وجوهٌ لا تُفصح.. ومواقف تُفضح

من قال إن الوجوه مرايا صادقة؟ من قال إن الابتسامات تُترجم النوايا، أو أن الكلمات تعبّر دومًا عمّا تخبئه الصدور؟ يصعب ـ بل يكاد يستحيل ـ أن تعرف ما تخفيه الأنفس، فبعض القلوب تُجيد التنكّر، وبعض النوايا تتقن التجميل، وكثير من النفوس تُتقن فنّ التمثيل في مسرح الحياة.
لكن المواقف، آه من المواقف، فهي كالمرايا التي لا تعرف المجاملة، تضعك عاريًا أمام نفسك، وأمام الآخرين، لا تُهديك الوقت لتُجمّل ردّك، ولا تُنذرك قبل أن تضعك على المحك، هي اللحظة الفارقة، التي تسقط فيها الأقنعة وتظهر المعادن، فلا يعود للزيف مكان، ولا للمظاهر سلطان.
في لحظة أزمة، تتساقط أوراق التوت عن البعض، وتزهر أشجار الوفاء في البعض الآخر، في لحظة ضيق، تنكشف اليد التي تمتد لتأخذ، وتُخلّد اليد التي تمتد لتُعطي، في لحظة صمت، نسمع صوت النوايا الحقيقي، عميقًا، واضحًا، لا يرتدي حذاء التبرير ولا قبعة الأعذار.
المواقف لا تخطئ، لا تُخدع بالحديث المنمّق، ولا بالاهتمام المؤقت، ولا بالضحكة العريضة، إنها تمتحن ما وراء الواجهة، وتكشف من الذي كان "معك"، ومن الذي كان "فيك"، ومن الذي كان فقط "حولك".
كم من صديق أسقطته كلمة في موقف! وكم من غريب أصبح قريبًا في لحظة اختبار! فالمعدن الأصيل لا يصدأ في الشدة، ولا يخون في الغياب، ولا يُغير لونه بتقلّب الأحوال.
ومعادن الناس ليست ذهبًا ولا فضة، بل وفاء وصبر ونُبل، قد لا تراها في المناسبات، ولا في المجاملات، لكنها تظهر حين لا يكون الظهور واجبًا، حين تختبرك الحياة دون مقدمات، وتضعك أمام لوحة صريحة: هل ستبقى إنسانًا، أم مجرد "شخص"؟
فلا تُعطِ الناس أحكامهم من كلامهم، بل من أفعالهم حين لا يُشاهدهم أحد، لا تزن القلوب بالكلمات، بل بالثبات، بالصدق وقت العاصفة، وبالوقوف حين يسقط الجميع.
الحياة لا تمنحنا قدرة قراءة النفوس، لكنها تمنحنا مواقف تترجمها، والمواقف، رغم قسوتها أحيانًا، هي أكثر المرايا صدقًا، فلا تحزن إن كشفت لك من ظننته معدنًا ثمينًا، فإذا به طلاء رخيص، ولا تندهش إن لمعت أمامك روح، لم تكن في حساباتك.
لا أحد يُخفي معدنه طويلًا، والمواقف كفيلة بأن تُعرّي أو تُمجّد، بأن تفضح أو تُكرّم.
Trending Plus