زيارة ترامب ومعادلة رابح رابح.. عن البحث فى سياق إقليمى ناضج لمواجهة الامبراطور

ثمانى سنواتٍ إلَّا أسبوعًا بالضبط. كأنَّ الزمن لم يتحرك شكلاً؛ لكنه انقلب رأسًا على عقب فى المضامين. يعودُ ترامب للرياض وجهةً أُولى لزياراته الرسمية، مثلما كانت فى ولايته السابقة. ما عادت الولاياتُ المتحدة كما عرفناها مع أسلافه من الحزبين، ولا المنطقة العربية ظلَّت على حالها أيضًا.
كان المُتحقِّقُ مع رئيسٍ يتحسَّسُ طريقَه فى بداية المسؤولية أقلَّ من الوعود، ومأموله اليومَ أكبر، والرَّيبة المُتبادَلة فى أعلى مستوياتها بما لا يقاس على أى قديم. النارُ مُتأجِّجة فى كلِّ الأرجاء، والامبراطور يستعرض عضلاته على الجميع، والشرق ماكرٌ بطبعه، ولطالما دقَّت الطبولُ على رأسه، واختبر النوازلَ على صورها المُمكِنة والمُستحيلة.
كان تاجرًا مُحترفًا وسياسيًّا هاويًا، والآن لا هذا ولا ذاك. يتعثَّر فى كليهما، ويُحاول الإيحاء بالاحترافية، وتغلبه الهواية والارتجال فيهما معًا.. صيّادُ صفقاتٍ جوّال، أو مُرَابٍ عجوز، والدنيا تأخذُ مثلما تُعطى، وهو لا يقبل إلَّا أن يكون رابحًا؛ ولو خسر الجميع.
يحطُّ السيد دونالد ضيفًا على العرب. يصل الثلاثاء، ويظلُّ حتى الخميس، مُتنقّلاً من المملكة إلى الإمارات وقطر. وكان قد اكتفى فى النسخة السابقة بالأُولى، والتقاه فيها جمعٌ من القادة العرب والخليجيين، وأُبرِمَت اتفاقاتٌ عاليةُ الآمال، تحقَّق بعضُها وتعطَّل البعض، وكان أهمّ ما انطَوَت عليه البادرةُ أنها فتحت البابَ لمسار الصفقات الإبراهيمية، وضمَّت أربع دولٍ فى غضون ثلاث سنوات.
قِيلَ كلامٌ كثير فى السرِّ والعَلَن، وحِيْدَ عنه لاحقًا بإجراءاتٍ مُرِّرَت من فوق الرؤوس؛ لعلَّ أكثرها انكشافًا أنّه نقلَ سفارته فى إسرائيل للقدس، واعترف بضمِّ الجولان، وبدا أنه يختزلُ العلاقة بالإقليم فى الاقتصاد، ويُمرِّرُه بالمناورة أو الاحتيال عبر تل أبيب.
وإذ يُكرِّرُ المُحاولةَ، أو يحاولُ وَصلَ ما انقطع؛ فإنه لا يُبدِى انحرافًا بأيّة نسبةٍ عمَّا كان فى 2017، وينطلقُ من النقطة التى تركَ العلاقات عندها؛ كأنَّ شيئًا لم يتغيَّر، وكأنَّ المنطقةَ لا تعيشُ على فالقٍ زلزالىٍّ أحدثته الصهيونية بنواياها السوداء، ووسَّعَتْ مَدَاه بالقنابل الأمريكية الغشيمة.
يطيبُ له أن يُعلِّق الأجراس على صدر سلفِه جو بايدن، فى نكبة غزَّة كما فى الحرب الأوكرانية وغيرها؛ لكنه كان واحدًا من الأسباب المُباشرة لكلِّ ما شهدت عليه الإدارة الديمقراطية الراحلة من تحوُّلاتٍ. ليس بمَوقفِه المُمالئ لإسرائيل، وانحيازه الفجّ وغير المُنضبط بثوابت الرؤية الأمريكية فحسب؛ بل فى المُلاينة التى أبداها مع خصومٍ فائرين ككوريا الشمالية، وشخصنة العلاقة مع موسكو، والحرب التجارية التى شنَّها على بكين؛ فأسقط بها جدارَ الرَّدع، وجهَّز التنّين مُبكّرًا لكلِّ الاحتمالات.
وعلى الرغم من وجاهة الحديث عن رخاوة الليبرالية، ومساسها العميق بمُكوِّنات السياسة والقِيَم فى الولايات المتحدة، فقد سدَّدوا كثيرًا من فواتير الرئيس المُنفلِت من كل قيد وقاعدة، كما فى صفقة طالبان مثلاً، ثمّ أعادوا إليه الرايةَ مُضطرّين؛ ليستكمل الوفاء بالتزاماته، ويُعاين آثار سياساته فى آخر ما تبقَّى له من فُرَص الحُكم؛ ساعيًا لترسيخ "الترامبيّة" شديدة الغِلظَة والمُحافظة، ومحكومًا بعالمٍ شَبَّ عن الطوق، ولم يعُد قابلاً للتطويع السهل، أو الانصباب فى كأس الامبراطورية الآخذة بزمامه قهرًا لثمانية عقود، أو على الأقل منذ انتهاء الحرب الباردة.
فى المرّة الأُولى، كانت وفادتُه بيضاءَ تمامًا. انتهت بالكاد مُهلةُ الأيام المائة، وما يزالُ لونُه رماديًّا نوعًا ما، والبشائر تتساوى مع المحاذير. أمَّا اليومَ فإنّه آتٍ من صندوقٍ مكرور، وعلى كتفه أثقالُ سنواتٍ فى السلطة، ومثلها خارجها، وشهور افتتاحيّة كانت الأسوأ تقريبًا لأىِّ رئيسٍ جديد.
وبينما فُهِمَت الرسالةُ وقتَها على اعتبار أنها مُقاربة غير تقليدية، وسعىٌ جادٌّ لربط التحالفات من منظورٍ جديد؛ فنسخته الثانية تبدو أقربَ للضِّيق من السِّعَة، والاضطرار من الاختيار، ويُشبه الغريق الباحث عن مرفأ أو طوق نجاة.
قنواتُ اتِّصاله مقطوعةٌ أو مُعطَّلة مع الكبار، والأصدقاءُ يخشونه كخشيتهم الأعداء أو أكثر، والشارعُ يتفلَّت من بين أصابعه، وعليه أن يُظهِرَ كرامةً، أو يخرج عليهم بأمارةٍ عن النصر المُبين. يأتى زاحفًا على البطن؛ ولو ادّعى أنه يهبطُ من عنان السماء.
الزيارةُ تأكيدٌ لأهمية الشرق، وحوضِه العربىِّ خصوصًا، ودلالةٌ على ثِقَل الرياض وأثرها الصاعد. ولا يصحُّ اختزالُها فى المطامع والتماس المنفعة السهلة قطعًا؛ إنما لا يُمكن استبعاد النَّفَس البراجماتىِّ من كلام الوافد وأفعاله.
الأشقاءُ يقفون على أرضٍ صلبة، وينطلقون من تجربةٍ سياسية وتنموية ناهضة، حقَّقت مُكتسباتٍ ملموسةً وتقبضُ على أحلامٍ تطاول السحاب. لديهم ثوابت لا تُنكَر، وما فرّطوا فى القضايا ومضامينها الكُبرى؛ لكنَّ الشريك من طينةٍ مُغايرة، ويشذُّ عن الاستقامة الخُلُقية والضميريَّة التى يعتمدونها.
من عادتِه أن يصبغ غاياته الدنيّة بألوانٍ نبيلة أو مُخاتلة، وأحيانًا لا يجدُ نفسَه مُضطرًّا لهذا أصلاً، فيُجاهر بما يصدمُ الآخرين ويأخذُ مجامعهم بأشد السُّبل خشونة. يرى العُصارةَ فى قلب الفاكهة، وينظرُ للجغرافيا باعتبارها غابةً، والجميع غزلان فى مرماه وتحت رحمة بندقيته. يُقدّم أقصى ما لديه إذ يسمحُ للتفّاحة بالسقوط الحُرّ فى حجره، وعينه دومًا على أصل الشجرة.
وما قُبِلَ منه عندما كان حديثَ العهد بالمكتب البيضاوىِّ، لا سبيلَ اليومَ لتقبُّله، أو الارتياح لكونه سياقًا طبيعيًّا يُمكن تبريره واقترافه. الرمادىُّ صار أسود غطيسًا، وبعدما كان بإمكانه أن يحلَّ خالىَ الوفاض، ويعود مُمتلئًا بالهدايا؛ صار عليه أن يبتدئ مُضيفيه بإعلان حُسن النوايا، والتدليل عليها عمليًّا بما يتجاوزُ الوعود أو الكلام العابر.
وحتى قبل يومين من هبوط طائرته، ما تزالُ الحربُ دائرةً على غزة، وخطط الصهاينة فى أَوْجِها لابتلاع القطاع وتجريد سُكّانه من أرضهم بل ومن الحق فى الحياة أصلاً.
المجال غامضٌ على صعيد الاشتباك بين الاحتلال والمُمانَعة، وفيما يخصُّ تطورات سوريا، والصفقة مع إيران تُطبَخ فى الكواليس على نارٍ هادئة، ويُستبعَدُ منها العربُ فى جملة المُستبعَدِين.
يُجزّئ المِستر دونالد العالمَ مُنقلِبًا على العولمة، ومن قريةٍ كونيَّةٍ صغيرة يتحوَّل زحامًا من القُرَى والأحراش، كلّها موصولةٌ بواشنطن ومعزولةٌ عن بعضها، أو هكذا يُفكِّر ويعمل.
وعليه؛ فإنه يضعُ يدَه على الشراكة بمعنى السَّلب، بحيث يأخذُ ما يبتغيه ولا يمنحُ شيئًا فى المقابل، ويُهَندِسُ لخصومِه ومُشايعيه واقعَهم وتفاصيل حياتهم، من دون أن يستشيرهم أو يلتزم أمامهم بمُقتضياتِ النديَّة والتكافؤ.
تتزامنُ الرحلةُ مع جولةٍ جديدة من مُجادلات الأعداء. يُفتَرَض إن سارتْ الأمورُ طبيعيَّةً أن يلتقى مُفاوضوه مع نُظرائهم الإيرانيين اليومَ فى مسقط. وكان المَوعدُ الرابع قد تأجَّل من الأسبوع الماضى لأسبابٍ خَفيّة؛ والأرجح أنها لا تخرج عن الخلاف بشأن محاور النقاش وشروط الطرفين.
عُمان مستبعَدَة من الزيارة؛ ربما كى لا يتقاطَع البيتُ الأبيض مع الخطِّ الجانبىِّ بين واشنطن وطهران. والأخيرة يبدو أنها سَعَت لتذويب الخلافات، فأوعَزَتْ لحليفِها الحوثى أن ينزل عن الشجرة، ويطلُبَ التهدئة مع الشيطان الأمريكى بعد نحو شهرين من المناوشات بين سواحل البحر الأحمر وكهوف اليمن.
مُجرَّد ترضيةٍ لتدفيع دفقة وقودٍ جديدة فى شرايين المفاوضات النووية؛ لكنها ليست مُقدِّمةَ الرَّكب ولا تشريفة الموكب الترامبىِّ على الإطلاق، وجاءت وفقَ حساباتٍ "فوق عربية"؛ لا لتكون هديَّةً للمنطقة والخليج قبل حلول الزعيم.
من منظورِ السياسى الحصيف؛ يتعيَّن أن يكون المجال العربى أولويةً لدى أيَّة إدارةٍ تنشغل بالوزن الأمريكى، وتسعى لإطالة عُمر الإمبراطورية. لكن ترامب يتطلَّعُ إليه بعَين التاجر، ولا يجدُ مشكلةً فى إبقاء أزماتها مُعلّقةً فى الفراغ أو على المجهول.
تجميدُ الأوضاع جنوبًا لا يهزم الميليشيا ولا يُعيدُ الدولة اليمنية من الضياع. احتلالُ خمس نقاطٍ من لبنان يُعطِّل العهد الجديد ويُبقِى ورقة "حزب الله" صالحة للتشغيل والتشغيب، والقبول بإخراج سوريا من عصمة الشيعية المسلحة؛ لإدخالها فى سجون الأطماع الصهيونية والعثمانية الجديدة، يُعيد تعريف المشكلة ولا يحلُّها؛ لا سيما مع اتجاهه لتخفيض حضوره المُباشر وإجلاء قواته من الشرق، مع ما ينطوى عليه من تضحيةٍ رخيصة بالحليف الكردىِّ.
والعراق، بعدما أجاد فى ضبط مُعادلة الحشد، ثمَّة وفاق ضمنى على إبقاء خطِّ الاتصال الإيرانى معه على حاله القديمة. بينما لا غضاضةَ مُطلقًا فى استنساخ صفقة أوباما النووية 2015، أو نسخة شبيهة، طالما العَين على الإيحاء بالفاعليّة لا تأكيدها، وعلى المنافع الاقتصادية المُحتمَلَة جرّاء ترسيم الحدود تحت سقف الخطر القديم.
تحلّلت واشنطن من دعايات القِيَم، وصارت تُقارب الأمور من منظور المصلحة. وعليه؛ فلا ظلَّ لخيالات الماضى عن التدخُّل لضبط المُعادلات، أو تخليق التوازُنات وضمان بقائها. تُؤخَذُ الدنيا غِلابًا، وبإمكان الأشرار أن يفوزوا طالما أنهم أجادوا فى مُغازلة الطامع الكبير، أو إغرائه بالقرابين التى تُسيِّل لعابه.
والعِبرةُ هُنا ليست بحجم العائد حصرًا؛ إنما بالهامش المُتاح لاستخلاصه، وما يقتضيه أحيانًا من غِلظةٍ أو لِين، ومن تشدُّدٍ أو تنازُلات. ما يعنى أنَّ مواسمَ الحصاد السهلة قد لا تتلاقى فيها حسابات الحقل مع البيدر، ولا يجد الرجلُ نفسَه مُضطرًّا لمُضاعفة الأثمان أو تقديم الترضيات المطلوبة.
يُمكن أن يدفع سعرًا أعلى مع الحوثى أو إيران لقاءَ محصولٍ أقل، ولا يدفع شيئًا على الإطلاق فى حقولٍ أُخرى تنبسط سهولُها دون تعقيدات، ويُبادِرُ مُزارعوها بسكبِ ما جادت عليهم السماء به فى صوامعه. بل على العكس؛ يحدُثُ أن تكون الصفقةُ الصعبة أكثرَ إغراءً من غيرها، واتَّقاد المشاعر فى استدراكها من النقطة الأخيرة قبل الضياع، مُمتعًا وجذّابًا بأضعاف ما يتحقَّق فى الصفقات زهيدة التكاليف.
يخرجُ الرجلُ من دفء شهوره الافتتاحية مُحاطًا بالرياح من كلِّ ناحية، والبيتُ ذاتُه صار باردًا ومُنذرًا بالخطر. روسيا والصين على أطراف الأصابع، وأوروبا تُقدِّم السيِّئ على الجيد فى توقُّعاتها، واستطلاعات الرأى تُفصِح عن غضبةٍ اجتماعية وسياسية مكتومة، وعن تآكُلٍ فى الشعبية لم يحدث مع أيَّة 100 يومٍ لأىِّ رئيسٍ آخر.
ضربَ الرجلُ فى كلِّ الاتجاهات؛ حتى تعذّر عليه القَبضُ على منفعة ظاهرة، أو رأى الغرماء يُكوّرون قبضاتهم استعدادًا لتبادل اللكمات. والشرق من تلك الزاوية يصلح أن يكون مسربًا للنجاة المُؤقّتة، ومنصَّة لاستعراض القوة والفاعلية، والعودة بما يُرجِّح كفَّة الوعود والآمال، ويُتَرجَم على معنى المكاسب الصافية.
صحيح أنَّ الطرف الآخر ينظر للمسألة من جهة الشراكة، ولديه أولويات ومصالح فى أىِّ اتفاق مُرتَقَب، ومن حقِّه أن يُرتِّبها كيفما شاء؛ لكنَّ العامل المشار إليه عن فكرة الإنقاذ أو التدعيم يفيض على الشروط الطبيعية المُعتادة فى أية صفقة، ويجب ألَّا يُقَدَّم مجانًا؛ بالأخص لو كان مُتاحًا أن يُقتَنَص به أضعاف ما كان يُخطَّطَ له قبلاً.
يجىء وفى مخياله غايةٌ واحدة، أن يعود باستثماراتٍ وجوائز تقبلُ الصَّرفَ فى بيئته. بحيث ينقل جَردة الأسابيع الأولى من دفتر الخسارة لدفتر الربح، ويُحسِّن الموقف نسبيًّا كى لا يضغط على جبهته الجمهورية بما يفوق طاقتها فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بالعام المقبل.
والمُؤكَّد أن جدول الأعمال سيتّسع لمزيد من النقاط فى العواصم الثلاث، وسيمتلئ المجال بكلام وفير عن كل شىء وأى شىء؛ إنما لن تكون الشواغل واحدة غالبًا. لا فلسطين ولا لبنان وسوريا واليمن وغيرها بين أولويات الرئيس الأمريكى، ووضعها على الطاولة من جانبه لن يتجاوز نطاق الإرضاء، وتعبئة الحواشى بما يُبرز المتنَ المقصود ولا يخنقه بالغبار.
لن يرتدَّ عن القسمة التى ارتضاها للشام، كما لن يُناقض نفسه بالخروج من أُفق الحل الإبادىِّ الذى طرحه لغزة تحت عنوان الريفييرا الشرقية، ولا يعنيه أمان الخليج من الحوثى أو مناعته فى مواجهة إيران. والأخيرة حققتها المملكة باتفاق مع طهران رعته بكين ربيع العام 2023؛ لكنه مِمّا يسوء ترامب بالتأكيد، انطلاقًا من أنه يؤكد فاعليَّة الصين ويمنحها موطئ قدم فى الشرق. سيستكمل الجو والعدّة بما يريده الشركاء، ولن يسير لأبعد من الكلام؛ لأنه يفتش عن مصالح لا التزامات.
وبالمنطق نفسه؛ سيكون ملف الطاقة على الطاولة أيضًا. هنا يريد الرجل خليطا من المتناقضات، ويبحث عمّن يُسدِّد فواتيره المتضاربة وعسيرة التوفيق. الرخاء الاقتصادى الذى يُبشِّر به ما يزال بعيدًا، والرسوم الجمركية زادته ابتعادًا.
وعندما صوّب على رئيس الاحتياطى الفيدرالى جيروم باول؛ لإجباره على تخفيض الفائدة، كان من جملة المؤشرات التى ساقها أن سعر الوقود تراجع لأقل من دولارين للجالون، وبعيدًا من كونها معلومة مُختَلَقة وغير دقيقة؛ فإنه يسعى من دون شكٍّ لتحقيقها، والوصول فيها لما هو أكبر.
من هنا؛ تتقدَّم لديه غاية تقليص سعر النفط بما يفوق مستويات تراجعه الأخيرة. وبينما تتجه "أوبك بلس" لزيادة الإنتاج خلال الفترة المقبلة، لاعتباراتٍ داخلية تعود للصراعات والجدل وعدم التزام بعض الأعضاء بحصص التخفيض سابقًا؛ فإنها تسير معه نظريًّا على الخط المطلوب.
والمُعضلة أنَّ لدول الخليج خططًا واحتياجات، وبرامج تنموية تنشبكُ بمواردها الطبيعية؛ حتى مع النجاح المنظور فى تعزيز المداخيل غير النفطية. التخفيض المُفرط يضرُّها بالتأكيد؛ لكنَّ أضراره أكبر على الولايات المتحدة بالنزول عن المستوى المُجزى لمنتجى النفط الصخرى، ما يُهدِّد بإيقاف عجلة الإنتاج وتعطيل آلاف الوظائف ومليارات الدولارات، فضلاً على اضطرارها للتحوُّل من التصدير للاستيراد.
سيضغط على إيران وعوائدها، وعلى روسيا أيضًا لاعتمادها الكبير على الطاقة فى التعويض والاحتيال على العقوبات؛ لكنه سيفيد الغريم الصينى اللدود عندما يسمح له بتدبير مُتطلباته بتكلفة أرخص، وإعادة تكييف معادلة تسعير منتجاته بما يُعزّز الفوارق بينهما، ويقلص ضغوط الجمارك، ويُغرق أسواق العالم بالفائض السلعى الكبير.
الرسوم تقمع الطلب؛ فتضطر المنتجين عاجلاً أو آجلاً لمُوازنة العرض. سيرتفع السعر ليفيد الشركات الأمريكية ويضرّ المستهلكين، ويُراكم العوائد لروسيا وإيران وفنزويلا وغيرها من الخصوم والأعداء، بينما يظل متاحًا للصين أن تحصل على حصّةٍ غير قليلة من استهلاكها بأسعار تقضيلية وعلاوات من الحليف الروسى.
حسبةٌ تبدو مُركَّبة ومُعقّدة، وفى جناحيها أضرار ومنافع مُتشابكة ويستحيل الفصل بينها، وكل ما يتطلَّع إليه الرئيس الأمريكى بمنطق التاجر الشاطر أن يُجنّب المثالب ويُجمّع المنافع، على استحالة ذلك عمليًّا، وهكذا يبدو أنه ينظر فى كل الزوايا، ويُقيّم الملفات ويتعاطى معها، ما يعنى أنه واقع فى أسر تصوُّرٍ سطحى عن الاقتصاد، كما فى السياسة أيضا، وأنه يتعثّر فى الخيارات انطلاقًا من كونه لا يستند لرؤية واحدة أو واضحة.
وإذا كان فى ذلك ما يُوجب الالتفات لشىء؛ فإنه الحذر من عشوائية الرجل وتقلُّباته، وعدم التعويل على وعوده ورسائله البيضاء؛ لأنه سيكون أوَّلَ المُبادرين بالانقضاض عليها والارتداد عنها، وليس فى قاموسه ما يُقيم وزنًا للعهود والمواثيق، ولا ما يُشعره بالحرج ويردعه عن الألاعيب الصغيرة، وسلوك الثعالب فى بساتين الكروم.
والحال؛ أنه يُرتّب المواعيد على ساعته الشخصية حصرًا، ويقتفى أثر التفاهمات المُمكنة استجابةً لنداء المصلحة فحسب. وبالنظر للخط المفتوح من إدارته مع إيران؛ فإنه يصبُّ لصالح العرب فى كلِّ الأحوال، وسيكون مفيدًا لهم على أيّة صورة، أو أقلّه سيُقلّص خسائرهم لقاء امتداد الصراع.
ثمة صفقة جيدة وأخرى سيئة، وبينهما هامش من ضبط المُعادلات وتكييفها بما لا يضطر المحايدين للمعاناة بدلا من المنحازين، وما يسمح لهم بأن يكونوا شركاء فى العائد وبعيدين عن المكائد والارتدادات غير المحسوبة.
والسؤال ليس فى الخشونة والصدام مع رجل مُنفلت، أو وضعه أمام خيارات صاخبة لن يستجيب لها، كما لن يتورَّع عن تطويعها من مساراتٍ جانبية وبأدوات غير قيمية على الإطلاق. إنما يجب أن ينصرف البحث بوتيرة سريعة وإبداعية، عن أوفق السبل لربط العناوين ببعضها، وتوظيف عناصر القوة فى جهة لتعوض نقاط الضعف فى غيرها، أو تخدم الغايات المطلوبة فى بعض الملفات مما لا نستطيع أن نفرضه على طاولته مباشرة.
والقصد أن نربط الشواغل بالمنافع، وأن نتوصل للوصفة المثالية لمداعبة غريزته الربحية، وإغرائه بالمزايا والإمكانات المُعلّقة على مساراتٍ بعينها، أو أهداف موضوعية ومُفيدة لكل الأطراف. صحيح أنه سيظل ملتزما تجاه إسرائيل؛ لكنه لم يُوقّع شيكًا على بياض لنتنياهو مثلا، والانسداد الراهن يعود فى أغلبه لشخصية زعيم الليكود وتركيبة ائتلافه الحاكم، وسلوكياته المتعارضة مع الجميع ومصالح الدولة العبرية نفسها.
ومؤخرا لا تتوقف الصحافة الأمريكية والإسرائيلية عن بث التقارير الراصدة لتوتر العلاقات، من أول مفاجأته لحليفه الصغير بالتفاوض مع إيران خلال استضافته فى البيت الأبيض، حتى عقد الاتفاق مع الحوثى دون إخطار أو تنسيق، ورغم استقبال وزيره للشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، واتصالاته الكثيفة مع المبعوث ستيف ويتكوف.
عند نقطة معينة يُمكن أن يتحوّل عن غرامه بنتنياهو، وأن يراه عبئًا عليه، ووقتها قد لا يُفكّر لحظةً قبل الانقلاب أو القطيعة. وبالآلية نفسها يمكن العمل على كل العناوين، وما لن يصيب نجاحا فيها؛ لن يسوء أكثر مما هو عليه الآن.
يُعلّق ترامب عينيه على 3 تريليونات دولار يعود بها إلى واشنطن. يُحب المملكة ويحترمها، وينظر للخليج من منظار مُغاير لغيره؛ لكنه لا يحب أحدا أكثر من ترامب، ولا يرى سواه أولا وأخيرا.
ليس لديه أصدقاء أو حتى أعداء؛ بل مُسايرون له أو ضحايا. وطبيعة الرجل باتت واضحة؛ والمؤكد أنها لا تغيب عن المُخطّطين وصنّاع القرار. وبعيدًا من حلوله الجزئية؛ فالواجب إن أتانا فرادى أن نُلاقيه جماعات، وألا نُجزّئ قوانا ليلتهمنا جميعًا في صفقات صغيرة متتابعة.
الثقل السياسى فى الشطر العربى من الإقليم تقتسمه القاهرة، أو تتغلب فى قسمته على غيرها؛ لكن ميزان الاقتصاد مائل إلى جهة الخليج من دون شك، وهذا ليس ميزةً لطرف أو منقصة للآخر؛ بل فرصة للتجمّع وبناء القوّة والفاعلية الشاملة. سيربح الامبراطور فى كل الأحوال؛ لكن لا ينبغى التفريط فى فرصة بناء مُعادلة تُجبره على القبول بألا يكون الرابح الوحيد، أو الارتضاء بأن نربح معًا.
العالم بكامله شخاص تصويب للسيد الجامح، وما نتعالى عليه اليوم سنُضطر له غدا؛ إنما بعدما نكون أضعنا وقتًا وطاقة، وهامشًا مبكرًا لتعديل الأوضاع وتكييف التوازنات.
Trending Plus