خالد دومة يكتب: العبث المقدس (3)

خالد دومة
خالد دومة

عندما تُصاب بالشتات الداخلي, فالأمر ليس سهلاً في جمع ما تبعثر منك, عندما تُصبح بقايا حُطام مُتناثرة, وتُحاول أن تُعيد هيكلة ذاتك, تُلملم أشلائك المُتناثرة وتُعيد صياغة نفسك مرة أخرى, فأنت لاشك أصبحت غيرك, كل شيء ليس في مكانه الصحيح منك, فتصير كالخرقة البالية, وقد رقعتها أيدي الزمن, ثم تُحاول مرة أُخرى, جاهداً أن تُعيد تنظيم الفوضى التي حلت بك, فإذا بك قد بعُدت خطوات عن الأصل, ينتابُك شيء من جنون, ثم تُحاول مرة أخرى, ثم مرة بعد مرة, وقد اضطربت حواسك, وفي أخر الأمر, تؤمن بأن إعادتك على ما كنت عليه مستحيلة, وليس لك إلا أن ترضخ لهذا النسيج الجديد, تؤمن به, وتطمئن إليه, وتُكيف وضعك على هذا الدخيل الذي هو غيرك, يملي عليك أشياءً, لم تكن تخطُر على ذهنك, وكنت بعيداً عنها كل البُعد, يُملي عليك أفكاراً جديدة, وأهواءً جديدة, ورغباتٍ لم تكن تستهويك من قبل, وتنظُر إليها بعين السُخط والإحتقار, وتتسأل أين أنا من هذا كله؟ فتكتشف أنك غير موجود, شيئاً فشيئاً تتناسى, ثم تنسى, ثم تُطمس كل ذكرياتك القديمة عنك, ولا تتذكر غير هذا الدخيل, الذي لم تعرفه يوماً, ولم تقابله في طريق ولو بالمصادفة, وتتعجب وتندهش, وقد تتساءل بعد أن تنتابك الحيرة والشك, هل لأني هش ضعيف قد غيروني؟ أم أنهم هم من أجبروني ببطشهم على التغيير؟ أو لعلي عدت إلى حقيقتي, التي كانت مطمورة بداخلي, وكنت, أُخفيها عن الأخرين, وأنا لا أدري, خشية من شيء ما, أو هو خوف كامن في أعماقي, فلما زال, ظهرت كما أنا بلا رياء, وبلا نفاق, ظهرت بوجهي الحقيقي, وتأخُذني دوامة الأوهام والأفكار, فلا أدري أين الحقيقة الغائبة عنا؟

عندما أنظر في المرآة الآن, كأني أقف بين مرآتين متقابلتين, تنعكس أمامي مئات الصور المتكررة، أراني مئات المرات، وجوه متعددة لشخص واحد، قوام واحد، تجاعيد واحدة، وإن تباعدت وبهتت الرؤية قليلاً، ففي نهاية الأمر أنا هي, دون زيادة أو نُقصان، بلحمي وشحمي ودمي، عندما كنت أنظر قديماً في المرآة كل صباح, كنت أراني امرأة واحد, لا ألحظ أي إختلاف في وجهي، كنت دائما أنا، لكن صورتي الآن أختلفت تماماً عن صورتي في بداية حياتي, لا تشابه بينهما, ولو وضعت الصورتين أمامي, لتعجبت كيف تكون صاحبة الصورتين, شخص واحد، عقل واحد، قلب واحد، لا شك أنها تحمل الأصول, ولا أستطيع  أن أنكر أنه أنا, رغم أثر عوامل الزمن، ولكن الذي أعلمه علم اليقين, أن ما بداخلي ليس أنا فقط, أو أن هناك من يُزاحمني في جسدي وروحي, وأن بداخلي أكثر من امرأة, لا تقارب بينهن، ولا يجمعهن شيء على الإطلاق, فيهما من التناقض, ما يجعلك تتعجب وتندهش, كيف لامرأة واحدة, وجسد واحد, أن يحمل في طواياه, كل هذا الإختلاف والتبديل والتغيير, كنت في صبايا, وأول عهدي بالحياة, أراني أنظر في المرآة, أتأملُني وأطيل النظر, فأتيه فخراً وإعجاباً بنفسي، أم الآن فأنا استرق النظر إلى وجهي, وأحيانا أُغمض عيني, ولا أُحب أن أراني, ولا أُطيق النظر إلى وجهي, فقط أتحسسه, لأتأكد أنه لايزال قابع في مكانه, وأنه لم يزل موجود، كنت في الأولى أعشق المرآة، وأعشق وجهي المطل منها، وأنا الآن أكره المرآة, وأكره كل زجاج يعكس صورتي، ماذا أصاب مرآتي؟ أم ماذا أصابني؟ لعل الذي أصاب مرآتي شرخ عظيم, أمتد إلى جذوري فأضعفها, ومنها إلى جوارحي وأعضائي, صار العطب سرطان, ينتشر في كل خلية من خلايا جسدي وروحي, حتى أفسد كل شيء.
كان لابد أن أستطيع، في ساعة ما، أن أواجه هذه المرأة التي تسكنني، والتي تُطاردني، فقد سئمت الهروب والخوف، وددت لو ماتت مُنذ زمن بعيد, لكنها لم تمُت لم تتركني، وظلت على عهدي بها, تُطاردني وتُنغص علي حياتي، عدو يتربص بي, لابد أن أقف أمامها وجهاً لوجه، وقلباً لقلب, وعقلاً لعقل, وأنثى لأنثى، أسألها لماذا تُلقي بي في جحيمها الذي لا ينتهي, وهي مني وأنا منها؟ إنها تحفر لي ولها أخاديد, وتُلقي بنا في أتُونها المُحترق، تُلهب به جلدي وكياني ووجودي، وعبثاً كنت أحاول الخلاص منها، فجحيمها من ورائه جحيم، ونارها تتلوها نارأشد، كنت قوية في بداية الأمر،لا ألقي لها بالاً, ولا أسمع لها صوتاً, أتدرع بأنوثتي وشبابي وطغيان جمالي, بعقلي الفتي، كنت أطأ بقدمي على كل شيء، أجتاز الحرائق، وأخرج من أوضارها, وكأن شيء لم يكن, كنت دائمة الانتصار، أرفع أعلامي فوق صروحي وممالكي, والتي لا يستطيع أحد أن ينتزعها مني, أو يقترب منها، أما الآن لم أعد أحتمل، كبُرت سني، لم أعُد أجيد المُراوغة والهُروب، المُواجهة أصبحت صعبة, عبء ثقيل لا أتحمله, يجثو فوق صدري المتهالك, لا محالة من الوقوف أمام نفسي الآن, أقف كما يقف المذنب أمام الراهب, ليُلقي إعترافاته, آثامه, وذنوبه التي تثقل كاهله, وتقلق مضجعه, وتنغص عليه حياته, يُفضي بما لديه ليستريح, لينال المغفرة، يعود حاملاً سُكُوك غُفرانه بين يديه، رافعاً بها يديه نحو السماء, وفي الوجوه, فيعود بلا ذنب, كيوم أن كان صفراً نظيفاً, ليهدأ وينام ويُسدل أستار أوجاعه وألامه، ولكن هل أستطيع أن أتكلم؟ أن أبوح بما لدي, أن أواجهني؟
لابد أن أقف الآن أمام مرآتي قوية كما كنت في سنوات الصبا, أريد المواجهة, لن أفر منها أبداً بعد الآن, ولماذا أهرُب من نفسي؟ من مواجهتها؟ أيكون ذلك شيء مؤلم؟ أن أحاول الفرار منها, أن أمحوها من ذاكرتي، أن أجهل ملامح وجهي فأستريح, ولماذا لا أواجه الحقيقة وأستريح من عناء الهروب؟ أواجهها, لعلها تسمعني وتُصغي إلي، لعلها تُسامحني, إن كنت مُذنبة وتعفوعني؟ هل حقا أستطيع أن أواجهها؟ أن أبوح بما يؤرقني؟ أن أفتح تلك الخزائن المُغلقة بآلاف الأقفال؟ أن أنبُش في القبور؟ وفي أعماقي وأن أعترف بجرائمي، وأن أقف داخل قضيان أوزاري، أن أتعرى أمام نفسي ولو لمرة واحدة، أُوقظ ضميري, هل أستطيع أن أتجرد من هذه الأغطية الكثيفة التي حصنت بها نفسي؟ لأراني على حقيقتي, دون مكياج, ودون رتوش وأصباغ, أقف لأرى وجهي وأتأمله,  أقف أمام نفسي وضميري, الذي يؤرقني, وينغص علي حياتي ووجودي, أقف متهمة, وأنا أواجه نفسي بأبشع ما أقترفت من الجرائم, ولولاها ما وقفت, ولن يراني أحد عارية غيرها, ولن أبكي أمام غيرها, فإليك نفسي أنت فقط أبوح, وإليك أتعرى, فأنا أريد أن أنام, أن أعود لأرى وجهي القديم, أن أنظر في المرآة, لأمشط شعري, أدقق النظر في عيوني, أن أرى أثر قلبي على ملامحي, أنا أريد أن أبتسم لي, فترد مرآتي لي الإبتسامة, وأنا أغني معها, أريد أن أعود إلى نقطة العشق الأولى وانطلق منها, وأمنح قلبي قبلة تتوغل قي جسدي وروحي, أريد أن ألقاني وأحتضني, بعد أن فقدت نفسي في زحام الحياة, ولكن هل ستعرفني؟ تغفر لي نسيانها, بعد مرور كل هذه السنوات, أمسح عنها الغبار بعد أن دفنتُها بيدي في ميعة الصبا, وأعود بها إلى الحياة لنموت معاً.
ولكن لماذا أعترف الآن؟ ألأن التجاعيد بدأت تزحف إلى وجهي؟ أم لأني أقتربت من النهاية؟ وأن الحياة تبتعد عني شيئا فشيئا، أتعود رابعة من جديد, تلهو وتعبث وتقترف من الآثام ما لا حصر له, تشرب منتشية, من خمر المتعة, حتى إذا اضمحل جسدها وأنزوى, وفقد بريقه المتقد, عبر سنوات الشباب, عادت إلى الله بكل قوتها, التي استقبلت بها الحياة من قبل, وتغيرت بوصلة قلبها المتقلب, إلى الإيمان في نهاية الأمر, هل تعود؟ بعد أن أجبرتها الطبيعة على العودة, بعد أن أصبح سلاحها هش, لا قيمة له بعد ضعفه ووهنه, بعد أن أعطت لها الحياة ظهرها, ونفرت منها عيون الرغبة, فهي تبحث عن الروح, بعد أن خمدت نار الجسد, وهدأت فورت الشباب, ثم تدعي أنها تريد أن تواجه نفسها الضائعة.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

موعد مباراة الأهلى وسيراميكا فى كأس عاصمة مصر والقنوات الناقلة

محمد إمام لأولاد عمته الراحلة: انتوا رجالة وقد المسئولية وكلنا فى ضهر بعض

أعلاف من قلب الصحراء.. تجربة مبتكرة تخفض التكاليف وترفع الإنتاج.. نجاح إنتاج خليط من نبات الأزولا وكمبوست مخلفات النخيل فى الوادى الجديد كعلف حيوانى.. والخليط عالى القيمة الغذائية للمواشى وبتكلفة مخفضة.. صور

الحسابات الفلكية تكشف موعد بداية شوال وأول أيام عيد الفطر 2026

باريس سان جيرمان يحقق إنجازا تاريخيا بعد التتويج بلقب كأس الإنتركونتيننتال


تحذير هام من الشبورة المائية.. حالة الطقس اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025

بعثة منتخب مصر تصل المغرب استعدادا للمشاركة فى بطولة أمم أفريقيا

لماذا تعجل فيفا فى إيقاف قيد الزمالك؟ السر فى صفقة شيكو بانزا

باريس سان جيرمان يتوج بكأس إنتركونتيننتال على حساب فلامنجو بركلات الترجيح

قرار عاجل من النيابة فى واقعة وفاة الفنانة نيفين مندور بالإسكندرية


مواعيد مباريات منتخب مصر فى بطولة أمم أفريقيا

ما هى الأنفلونزا؟ وكيف تنتشر؟ وزارة الصحة تجيب

ابنة نيكول سابا تظهر لأول مرة فى كليب تلج تلج احتفالاً بالكريسماس

مجدى فكرى يقلب السوشيال ميديا بصور لرجل مختل عقليا.. والفنان يكشف الحقيقة

رئيس الوزراء: مشروع حياة كريمة أعظم مشروع فى القرن الواحد والعشرون

رئيس الوزراء: أمل مصر فى زيادة الصادرات..والعام الأخير شهد أقل عجز تجارى

فرصة أخيرة للفنان محمد رمضان بعد تأييد حبسه عامين بسبب أغنية رقم 1 يا انصاص

فيفا يوافق على تخصيص جزء من عائدات كأس العالم 2026 لدعم غزة

تأييد حبس الفنان محمد رمضان عامين بسبب أغنية رقم واحد يا أنصاص

أمم أفريقيا 2025.. موقف حكيمى من المشاركة فى مباراة المغرب وجزر القمر

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى