُحدِثُونه فى المنطقة، وقليله بالبطش والقوَّة العارية؛ لكنَّ أكثره يتأتَّى عبر تفسيخ المحاور والأحلاف من داخلها، ودَفعِها قهرًا لبَتْر أطرافِها واحدًا بعد آخر.

تُعَوِّلُ الأُمُّ التى لم تَعُد رَؤومًا على أبنائها فى النجاة، والأبناء ينتظرون منها أن تُقيِلَهم من العثرات التى تسبّبت فيها، أو دفعتهم إليها. غريقٌ يتعلّقُ بغريق، وبينهما غريمان لا يرحمان: الأوَّل لا يُشبِعُه سوى المال، والثانى لا يقتنعُ بأقلِّ من قَبض الأرواح وبَعثَرة الأشلاء.

أفضَتْ الجولةُ إلى مأساةٍ كاملة، وعلى المحور أن يعترِفَ، رأسًا وأطرافًا، وأن يتحرَّر من أثقاله الذاتية قبل أن يبحث عن الفِكاك من قيود المُترصّدين والأعداء. اجتماعُ الضعفاء لا يَزيدُهم إلَّا ضعفًا، والتفاوض على ثلاثة محاور يُحقِّقُ أكثر مِمَّا يُحقّقه تجميعُ البيض فى سَلّةٍ واحدة؛ لا سيَّما أنه لا سُلطةَ للقلب على بقيّة الأعضاء اليومَ، ولا ثقةَ بينهم جميعًا ولو أنكروا.

امتحانٌ وجودىٌّ قاسٍ؛ والأقسى أنَّ هوامشَ الاختيار فيه ضيِّقة، وفسحة الوقت أضيق، والبدائل بين انكسار مُعَجَّل أو انتحارٍ مُؤجّل، والأثقال كلّها على عواتق الأبرياء ومَن لم يُشجّعوا على النزوة أو يُستَشَاروا فيها: الغزِّيين جنوبًا واللبنانيين شمالاً، والإيرانيِّين أنفسهم فى الحاضنة البعيدة، واليمن والعراق وسوريا وغيرها قبلهم وبعدهم.

ميلودراما فاقعةٌ افتَعَلَها عُبّاد الأيديولوجيا وصخب المنابر، وعليهم أن يتوبوا عنها قبل أن تتحوَّل إلى تراجيديا كاملةٍ، وإلى جُرحٍ عميقٌ قد تنقَضِى عقودٌ وأجيالٌ ولا يَبرأ.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

محامى رمضان صبحى يكشف حقيقة القبض على شخص يؤدى الامتحان بدلا منه

موعد مباراة الأهلي القادمة أمام البنك فى دوري nile والقناة الناقلة

لا للدروس الخصوصية.. مراجعات نهائية مجانا لطلاب الثانوية والإعدادية بالأقصر

اللى معاه كلب يربطه.. وزارة الزراعة تبدأ عهدا جديدا لتنظيم حيازة الحيوانات

الأهلي يتوج بالسوبر الأفريقي لليد على حساب الترجى ويتأهل لمونديال الأندية (صور)


حر نار.. تحذير عاجل من الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الأربعاء 14 مايو 2025

مصر ترحب بتصريحات ترامب الخاصة بحق الشعب الفلسطيني في مستقبل أفضل

روبرت دي نيرو منتقدا ترامب من مهرجان كان: الفن تهديد للمستبدين والفاشيين

بشرى سارة.. "التعليم" تعلن عن مسابقة فى يونيو لتعيين معلمى الحصة

فى بيان حاسم.. الأوقاف: امتهان حرمة المساجد جريمة ومخالفة شرعية


القاهرة الإخبارية: رصد صاروخ ثان أطلق من اليمن باتجاه إسرائيل

مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025

جنازة سما عادل إحدى ضحايا حريق خط غاز طريق الواحات من مسجد الحصرى غدا

وفاة "سما عادل" المصابة فى حريق خط غاز طريق الواحات

الأرصاد الجوية: الساعات القادمة تشهد تحسنا للطقس فى القاهرة الكبرى

أفلام السعفة الذهبية لهذا العام فى طريقها للأوسكار بعد Anora

وزير العمل يعلن 1072 فرصة عمل فى الإمارات بمرتبات تصل لـ55 ألف جنيه

زلزال بقوة 4.4 درجة يضرب مقاطعة إيطالية.. وتعطيل "مؤقت" لحركة النقل

الطقس غدا.. أجواء حارة نهارا ونشاط للرياح والعظمى بالقاهرة 31 درجة

الصحف العالمية اليوم: قادة أوبر وجوجل وأمازون وبوينج يشاركون فى مأدبة غداء ترامب وولى العهد السعودى.. شرطة مكافحة الإرهاب تحقق في حرائق مرتبطة بكير ستارمر.. ارتفاع سعر الكاكاو بنسبة 2.5% والشركات تبحث عن بدائل

لا يفوتك


مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025

مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025 الثلاثاء، 13 مايو 2025 09:25 م

المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى