تغطية الجنازات بين حق الصحافة وحرمة الموت.. تاريخ توثيق الجنازات من الفراعنة حتى الأسر الأوروبية وأشهر ما وثقته عدسات المصورين.. ورئيس شعبة المصورين: نحاول حماية المهنة من الدخلاء

نشأت الصحافة المصورة كشاهد عيان على الأحداث التاريخية، حيث تُخلد الصور لحظات لا تُعبر عنها الكلمات، ولم تكن الجنازات مجرد طقوس وداع، بل تحولت إلى ظواهر إنسانية عالمية، تتناقلها العدسات لتوثق تفاعل المجتمعات مع الفقد، وبين الجموع الهادئة والحشود الثائرة بالبكاء أو التأثر بالراحلين، توثق عدسة المصور الصحفى هذا الحدث الجلل، من جنازة زعيم سياسى إلى وداع فنان محبوب ومن موكب ملكى مهيب إلى جنازة شعبية جابت الشوارع، تبقى الكاميرا شاهدة على لحظة إنسانية خالصة تتجاوز الكلمات والمقالات، وتخلدها الصور فى الذاكرة للعالم.

تاريخ تغطية الجنازات بين التفاخر وتوثيق التاريخ

فى تلك اللحظات، تتجاوز عدسة المصور الصحفى حدود الصورة التقليدية، لتصبح عين التاريخ التى توثق تفاصيل دقيقة: دمعة انزلقت على خد، عناق صامت بين غرباء وحّدهم الحزن، أو زهرة وضعت فوق نعش، هذه التفاصيل، وإن بدت بسيطة، تترجم مشاعر لا تستطيع المقالات ولا الكلمات المكتوبة نقلها بنفس التأثير.

لكن هذا التوثيق البصرى، الذى نشأ بدافع إنسانى وإخبارى، بات فى الآونة الأخيرة موضع جدل واسع، خاصة مع التغطية المكثفة لجنازات المشاهير، فقد تصاعدت الأصوات المنتقدة لما وصفته بـ«اقتحام الخصوصية» وعدم احترام جلالة الموت، حيث يرى البعض أن عدسات المصورين تتسلل إلى لحظات الضعف الإنسانى لتستغلها بهدف تحقيق الانتشار أو إثارة التفاعل على المنصات الرقمية.

فى المقابل، يرفض فريق آخر هذه الاتهامات، ويؤكد أن الشخصيات العامة، بحكم مكانتها، تبقى فى دائرة الضوء حتى فى لحظات الوداع، وأن توثيق جنازاتهم لا يُعد انتهاكا، بل هو جزء من التاريخ البصرى الذى يحق للجمهور الاطلاع عليه، ويرى المدافعون عن المصور الصحفى أنه يؤدى واجبه المهنى فى نقل الحقيقة وتوثيق مشاعر عامة، لا خصوصيات فردية، وأن حدود الاحترام يمكن أن تُحفظ بالتوازن، لا بالمنع، فى السطور التالية نحاول تتبع تاريخ تصوير الجنازات وتطوره بالإضافة إلى آراء المهنين فى الجدل المتكرر مؤخرا كذلك أشهر الجنازات التى خلدتها ذاكرة التاريخ.

توثيق لحظات الوداع.. بدأ تصوير الجنازات، أو «تصوير ما بعد الوفاة»، من قرون طويلة بأشكال متعددة، لم يكن التصوير الفوتوغرافى فيها قد وُجد بعد، لكن الشعوب، خاصة الأوروبية، عرفت طرقا فنية لتخليد أحبائها، فقبل اختراع الكاميرا، كانت العائلات الأوروبية، خاصة من الطبقة العليا، توثق ذكرى موتاها عبر رسم صور ولوحات فنية.

تصوير الموتى في أوروبا

أما فى الحضارة المصرية القديمة، فقد اتخذ توثيق الجنازات شكلا آخر، أعمق وأكثر رمزية، فقد أوضح الباحث الأثرى فؤاد الشاذلى فى حديثه لـ«اليوم السابع» أن المعابد المصرية القديمة كانت توثق طقوس الموت والانتقال إلى العالم الآخر على جدرانها ورسوماتها، فى إشارة إلى تقديسهم للحياة والموت معا، وأضاف أن قدماء المصريين سبقوا العالم فى هذا الشكل من التأريخ البصرى الذى ربط بين الفن والتاريخ والعقيدة.

رئيس شعبة المصورين: نرفض أي إساءة لفظية في حق المصورين الصحفيين 

ضوابط مشددة ومسؤولية أخلاقية.. فى السياق المعاصر، ورغم التقدم التكنولوجى الكبير فى مجال التصوير، لا تزال عدسة المصور تلعب دورا حساسا عند تغطية الجنازات، خاصة جنازات المشاهير، لكن فى الآونة الأخيرة، تصاعد الجدل حول دور المصورين الصحفيين فى مثل هذه المناسبات، إذ يرى البعض أن وجودهم خلال هذه اللحظات المؤثرة يُعد انتهاكا للخصوصية واستغلالا لمشاعر الحزن الصادقة، بينما يرى آخرون أن توثيق وداع الرموز العامة هو جزء من مسؤولية الصحافة، وحق مشروع للجمهور فى متابعة تفاصيل حياة هؤلاء الذين شكلوا جزءا من الذاكرة الجماعية، حتى فى لحظاتهم الأخيرة.

فى هذا السياق، أوضح الأستاذ مجدى إبراهيم، رئيس شعبة المصورين الصحفيين، فى حديثه لـ«اليوم السابع»، أن تصوير الجنازات يخضع لضوابط صارمة متفق عليها داخل المجتمع الصحفى، مؤكدا أن كل مصور صحفى يتلقى تدريبات دورية للتعامل المهنى مع مثل هذه اللحظات الحساسة، وأشار إلى أن الفرق كبير بين الجنازة والعزاء، فالأولى تُعد حدثا عاما لوداع شخصية عامة، بينما العزاء مناسبة خاصة خاضعة لرغبة الأهل.

وأكد أن الشعبة تحترم تماما رغبة الفنانين الذين يرفضون تغطية العزاء، كما حدث مع الفنان خالد الصاوى فى عزاء والده، والفنان كريم قاسم، الذى أبلغ الشعبة رسميا برغبته فى عدم تغطية عزاء والده.

وأشار رئيس شعبة المصورين الصحفيين إلى أنه تم الاتفاق مع إحدى الشركات على تصميم «فيست» أو صديرى خاص بالمصورين الذين يغطون الجنازات، ليكون وسيلة تعريف واضحة بالمصور المهنى، والتمييز بينه وبين منتحلى صفة الصحفيين الذين يسيئون للمهنة.

أما عن الضوابط الميدانية لتغطية الجنازات، فأبرزها الالتزام بالمناطق المخصصة للتصوير، التصوير من بُعد، احترام خصوصية الراحل وأسرته، عدم التطفل أو إظهار الانفعالات المفرطة، والالتزام بمظهر لائق يعكس وقار اللحظة.

كما شدد على ضرورة أن تتحرك نقابة المهن التمثيلية قانونيا ضد منتحلى صفة الصحفيين الذين ينتهكون حرمة الجنازات بنقل لقطات وفيديوهات بشكل مسىء على صفحات مشبوهة.

أشهر الجنازات من "يا جمال يا حبيب الملايين" حتى البكاء على نيلسون مانديلا والأميرة ديانا

محطات خلدتها عدسات الكاميرا فى وداع الكبار.. من القاهرة إلى كيب تاون، ومن الفاتيكان إلى لندن، حملت الكاميرات دموع الشعوب ورسائل الحب والوداع، ولعبت عدسة المصور الصحفى دورا محوريا فى توثيق الجنازات، لتتحول الصورة إلى وثيقة تاريخية تختصر مشاعر الملايين، وتبقى شاهدة على هيبة الموقف وصدق المشاعر. وفيما يلى أبرز الجنازات التى وثقتها الكاميرا وحفرتها فى الذاكرة الجمعية للبشرية:

مصر.. جنازة الزعيم جمال عبد الناصر (1970)

فى 28 سبتمبر 1970، ودعت مصر والعالم العربى الزعيم جمال عبدالناصر، فى جنازة وُصفت بأنها من أكبر الجنازات فى التاريخ الحديث. تحولت شوارع القاهرة إلى بحر بشرى، امتلأ بالحشود التى خرجت بالآلاف والدموع تملأ أعينهم، يهتفون «يا جمال يا حبيب الملايين»، عدسات الصحافة وثقت لحظة الانكسار الشعبى، وملامح الحزن الجارف، وأصبحت الصور مرجعا دائما للتاريخ، لا تُنسى لا محليا ولا عالميا وشهادة لا يمكن إنكارها على شعبية «الزعيم جمال عبد الناصر».

الإمارات.. جنازة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (2004)

رغم مكانته الرفيعة كأبٍ مؤسس للإمارات، إلا أن جنازة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان اتسمت بالتواضع والبساطة، وهو ما نقلته بصدق عدسات الصحافة الخليجية والعربية، المشاهد التى وثقت مراسم التشييع كشفت عن عمق الحب الذى يكنه له شعبه، إذ اختلطت ملامح الوداع بالهيبة، فى مشهد عاطفى نادر وثق نهاية رجل دولة أحب شعبه فأحبوه حتى آخر لحظة.

مصر.. جنازة كوكب الشرق أم كلثوم (1975)

 فى فبراير من عام 1975، توقفت القاهرة، وخرج أكثر من أربعة ملايين شخص إلى الشوارع لتوديع «كوكب الشرق» أم كلثوم، تحولت الجنازة إلى ما يشبه مظاهرة حب وتقدير لفنانة أثرت فى وجدان العرب. الكاميرات التقطت المشهد من زوايا مختلفة، من الزحام الخانق، إلى بكاء النساء والرجال، ومن مشهد النعش المحمول بصعوبة وسط تدافع الجماهير، إلى لافتات الحب الشعبى التى رفعت فى كل مكان.

جنازة أم كلثوم

مصر.. جنازة عبد الحليم حافظ (1977)

رحل العندليب فى ربيع عام 1977، وخلف وراءه جرحا عميقا فى قلوب محبيه، وثّقت الكاميرات ما يشبه حالات الهستيريا الجماعية، من صراخ وبكاء وانهيار بين الشباب والفتيات، والتقطت عدسات الصحافة صورا شديدة التعبير عن حالة الفقد لأيقونة الرومانسية والأغنية العاطفية الذى ظل يُغنى للحب والوطن والحنين حتى آخر لحظة.

بريطانيا.. جنازة الأميرة ديانا (1997)
 

 لم يكن العالم مستعدا لرحيل «أميرة القلوب» الأميرة ديانا فى حادث مأساوى عام 1997، وفى يوم جنازتها، تابع الملايين من كل أنحاء العالم عبر الشاشات بثا مباشرا نقلت فيه الكاميرات لحظة تاريخية بامتياز: الأميران الشابان ويليام وهارى يمشيان خلف نعش والدتهما بصمت مؤلم، الصور تحولت إلى رمز للحزن العالمى، ولا تزال إلى اليوم من أكثر اللقطات المؤثرة فى التاريخ الحديث فضلا عن المشاهد التى وثقت حزن الجماهير.

مصر.. جنازة فاتن حمامة (2015)

رحلت «سيدة الشاشة العربية» فاتن حمامة وتركت خلفها جمهورا وفيا، وفى أحد أبرز مشاهد الجنازة، ظهر رجل مسن يحتضن النعش بقلب منكسر، ظنه البعض زوجها، لكنه كان شقيقها ومعجبا لا يُنسى، هذه الصورة التى التقطتها الكاميرات أصبحت واحدة من أكثر الصور تداولا، وأبلغها تعبيرا عن الحزن العميق الذى خيم على الوداع.

صورة شهيرة من جنازة فاتن حمامة

مصر.. جنازة زوجة الفنان خالد زكي (2022)

زوجة الفنان خالد زكى.. وثقت عدسات المصورين لحظة انهيار الفنان خالد زكى وهو يودع رفيقة عمره، لم تكن صورة فقط، بل شهادة حب ووفاء، أظهرت أن ما يجمع الناس ببعضهم أعمق من الشهرة أو الأضواء، بل إنسانية صافية تشهد عليها الكاميرا فى أضعف لحظات الإنسان.

جنازة زوجة الفنان خالد زكي

الفاتيكان.. جنازة البابا يوحنا بولس الثاني (2005)

البابا يوحنا بولس الثانى.. حضر أكثر من 200 رئيس دولة وزعيم دينى جنازة البابا، وامتلأت ساحة القديس بطرس بالحشود المؤمنة من كل بقاع الأرض، التغطية الإعلامية العالمية جعلت منها واحدة من أكثر الجنازات متابعة فى التاريخ، وتحولت الصور إلى أيقونات دينية وإنسانية تؤرخ للحظة روحانية فريدة.

جنازة بابا الفاتيكان

جنوب أفريقيا.. جنازة نيلسون مانديلا (2013)

نيلسون مانديلا.. فى ديسمبر2013، اجتمع العالم ليودع رمز النضال نيلسون مانديلا، ورصدت عدسات المصورين مشاهد استثنائية امتزج فيها الحزن بالفخر، ووداع شعب بأكمله لقائده الذى قادهم من الظلم إلى النور. البكاء، الغناء، رفع الصور، والهتاف باسمه، كلها لحظات وثقتها الكاميرات من كل زاوية، لتبقى حية فى ذاكرة الشعوب.

جنازة مانديلا

فلسطين.. جنازة الرئيس ياسر عرفات (2004)

فى نوفمبر 2004، خيم الحزن على فلسطين والعالم العربى برحيل الزعيم ياسر عرفات، رمز القضية الفلسطينية ورمز النضال الطويل، ووثقت عدسات الصحافة المحلية والدولية جنازته من لحظة خروجه من مستشفى بيرسى فى فرنسا، إلى مشهد نقله على متن طائرة عسكرية مصرية، حيث أقيمت له جنازة عسكرية فى القاهرة استغرقت ساعتين كاملتين، ثم حلقت به إلى وطنه الحبيب رام الله للمرة الأخيرة.

لقد تحول وداع عرفات إلى تظاهرة وطنية، جسدت محبة الفلسطينيين له، كما حملت فى تفاصيلها كثيرا من الدلالات السياسية والوجدانى.

جنازة