تحف فنية بلمسة مصرية أصيلة تجمع جمال الصدف وفخامة الأرابيسك.. عم جلال نجار بلغ الـ78 عاما لا يزال يبدع فنا.. يعتمد في صنع قطعه الفريدة على أجود أنواع الخشب.. ونجله: المنتجات تزداد عراقة وسعرًا بمرور الزمن.. صور

داخل ورشة صغيرة بأحد دروب حى الدرب الأحمر، يجلس رجل سبعينى على حاله منذ عشرات السنين، على يمينه قطعًا براقة من الصدف البحرى تبرز جمال وسحر الطبيعة، وأنماط خطية متداخلة تظهر فيها روعة النقوش وانسجامها، وعلى يساره تحفًا فنية تحاكى تصاميم قطع الأثاث القديمة.

لم يعتبر جلال محمد محمود صاحب الـ78 عامًا، يومًا، حرفته كنجار أرابيسك فى درب شغلان، ثقلًا على قلبه بسبب ساعات العمل الطويلة، بل على العكس مجالًا للتفنن والإبداع، حيث يجلس مع ابنه مصطفى، يتفننان فى تصنيع قطعًا خشبية فريدة يغلب عليها لمسات من التفرد والجمال والفخامة، محافظًا على حرفة يدوية عريقة تأبى النسيان بصناعة متقنة وقطع مبهرة.

أقدم نجار عربى.. فى صناعة الأرابيسك

وبينما كان عم جلال يستقبل حمولة من ألواح الخشب، استعدادًا لتقطيعها وتجميعها في هيكل خشبي قد يكون كرسي أو طاولة أو مشربية، اختطفنا منه دقائق ليحكي لنا حكايته مع النجارة وصناعة الأرابيسك، فقال: "أنا نجار أرابيسك، عملت في المهنة منذ أن كنت في الـ15 من عمري، شأن الكثير من الصبية في ذلك الزمن لم أكمل تعليمي في المدرسة واتجهت للعمل في ورش النجارة، ورغم أن والدي كان صاحب مصانع نسيج، اتجهت للنجارة والأرابيسك حبًا فيه، فهو تراث عريق وفن عشقته منذ الطفولة وليس مهنة، ونحن نحيي هذا التراث".

جلال محمد محمود - أقدم نجار أرابيسك عربى

مهنة عريقة يعود تاريخها لمئات السنين ولا تزال آثارها باقية على البيوت الأثرية القديمة ويحييها حرفيو الدرب الأحمر بتحف فنية فاخرة تعكس عظمة الفنون التراثية: "الشغل العربي ليس مجرد صنعة، بل فن يعتمد على مهارة الحرفي وقدرته على الإبداع وذوقه وحسه الفني، ومنتجاته عبارة عن تحف وأنتيكات، تخرج من بين أيدي مجموعة من الحرفيين وليس فردًا واحدًا لتضفي طابعًا من الرقي والفخامة، وزبائنه يقدرونه ويعرفون قيمته".

جلال محمد محمود وابنه مصطفى

تعتمد الحرفة على مهارة وحرفية عدد من الفنانين، تجتمع لمساتهم معًا لتخرج قطعة فنية واحدة غاية في الروعة والجمال: "الأرابيسك هو الخرط الذي يوجد في المشربية وكان بارزًا قديمًا بشرفات ونوافذ القصور والمنازل وقطع الأثاث ومنابر المساجد، والحرفة بكل تفاصيلها ومراحلها، تشمل مهن النجارة، والخرط، والتطعيم بالصدف، مشيرًا إلى أن قديمًا وقبل ظهور المواتير كانت الخراطة تتم على المخرطة القوس، وكان الخراط يعتمد فيها على حركة يديه وقدميه، لذلك الخرط القديم أغلى من الحديث".

مراحل التصنيع

يغلب على منتجات "الشغل العربي" طابعًا تراثيًا، يظهر في الخامات المستخدمة والأشكال الزخرفية والهندسية المحفورة عليها سواءً بالصدف أو الأرابيسك: "نعتمد في عملنا على خامات عديدة فاخرة وغالية الثمن، منها العظم الجملي، وأخشاب الأبنوس والورد والجسترك، نستخدم الأخشاب القديمة لمتانتها وجودتها وقدرتها الكبيرة على التحمل"، مؤكدًا: "إن ماكنش خشب قديم ماينفعش لإن الجديد بيضرب إنما الخشب القديم عايش".

تحف فنية بلمسة مصرية أصيلة

وبينما كان يمسك بقطع من الأرابيسك وأخرى من الصدف جاهزة لتعشيقها في طاولة خشبية، أوضح "جلال"، أن مراحل التصنيع تبدأ بصناعة النجار لهيكل المجسم المطلوب سواء طاولة أو صندوق أو كرسي، والأرابيسك عبارة عن قطع خشبية ذات أنماط هندسية متداخلة، يشكلها الخرًاط على طريقة العاشق والمعشوق، والصدف خامة من الطبيعة يحولها الصدفجي إلى قطع هندسية صغيرة الحجم، وكلاهما يستخدمان في تزيين وتجميل المجسم الخشبي، مشيرًا بإصبعه إلى طاولة خشبية سداسية، جمع فيها قطعًا من الصدف، والأرابيسك، وعظم الجمل، وخشب الأوسترك، وبجاورها صندوق العروس، تلك القطعة الفنية التي كانت تستخدم قديمًا في عهد الخديوي، لتجميع مستلزمات العروس من ملابس وأقمشة وهدايا ومجوهرات ثمينة".

جانب من الاعمال الفنية

يجسد الأرابيسك فنون الصناعة اليدوية، التي تجمع بين النجارة، والحفر، والزخرفة، والتعشيق، والنقش، والتطعيم، لتضفي رونقًا وطابعًا جماليًا فريدًا في عمل فني مصنوع بخامات طبيعية وحليات لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى: "الأرابيسك، فن صعب له أصول وقواعد وأساسيات توارثناها أبًا عن جد، يظهر فيه مهارة الصانع وحرفيته وذوقه الفطري، والمنتجات المصنوعة يدويًا تتميز بدقة الصناعة وبراعة التصنيع وجودة ومتانة خاماتها، وتطلب في كل دول العالم العربية والأوروبية، ومنها فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا"، مؤكدًا: "شغل على قديمه كأنه معمول من 200 سنة".

ورشة صناعة الأرابيسك

على خطى والده، سار مصطفى جلال، صاحب الـ38 عامًا، على درب الحرفة التي أصبحت جزءًا من هويته، إذ بدأ رحلته مع فن الأرابيسك وتطعيم الصدف منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، عندما قرر أن يترك التعليم ويلتحق بالورشة، ليكون امتدادًا لوالده في هذه الصناعة التي تتطلب مهارات خاصة وصبرًا وإتقانًا فريدًا: "لم أكن أحب المهنة في صغري، لكن والدي كان يعلمني عمليًا، يأخذني معه، أراه وهو يقطع الخشب، ويجمع القطع، ومع الوقت والتكرار أصبحت أتقن العمل.. والآن أصبحت مهنتي التي أعتز بها وأحبها".

تعتبر مراحل تصنيع الشغل العربي رحلة طويلة من الإبداع: "تمر صناعة الأرابيسك بمراحل دقيقة تبدأ باختيار الأخشاب المناسبة، ثم تُقطع بأبعاد دقيقة داخل الورشة، ويتم تشكيلها حسب التصميم المطلوب باستخدام الماكينات والأدوات اليدوية التقليدية، بعد ذلك، تأتي مرحلة التجميع، حيث يتم دمج القطع الخشبية معًا لتشكيل التصميم الأساسي، سواء كان طاولة، كرسي، صندوقًا خشبيًا، أو حتى منبرًا للمساجد".

التطعيم بالصدف والعاج جوهر صناعة الأرابيسك

يعد التطعيم بالصدف والعاج جوهر صناعة الأرابيسك، حيث يضفي على القطع الفنية قيمة جمالية وروحية مميزة: "مرحلة التطعيم، وهي جوهر الحرفة، حيث يتم تطعيم الخشب بالصدف الطبيعي، العاج، العظام، أو القرون، مما يضفي على القطعة قيمة جمالية وروحية مميزة، هذه المواد تأتي من مصادر متعددة، حيث يُستورد الصدف الأزرق النادر من فلسطين، بينما يأتي الصدف الأبيض من السويس والغردقة وشرم الشيخ"، موضحًا: "أنا صدفجي، مسؤوليتي الأساسية هي تقطيع الصدف وصنفرته ليكون ناعمًا ومتناسقًا، ثم أقوم بتشكيله حسب التصميم المطلوب، وربطه بالخشب بطريقة متقنة، واستخدم أنواعًا مختلفة من الصدف، مثل الأبيض الياباني أو الأسترالي، والأزرق الفلسطيني الذي يُعد الأغلى، حيث يصل سعر الكيلو منه إلى 2500 جنيه".

تُستخدم منتجات الأرابيسك في القصور والفنادق الفاخرة، وليس فقط في البيوت العادية، حيث تمتاز هذه القطع بأنها كلما مر عليها الزمن ازدادت قيمتها وعراقتها، ما يجعلها استثمارًا فنيًا أكثر من مجرد قطعة ديكور: "الشغل العربي اليدوي له قيمة خاصة، لأنه فن نادر ويحتاج إلى دقة كبيرة، نحن آخر جيل تعلم هذه المهنة، والأجيال القادمة لا تهتم بهذه التفاصيل، بل تبحث عن الحلول السريعة، لكننا لا زلنا نحافظ على هذا التراث".

في زمن تسيطر فيه الصناعة الحديثة على الأسواق، يظل "الشغل العربي" متربعًا على عرش الفن الراقي والمقتنيات الفريدة، حيث تبقى أنامل الحرفيين الموهوبين مثل جلال ونجله مصطفى، شاهدة على إبداع مصري خالد، لا يعرف الاندثار: "نعمل على تصدير منتجاتنا إلى الأسواق الخارجية، ونتعامل مع تجار من الإسكندرية، المغرب، والكويت، فالحفاظ على هذه الحرفة مسؤولية كبيرة حتى لا تختفي وسط زخم المنتجات الصناعية الحديثة".

بين أنامل عم جلال التي اعتادت تقطيع الخشب وتشكيله منذ أكثر من ستة عقود، وإبداعات ابنه مصطفى المعشوقة بالصدف، يظل فن صناعة الأرابيسك محافظًا على مكانته كواحد من أرقى الفنون التراثية في مصر، حيثُ جلال الأب، الذي أفنى عمره في إحياء هذا التراث العريق، لا يزال حتى اليوم يضع لمساته المتقنة على قطع الأثاث الفاخرة، بينما مصطفى الابن، يحمل على عاتقه مسؤولية إبقاء الحرفة المصرية الأصيلة.