خالد دومة يكتب: تحية إلى الماضى

كان وقوفها يمتد لساعات طويلة، لم يكن الملل يتسرب إلى قلبها أبدا، بل كان أملا يملأها، ويشحذ عزيمتها، كان الحب هو عمودها الفقرى، الذى تتوكأ عليه، فيمنحها القوة والصلابة، لم تكن جميلة، ولكن لها روح تملأ الأجواء سعادة.
كانت ابسامتها ساحرة، لعل ذلك لأنها تخرج من قلبها مباشرة، كنت أحب تلك الابتسامة العابرة، كانت تضيء وجهها، وأنا أمر من الشارع، وهى على مقربة، فلا أنظر إليها، لم أخطف نظرة واحدة، وأنا بينى وبينها خطوات، كنت أمر وعندما أبتعد أختلس تلك الابتسامة، كانت هى أيضا حريصة على إعطائى إياها، لم نتكلم كلمة واحدة، وإن دارت آلاف الحوارات بالعين، وبالنظرة الخاطفة، كانت تطول لساعات أيضا، نظرة واحدة، تجلس فى غرفتك فى المساء، فتتلقى أحاديث لا نهاية لها، لا أنكر خلبنى ذلك العود المصلوب على الباب، ينتظر أن أمر من أمامه، هل كنا أطفال، عندما كان الشغف يقتحم قلبينا الصغيرين، إن شيئا عظيما ظل قابع فى أعماق النفس، لا يبرح، رغم مرور الأيام والسنوات الطوال.
كلما مر على الذاكرة شيء من طيفها حتى عند مرورى بالمكان، ورغم أن كل شيء تغير، وأنطفأ المكان، لم يعد هناك البريق القديم، إلا أن شيء يتحرك، يحاول أن يخبرنى بشيء، ولكنى أتجاهل كعادتى دائما، أحيانا كثيرة، كانتا تقفان كتوأمتين، هى وأختها، كانتا رقيقتين، وكان باب البيت التى يقفان بداخله قليلا، تبدوان كزهرتى نرجس، تفوحان عطرا، وتنشران فيه جمالا خاصا، هيبة الحياة إنه نفس المكان، الطريق لم يتغير، البيوت كما هي، لم تعد هناك، فقط هى الغائبة، لم تقف فى مكانها المعهود، فلا البيت هو هو، ولا المكان هو المكان، ولا شيء، إنها أشبه بصحراء قاحلة، يتم متصل، وبكاء وعويل من تراب الأرض والجدران، إنها لم تعد تقف، فتغير الوجود، ودار الزمان دورته المؤلمة، ذلك الشعور ولم يكن هناك كلمة واحدة، إنما هو الوقوف على عتبات العشق المستحيل.
هل فكر فى يوم أن يتزوجها، أن يتقدم لها، لم يكن ذلك فى الحسبان، إنه عاش وهو موقن، أن الرفض سيكون مآل طلبه، لا شك أن الفقر عيب كبير، وأن الناس يبحثون عن ما يريح أبناءهم، وأن الحب لا يكفي، وما لنا والحب، إنه ليس من أهلنا، ولا صلة لنا به، فليذهب إلى الجحيم، إن كان الفقر ملتصق به، لا يبرح له مكان، هل كانت تعلم إنه يخشى الخذلان؟ هل كان قلبها يسوقها دون وعي؟ وقفاتها مصلوبة لساعات هل كان لها نهاية فى مخيلتها، كانت تحبه، لا شك وكان يحلم بها لياليه، ولكن كانا يعلمان أن النهاية، ليست لهما، وأنهما يتغاضيان عن الحقيقة، يهربان منها، كانا يؤمنان بها، لذا لم تكن هناك كلمات، وما جدوى الكلمات، لعلها تؤزم الأمر وتجعله ينتهى نهاية مؤسفة، يتحطم قلبيهما، كان ذلك يخفف حدة مصرع ما نما فى قلوبهم، ولم يكن لأحدهما يد فى ذلك، إنهما لم يجرمان، كان حكم القلب، الذى لا سلطان لأحد عليه، ولو كان الأمر بيد الناس، لم وجد على ظهر الأرض عين تبكي، ولا روح تشقى، ولكان كل شيء صامت جامد، لا حراك فيه، هل كانا يشعران بكل هذا، جائز ولكن لم يريدا مواجهته، فى الوقت الحاضر، فليقتنصا من الحياة القليل، قبل المواجهة الحقيقة، فهل كانت تنتظر أن يأتي، وهو لم يفهم ذلك، وما الحائل.
كانت تراود خاطره، أفكار غريبة، ربما يبرر بها عدم ما يشعر به من جفاء الحياة له ولأمثاله، مضى إلى حال سبيله، دون أن ينظر إلى الوراء، فكل الأشياء فى هذه الحياة، تتبدل وتنتهى فلماذا لا يتبدل قلبها وقلبه؟ وينسى كما نسى أشياء كثيرة فى حياته، الأمل والغد المشرق، والطموح المتصاعد، والسفر ورؤية الحياة، كلها تلاشت وباتت فى خبر كان، فلماذا لا ينتهى الحب؟ ويصبح مجرد ذكرى، تنتهى كما تنتهى الأشياء، وترحل كما يرحل الناس، ويموت كما يموت كل شيء فى نهاية الأمر، فلماذا كلما مررت بالقرب من الماضي، قارنت بينه وبين الحاضر، وما الذى يعود على، سوى وخز فى نبضات القلب، إن صورتها لم تنقطع، وهى فى سنوات الصبا عن مخيلتي، هناك تقف كما كانت تقف دائما فى انتظار، وكنت أمضى أتلهف بالمرور، كانت خطواتى سعيدة، فى بدايتها، حزينة فى نهايتها، مقبل عليها بقلب وروح، أعد الخطوات المتيمات نحو قلبها المنتظر، كانت تبدو من خلف بابها طاقة ضوء، وجهها المستدير، لون بشرتها الذى لم أتحقق منه، كان تبدو من على البعد خمرية بيضاء، لا أدرى لكنه لون منفرد كوجهها، وأنفها المصقول كحد السيف، كم كنت أتمنى أن أقبله، وما بين العينين المطلتين كلؤلؤتين، كانت متوسطة القد كتمثال مرمري، منحوت بدقة، فلا زيادة، إنه الحد المطلوب من كل جارحة، كان صمتها ونظرة عينيها، تملى على خاطرى فى المساء الأخير، وقبيل الفجر قصائد مطولة، وأظل أنقل ما تملى على تلك النظرات، حتى مطلع الفجر، حتى تأخذنى سنة من نوم، ثم تمضى بى عينيها إلى الاستغراق فى نوم عميق، تطل لى فيها قريبة منى أشد القرب، ووجهى فى مواجهة وجهها وعينى مصلتتين على عينيها، أستقى منها جرعات من جمال الكون، المحيط بي، أضع يدى على وجهها، أتلمس بيدى رأسها وأصابعى تخط على شفتيها قصائد، غير مسموعة، كنت أنتشى بروعة لقائها وزيارتها لى فى أحلامي، طالما أننا لن نلتقى فى عالمنا، فلا أقل من نلتقى فى عالم آخر.
أظنها كانت تبعث لى بهذا، وأنا أتلقاه بامتنان شديد، فكل ما كان بيننا إشارات فقط، أحاديث العيون، كنت أتساءل لماذا لا أتجرأ للحديث معها؟ إنها لا تنهرك، بل لعلها تشكرك على هذا السبق، ولكنك ظللت تستحى حتى يئست من كلامك يوما ما، واكتفت بالإشارات وبأحاديث العيون، لم أرها منذ زمن بعيد، ولكنها لازلت تحتل جزء منك، رغم الرحيل، فهل فى قلبها ذلك الجزء أيضا، يلح عليها أحيانا كما يلح علي، أم أنها.
Trending Plus