فنانات الحرانية.. درر ريف الجيزة يجسدن جمال الطبيعة بالغزل.. لم يتعلمن الرسم ولا يجدن القراءة والكتابة واحترفن فن النسيج.. بسيمة: برسم بإحساسى والسجادة الواحدة مبتتكررش.. تحية: لوحاتى اتعرضت فى معارض عالمية

لطفية: الزمن عدى وأثبت للجميع إني فنانة
نادية: بكون في دنيا تانية وأنا قدام النول
نادرة: إحنا بنرسم بعينينا وقلوبنا وخيالنا بيودينا لعوالم تانية
جيهان: لا بعرف أقرأ ولا أكتب وعايشة بالفن
وحربية هزمت صمتها بالفن والإبداع
بقلوبٍ أصيلة لم تطولها متغيرات الزمن، تبحر فنانات الحرانية في خيالهن المحلق أمام أنوال خشبية عتيقة، ليجسدن ما يحلو لقلوبهن ويروق لعقولهن في لوحات فنية فريدة منسوجة من وحي الطبيعة، يمثل كل خيط فيها جزءًا من حكاية أكبر يمتد تاريخها لأكثر من سبعين عامًا.
بفن صناعة النسيج اليدوي بخيوط القطن والصوف، تمارس كل فنانة فنًا كبر معها منذ الطفولة، تصوَر من خلاله الريف بعاداته وتقاليده، وموروثاته الشعبية، ومناظره الخلابة الهادئة، في قطع فريدة تخطف الأنظار بإبداع ألونها ومضمون تصاميمها وتشكيلاتها الفنية القائمة على تأمل الطبيعة ومحاكاتها، معتمدات على بذور الفن والإبداع التي غرسها فيهن المهندس المعماري المصري رمسيس ويصا واصف، وأصبحن بهما من أشهر وأمهر الأسماء في صناعة السجاد اليدوي على مستوى العالم.

فنانات الحرانية يتشاركن لحظات الإبداع
آمن "واصف"، أن كل إنسان يولد في داخله فنان، كل طفل لديه طاقة إبداعية تحتاج إلى تنمية واهتمام، ومن هنا أطلق العنان لأبناء الحرانية رجالًا ونساءً في تخيل الرسمة ونسجها، شجعهم على الإبداع منذ نعومة أظافرهم، منح لهم الفرصة لاكتشاف إمكاناتهم ومهاراتهم والتعبير عن أنفسهم بحرية، ووجههم لتأمل الطبيعة من حولهم واكتشافها واستيعاب مفرداتها وفهمها وترجمتها بلمساتهم الخاصة في لوحات نسيجية مميزة يستحيل تكرارها مرتين، تحت أساسيات ومبادئ قوامها الفن والإبداع، رغم أنهم لم يتعلموا فن الرسم وكثيرٌ منهم لم ينل حظه من التعليم.

لطفية محمد أقدم فنانات الحرانية
فنانة من الجيل الذهبي وصلت بأعمالها إلى العالمية
بشموخ، تجلس لطفية محمد، صاحبة الـ63 عامًا، أمام نول خشبي رأسي، بعباءة و"طرحة" من حرير أسود تعتبران عنوانًا لنساء الحرانية وطابعًا من موروثاتهن، تمسك في يدها أداة حديدية تسمى "مشط" تساعدها في كبس خيوط الصوف، بعضها فوق بعض، لترسم لوحتها الفنية بمهارة وعناية فائقتين، منسجمة في العمل على أنغام أم كلثوم.

لطفية محمد فنانة من الجيل الذهبي
تحدثت "لطفية"، وهي إحدى أقدم نساء القرية وأكبرهن عمرًا في صناعة السجاد، عن بداياتها مع ذلك الفن، الذي رافقها منذ نعومة أظافرها، قائلة: "لما دخلت المدرسة، انبهرت بالسجاد وصناعته، كنت بتفرج على زمايلي، وأراقب التفاصيل في صمت، لحد ما استلمت نول وبدأت أنسج زيهم، وكانت أول سجادة أعملها طير، عجبت رمسيس ويصا واصف وكافأني بالجنيه، وقتها فرحت أوي إني نجحت وعملت حاجة، ودا يرجع لرمسيس، كان بيشجعنا على التأمل والإبداع، علمنا مع بعضنا ازاي بالخيط والنول نعمل لوحة فنية، وكل واحد فينا يكون مميز ومختلف برسمته عن التاني".

أنامل ذهبية ترسم الطبيعة على النول
بدأت الفنانة الستينية مسيرتها مع فن النسيج على النول منذ أن كانت في الـ11 من عمرها، في الوقت الذي اتجه فيه كثيرٌ من أبناء القرية بنات وصبية لتعلم الحرفة، فانضمت لتلامذة الجيل الأول للمعماري الراحل، وزاولت فنها بحب وشغف وأنامل بارعة من ذهب، حتى عرضت إبداعاتها في المتاحف العالمية وكبرى المعارض الفنية: "لما بدأنا كنا صغيرين في السن، ووقتها ماكنش فيه ستات في القرية بتشتغل، كان الستات اللي يشوفوني ويعرفوا إني بصنع سجاد يقللوا مني ويسخروا، لكن كلامهم ماكنش بيأثر فيا وكنت أقولهم أنا فنانة لو تشوفوا وتعرفوا اللي أنا بعمله مش هتقولوا كده، والزمن عدى وأثبت للجميع إني فنانة مبدعة، اتعرضت أعمالها في معارض عالمية منها في فرنسا".

لطفية تبدع في صناعة السجاد اليدوي
يخرج من بين يدي "لطفية" تحف فنية قوامها الطبيعة، تخطف الأنظار ببراعتها الفنية وحرفيتها، ورغم أنها أمية لا تقرأ أو تكتب، إلا أنها تستطيع أن توقع اسمها على لوحاتها الفنية: "صناعة السجاد اليدوي بياخد وقت، أنا بشتغل بحرية وهدوء ومزاج، السجادة ممكن تاخد شغل معايا 7 شهور، وقبل ما أنفذ أي فكرة، بتمشى حواليا في الجناين اتأمل الطبيعة واتفرج على المزروعات والورود والطيور والحيوانات، ولما أستقر على فكرة، أبدأ أجهز خيوط الصوف بألوانها الطبيعية، وأغزله على النول من غير ماكيت أو صورة أو رسمة جاهزة على ورقة، فبمجرد ما بشوف الطبيعة حواليا الفكرة بتثبت في دماغي وبنفذ السجادة بخيالي، أنا مش بعرف أكتب اسمي على الورق، لكن أكتبه على السجادة".

إبداع لطفية محمد على أوتار النول

لطفية محمد فنانة قرية الحرانية
تشعر "لطفية" بالفخر بأعمالها الفريدة المصنوعة بأناملها وتسعى جاهدة لمواصلة رحلتها الإبداعية وصنع المزيد: "صناعة السجاد كل حياتي، بقوم من النوم أفكر فيه، بنظم وقتي بين مهام البيت وصناعة السجاد، وبجهز أدواتي وخاماتي وابدأ أشتغل، وان ما اشتغلتش يوم اتجنن.. بحس بسعادة وأنا قاعدة قدام النول، وبعد ما السجادة بتخلص بقول سبحان الله!.. اتعملت إزاي دي؟! إيه الحلاوة اللي انا عملتها دي؟!.. معايا ثلاث شباب وبنتين، فرحانين وفخورين بيا، ودايمًا يقولوا ليا شغلك حلو أوي يا ماما، هو ده فني اتولدت وعايشة فيه وهكمل لحد آخر نفس في حياتي".

نادية محمد فنانة تبدع على أوتار النول في قرية الحرانية
صاحبة خيال حيّ ترسم بالخيط لوحات لا تتكرر
بابتسامة هادئة وصوت مغموس في الحنين، تجلس نادية محمد، واحدة من فنانات الجيل الثاني في مدرسة الحرانية، أمام نولها الخشبي الذي صار امتدادًا لروحها، ترتدي عباءة داكنة وطرحة من حرير أسود، كأنها تحتفظ في طياتها بذكريات بدأت منذ الطفولة.
نادية، البالغة من العمر 60 عامًا تقريبًا، التحقت بمدرسة رمسيس ويصا واصف عام 1975، وهي لا تزال طفلة في العاشرة من عمرها، مدفوعة بشغف فني متوارث وملهم من بنت خالتها، إحدى فنانات الجيل الأول، تحكي وهي تلمس خيوط الصوف بعناية، أن البدايات كانت بخيوط بسيطة وأشكال صغيرة: "كنا نرسم وزة ولا بطة.. حاجات بسيطة.. بس كنت بحب الشغل جدًا.. كنت أقعد جنب بنت خالتي وهي تديني حتة صوف وتقولي اعملي دي.. وكنت فرحانة قوي أني بشتغل زيهم".

سجاد يدوي مصنوع بأنامل أبناء الحرانية
تأخذ صناعة السجادة من نادية وقتًا طويلًا، أحيانًا 3 أشهر، وأحيانًا تمتد لعام كامل، بحسب حجم وتعقيد الفكرة، لكنها لا تشعر بمرور الوقت: "أنا مش بشتغل في الشغل.. أنا عايشة فيه.. السجادة بتكبر قدامي وأنا بنسى نفسي.. بكون في دنيا تانية وأنا قاعدة قدام النول".

الصوف المصبوغ من ألوان طبيعية
وسط حديقة مزروعة بكل ما يلهم، تصبغ نادية خيوطها بـ ألوان طبيعية تُستخلص من نباتات حولها؛ الأحمر من "الفوة"، والأصفر من "رزدا لوتيلا"، وتختار بعناية الدرجات التي تعبر عن فكرها وإحساسها، لتنسجها ببطء ومحبة في لوحات لا تُكرر.
حكت نادية بكل فخر واعتزاز، عن مشاركتها في أحد المعارض الكبرى في إنجلترا، وكيف بدأ الفن صغيرًا معها، وكبر في قلبها حتى أصبح طريقًا لا يمكنها التخلي عنه: "أنا مش عايشة بالشغل.. أنا عايشة جواه.. وأحفادي بينبهروا ويقولوا: ستي هي اللي عملت ده؟!".

نادية محمد ترسم بخيوط الصوف لوحات فنية لا تتكرر
تضحك نادية بحنان وتقول: "أنا فنانة طبعًا.. مش لأني ست ريفية.. لكن لأني بصنع فن بعيش فيه.. ده مش شغل علشان دخل وخلاص.. ده فن.. لما أخلص سجادة أقول: سبحان الله!.. إزاي دي طلعت مني؟!".
بالنسبة لنادية، المدرسة ليس مجرد مكان، إنما أسرة، وبيت كبير يحتويها وزميلاتها الفنانات، يعيشن ويضحكن ويعملن ويبدعن فيه، ثم يعودن لمنازلهن مع غروب الشمس، كأنهن خرجن من مرسم حي لا يتوقف عن الحلم.

نادرة عبد الله فنانة تبدع في صناعة السجاد اليدوي
زوجة فنان ترسم بخيالها مشاهد الحياة اليومية
بنظرةٍ دافئة وقلب مليء بالحكايات، تجلس نادرة عبد الله، صاحبة الـ46 عامًا، أمام نولها وكأنها تجلس أمام حياة كاملة من الذكريات.
جاءت إلى المدرسة الفنية وهي لا تزال طفلة في الثانية عشرة من عمرها، ترافق عمتها "نادية"، التي كانت تعمل في غزل الصوف، دون أن تدري أنها على أعتاب عمرٍ من الفن والإبداع.
تحكي نادرة بابتسامة خجولة ممزوجة بالفخر: "قعدت أول ست شهور أتعلم، كنا بنات كتير وقتها، وبدأنا بحتة صغيرة.. 15 سنتي كده، نعمل فيها خطوط بسيطة، وبعدين حبة بحبة بقينا نعمل حاجات حلوة، ودلوقتي بنعمل الأحسن".

فنانات قرية الحرانية
النسيج بالنسبة لها ليس مجرد حرفة يدوية، بل رحلة عمر كاملة، تعرف كل تفصيلة في مراحل العمل، من تحضير النول، إلى شد الخيوط وتثبيتها، بنفس دقة الفنان المتمرس، وبقلب صبور يعرف تمامًا أن الجمال لا يُستعجل، تشرح خطواتها بتأنٍ وكأنها تشرح وصفة سحرية: "نسلك الخيوط من المشط حسب المقاس اللي عايزاه، 15 أو 20 أو حتى 60 سم، وبعدين نبدأ الشغل.. نفكر في الفكرة، نباتات، طيور، بط، شجر، سمك، بيوت مدارية ورا النخل... خيالنا بيودينا لعوالم تانية".
نادرة لم ترسم عن طريق النقل أو الرسم الجاهز، لكنها ترى اللوحة في خيالها أولًا، وتترجمها بخيوط القطن على النول، دون أن تعرف ترسم أو حتى تقرأ أو تكتب، لكنها تقولها بثقة نابعة من القلب: "إحنا بنرسم بعينينا وقلوبنا.. مش على ورق، لكن بالخيط، وساعات أعمل حاجة ما تعجبنيش، أفكها وأعيدها من الأول.. كل حاجة بمزاج".

عمل فني بأيادي أبناء الحرانية
فنها لم يكن مجرد جهد أو تعب، ولكنه ذاكرة يعيش في سجاد يتحدث: "لسه مكملين.. الشغل ده عمر تاني، إحنا عشنا وتربينا عليه وهانكمل فيه لحد آخر نفس"، فبين يدي نادرة، يتحول الخيط الرفيع إلى تحفة فنية تُروى.. تُحكى، وتُحس.

فنانات الحرانية يبدعن في صناعة السجاد اليدوي
فنانة الحرانية تنسج بخيوط القطن دون ورقة أو قلم
وسط أصوات الأوتار المتشابكة، وألوان الطبيعة المتناثرة في الذاكرة والبصر، تجلس جيهان رزق، فنانة السجاد اليدوي، تجلس "جيهان" بجوار نادرة، وكل واحدة منهن تحمل في قلبها حكاية عمرٍ مكتمل من الإبداع.
جيهان، البالغة من العمر 44 عامًا، بدأت رحلتها مع النسيج وهي في سن الحادية عشرة تقريبًا، بدافع حبها للمكان وتأثرها بأختها الكبرى وبنت عمتها، اللتين سبقتاها في هذا العالم الفني، تتذكر بداياتها بضحكة فيها دفء الطفولة: "كنت حابة اشتغل قطن.. وكان حوالينا ست أو سبع أطفال كلنا من سن بعض، قاعدين بنتعلم ونتفرج على الجيل اللي قبلنا وهما شغالين".
.jpeg)
جيهان رزق إحدى فنانات قرية الحرانية
بدأت جيهان بأعمال صغيرة لا تتجاوز 10 سم، لكنها اليوم تُبدع في لوحات قطنية ضخمة، تنسج فيها الطبيعة، اللحظات، والمشاعر: "أنا لا بعرف أقرأ ولا أكتب، بس بشوف الحاجة بعيني، أحفظها، وذهني يرسمها بخيوط القطن.. زي مرة شفت أبو قردان فوق شجرة والقمر وراه، المنظر عجبني أوي.. ورجعت عملته سجادة".

جيهان رزق فنانة السجاد اليدوي في الحرانية
بهدوء وتوازن، تنظم جيهان وقتها بين بيتها والفن، تبدأ يومها مع الفطور، ثم تتجه للمدرسة حوالي الساعة الواحدة، وتعود عند المغرب: "لازم أوفّق بين البيت والشغل.. عشان لا البيت يتأثر ولا الفن يتأذى.. كله ليه وقته.. وأنا بحب الشغلانة دي أوي".
جيهان، أم لثلاثة أبناء، تضحك بفخر وهي تحكي عن انبهارهم بها: "عيال ابني في الجامعة لما يشوفوا شغلي يقولوا يا ماما نفسي أتعلم.. بس الرجالة ما عندهمش طولة البال زينا".
بالنسبة لها، السجادة ليست مجرد منتج، بل حياة كاملة تنمو على النول: "لما تخلص السجادة بحس إني منبهرة، بقول: أنا عملت ده إزاي! سبحان الله!.. مابزهقش أبدًا، حتى لو الشغل بياخد وقت طويل".

عمل فني يدوي من وحي الطبيعة
تعمل جيهان على النول، بخيوط القطن الرفيعة، بينما زميلاتها يعملن على أنوال الصوف العمودية، وكل واحدة واحدة منهن تبدع على طريقتها: "إحنا أحرار.. اللي يحب قطن يشتغل قطن، واللي يحب صوف يشتغل صوف.. المهم يكون بيحب اللي بيعمله".
تؤمن جيهان أن الفن ليس مجرد عمل، وإنما انتماء وسعادة وسكينة: "أنا مش بشتغل بس.. أنا عايشة في الفن.. بعيش مع السجادة وأنا شغالة فيها.. بحس إني في عالم تاني".

حربية علي فنانة الحرانية
حربية هزمت صمت حروفها بالفن والإبداع
على بُعد بضع أمتار، تجلس فنانة شابة في حالة من الصفاء الروحاني والوجداني المنعكس على لوحاتها، تنظر بثقة إلى أبعد ما تراه عين مجردة، لتعبر عن نفسها وأفكارها وآمالها، تحلق كفراشة عاشقة في فضاء إبداعي أكثر إلهامًا وانفتاحًا متخطية صمت حروفها، لتنثر أحلامها وآمالها الحرة على النول، وتهزم إعاقتها السمعية بإرادة ناعمة، وكأن الله جعل لها من اسمها نصيب.

حربية تبدع في لوحة منسوجة
عرفت حربية علي، منذ الصغر كيف تحطم قيود ظروفها الصحية وما تواجهه من صعوبة في السمع والكلام لتنتج إبداعات فنية تذهل كل محيطها، فاتخذت من الإبداع لغة تنتصر بها على الحياة وصارت صاحبة بصمة، مؤكدة أن "لا إعاقة مع الإرادة ولا مستحيل مع العزيمة ولا يأس مع الحياة".
.jpeg)
حربية تستلهم أفكار أعمالها الفنية من الطبيعة
وبينما كان الجميع يناظر إبداع أناملها على أوتار النول، تركز في كل خطوة بابتسامة ناعمة، وإحساس مرهف، وحس فني عال، لتخرج قطعتها الفنية الجديدة، التي لا تغيب عنها مناظر الطبيعة والخضرة، تذكرت حربية بداياتها مع فن صناعة السجاد، قائلة: "تعلمت من طفولتي صناعة السجاد مع صباح وفايزة، في الأول كنت باجي المركز ألعب شوية وأجرب شوية أعمل سجاد، في الأول كنت ببوظ ومش بعرف أظبطه لكن أسرة رمسيس ويصا واصف عمرها ما قالتلي على حاجة وحشة، كانوا يقولوا ليا على أي حاجة أعملها جميلة وحلوة، ومع الوقت بقيت أعرف أصنع وشغلي احلو".

حربية علي فنانة السجاد اليدوي
تستنبط حربية أفكارها كزملائها في الفن، من وحى الطبيعة، فتطغى الأشجار، والزهور، والطيور، والحيوانات على لوحاتها الفنية، وتنسج قطعتها الفنية مرة واحدة، اعتمادًا على ذاكرتها في تصور المنظر الطبيعي وتخيله: "بفكر هعمل إيه واشتغل، وأسرة رمسيس ويصا واصف بتساعدني دايمًا أطور من أفكاري، ولو مفيش أفكار بننزل مع بعض الجنينة نشوف الشجر والورود، وأفكر في فكرة حلوة أنفذها، رسمت قبل كدة ختمية، ونباتات، وجامع، وطيور، وغيطان، وبياعين البطيخ، وحكايات من المولد، وشهر رمضان، ومبسوطة بنفسي وشغلي، والحمد لله".

بسيمة محمد فنانة تبدع على النول منذ طفولتها
إبداع منذ الطفولة على أوتار النول بألوان الطبيعة
أمام النول، تتمايل أنامل بسيمة محمد صاحبة الـ54 عامًا، لتعزف على خيوطه سيمفونية إبداع جديدة من زهور الختمية الحمراء وأشجار فرشاة الزجاج يصل طولها إلى متر ونصف المتر، تجذب إليها الناظرين، حيث ألونها الطبيعية الناصعة المتناسقة وتشكيلاتها الفنية المغزولة بدقة ومهارة وذوق رفيع.
بدأت بسيمة رحلتها في أروقة الفن منذ نعومة أظافرها، فقد كانت ابنة عمها ضمن فنانات السجاد اليدوي الأوائل: "زمان ماكنش فيه شغل في القرية، كان الشغل بالنسبة لينا عيب، حبيت الفن من بنت عمى، كنت باجي معاها المركز ألعب حواليها وهي بتصنع السجاد، ومع الوقت حبيت السجاد وصناعته، وبدأت أصنع من وأنا عندي 11 سنة، كنت بقعد مع زمايلي اللي أكبر مني أتفرج عليهم وهم بينسجوا، ولما قررت ابدأ استلمت السدى والصوف ونجحت اني أسد 10 سم، ومع مرور الوقت حجم السجادة كان بيزيد معايا لحد ما وصلت للي أنا فيه دلوقتي".

صناعة السجاد اليدوي بأنامل ذهبية
تعمل بسيمة بفكر حر غير مقيد بزمان أو مكان، بمجرد أن تمسك يداها بخيوط الصوف الملونة، تطلق العنان لخيالها حتى تتشكل لوحتها على نولها الخشبي المتدلية عليه خيوط السدى: "تنفيذ السجادة مش مرتبط بزمن محدد، بنشغل بحرية ومزاج، أول حاجة نجهز السدى الأبيض في النول ونجهز النير ونرتب فكرتنا والخيط بألوانه المختلفة ونبدأ في التنفيذ، وبييجي لينا الخيوط القطنية الطبيعية والصوف بلونه الأبيض، والصبغة مزروعة عندنا، وبنتجمع كلنا مع بعض في يوم واحد ونجهز الصبغات الطبيعية باختلاف ألوانها، وكل نوع نبات مزروع بنستخرج منه لون صبغة، الفوة على سبيل المثال بتتزرع في الأرض 5 سنين، ونحصدها بالفأس في يوم محدد، بتكون على شكل جذور حمراء، ننظفها ونجففها ونطحنها عشان تدينا لون الصبغة الحمراء".

رحلة إبداع على النول في قرية الحرانية
تعتمد فنانة الحرانية على الطبيعة وتفاصيل الحياة اليومية من أجل أفكار لوحاتها من السجاد: "السجادة الواحدة مفيش منها اثنين وماتتكررش، كل سجادة موضوعها بيختلف عن السجادة التانية، في سجادة تبقى عن الخضرة والزرع والأزهار، وسجادة تانية لأشخاص، والثالثة ممكن تكون عن النخيل وموسم حصاد التمور، يعني لو عاوزه أعمل رسمة عن سوق، بنزل سوق الخضار أو السمك أو الملابس، واتفرج على اللي بيبيع ويشتري، وانا راكبة ورايحة مشوار بطلع راسي من الشباك واتفرج على كل حاجة حواليا، ممكن يعجبني مركب في النيل، صيادين، طيور، أي حاجة بحطها في دماغي واجي أنفذها، ولو فضلت سنة عمرها ما تروح من خيالي، فالموضوع اللي برسمه من الخيال والطبيعة، أنا معرفش أمسك القلم أصلًا، لكن برسم بكياني وقلبي وإحساسي وكل هدفي أطلع إنتاج كويس".

بسيمة محمد فنانة الحرانية
قادتها موهبتها التي نمت معها منذ الطفولة لأن تجسدها بحرفية متناهية في أعمال فنية غاية في الروعة والجمال، وكل هدفها أن تكون لوحاتها الأكثر إبداعًا وجمالًا، وتحافظ على فنها، الذي تعشقه وتقدره لآخر نفس في حياتها: "بحس براحة وسعادة وأنا قاعدة على النول، الفن ده غير لي حياتي وساعدني كتير في بيتي ومع أولادي، أنا معايا ولدين وبنت شايلين أعمالي على تليفوناتهم وبيتشرفوا بيه، وفرحانين بيا.. السجاد ده فن بعمله بقلبي وإحساسي، قلبي هو اللي بيشتغل وهو اللي بيطلع الإبداع ده، فخورة بشغلي، وعشان بحبه عاوزة أعمل أجمل وأحلى حاجة في الدنيا.. شعوري لما السجادة بتخلص ما يتوصفش، شعور أم ابنها نجح في الثانوية العامة، وربنا يديمها علينا نعمة لحد ما أقابل وجه كريم، نفسي أقعد قدام النيل لحد آخر لحظة في عمري".

حلاوة محمد فنانة مبدعة من فنانات الحرانية
حلاوة تنسج بذاكرتها دون رسومات
بابتسامة دافئة وعيون تلمع بالفخر، تتحدث حلاوة محمد، صاحبة الـ47 عامًا، عن رحلتها الطويلة مع النول، والتي بدأت منذ أن كانت طفلة في الحادية عشرة من عمرها: "بقالي أكتر من 30 سنة هنا.. جينا وإحنا أطفال، أنا وأخواتي التلاتة اللي كانوا قبلي، حبينا الشغل جدًا وفضلنا نجرب ونجرب، مرة تطلع حاجة حلوة ومرة لأ، لكن صاحبة الشغل كانت دايمًا تشجعنا، حتى الحاجة الوحشة كانت تقول حلوة".
بمرور الوقت، أصبحت حلاوة من فنانات الحرانية البارزات، وتفتخر بأنها تصنع أعمالها من الخيال فقط دون أي نماذج مرجعية أو صور: "أنا لا بعرف أقرأ ولا أكتب ولا حتى أرسم على ورق، لكن عيني بتلقط الحاجة الحلوة، عصفورة في السما، حمامة في الشارع، منظر في الطريق.. وكل ده بخزنه في خيالي، وأروح أنفذه على النول".
.jpeg)
حلاوة محمد تتأمل الطبيعة وتعبر عنها في لوحاتها الفنية
ما يميز عملها، كما تصف، هو الحرية: "الشغل هنا براحتنا، مواعيدنا بإيدينا، لو في ظروف نقدر نرتب وقتنا، وده اللي مخلي المكان مش بس شغل، لكن حياة".
أنجزت حلاوة على مدار سنواتها سجادًا فنيًا نال إعجاب الزوار من كل أنحاء العالم: "الخواجات بينبهروا بشغلنا، وأنا لما بشوف السجادة خلصت بحس بفرحة كبيرة، بقول: إزاي أنا عملت كده؟ وولادي لما بيشوفوا صوري وشغلي على التلفونات، مش بيصدقوا إن ده شغل إيدينا".
ورغم الساعات الطويلة اللي قد تستغرقها السجادة — من شهر لأشهر — تؤكد حلاوة أنها لا تشعر بالملل أبدًا: "الشغل ده روحنا وحياتنا، بنعاشر بعض هنا أكتر من أهلنا في البيت، وإحنا بنحب شغلنا أوى.. إحنا ستات الحرانية".

تحية إبراهيم فنانة السجاد اليدوي في الحرانية
تحيك رحلة عمرها بلغة الألوان
في غرفةٍ صغيرة يتناثر فيها ضوء الشمس على الأرض، وتتشابك فيها خيوط الفن مع خيوط الصوف، تجلس "تحية إبراهيم" أمام نولها بكل ثبات، وكأنها تعزف سيمفونية خيوط لا تُسمع إلا بعيون المتأملين.
تحية، ذات الـ64 عامًا، تتحدث بثقة الفنانة التي حفظت كل تفصيلة في النسيج اليدوي: "بدأت وأنا عندي 11 سنة.. شفت الجيل الأول بيشتغل، وانبهرت.. حسيت إني عايزة أكون زيهم، وفعلاً بدأت بحتة صغيرة، خط أو عصفورة بسيطة.. وبعد كده، بقيت أرسم من خيالي ومن الجنينة اللي برّا".

سجاد يدوي يعبر عن الطبيعة الريفية
تصف العمل بأنه فن خالص، خارج من القلب ومن الطبيعة: "إحنا مش بنشتغل بس، إحنا بنبدع.. كل حاجة بنفكر فيها قبل ما ننسجها، نختار ألوان الصوف، ونصبغه بإيدينا، ونبدأ نرتب الفكرة جوا دماغنا، لحد ما تبقى جاهزة تتنفذ على النول".
تحية لا تحب الاستعجال، وتؤمن أن الإبداع يحتاج لمزيد من الوقت: "العرض الواحد ممكن ياخد 7 شهور، وكل تفصيلة فيه بتحتاج مجهود وتفكير وصبر، بس لما تبص عليه بعدين تحس بإحساس ما يتوصفش.. تحس بالفخر".

تحية إبراهيم تبدع بأناملها على النول الخشبي
الغرفة التي تجمعها مع "بسيمة" لم تكن مجرد مكان عمل أرواحهم متعلقة فيه بالنول، وتأملاتهم تخرج منه في صمت وتركيز، ولكنها بيت مليء بدفء وذكريات وضحكات تتعالى من حين لآخر.
تحية تكمل بابتسامة فخر: "أولادي مبسوطين بيا، بيتباهوا بشغلي، وبيقولوا للناس: شوفوا أمنا عملت إيه.. أنا فخورة إن شغلي اتعرض في معارض عالمية، وفخورة أكتر إن عندي 40 سنة بخيط وأشتغل من قلبي، وناوية أكمل لحد آخر يوم في عمري".
رسالتها لكل سيدة مبدعة كانت بسيطة وواضحة: "حافظي على شغلك وولادك وفنك.. إحنا مبسوطين بشغلنا ومش هانسيبه… الفن ده عمرنا، ومشاعرنا، وحكايتنا اللي بنحكيها بخيط".

صورة جماعية لفنانات الحرانية
Trending Plus