لا تقف كثيرًا على الأطلال

في زمنٍ تعصف به الرياح من كل اتجاه، حيث تتغير الملامح وتتبدل الطرق، تَميلُ النفس أحيانًا إلى الالتفات للخلف، للوقوف عند أطلالٍ كنا نظنها مأوى القلب وملجأ الذاكرة، ولكن ماذا لو سكن الخواء تلك الأطلال؟ ماذا لو استوطنتها الخفافيش، وتآلفت معها الأشباح؟ أليس في ذلك نذير بأن الوقت قد آن للرحيل؟
نعم، الأطلال تغري بالتأمل، تغريك بذاك الحنين الناعم الخادع الذي يجعلك تمسك بالسراب كما لو كان ماءً، ولكن الحقيقة أن الوقوف طويلًا عند ما مضى قد يُثقل القدم، ويُعمي البصر عن نور يلوح في الأفق.
إننا لا نُخلق لنُعانق الظلال، بل لنلاحق الضوء، حتى لو كان خافتًا، حتى لو جاء على هيئة صوت عصفور يتسلل خجولًا وراء ضوء صباح جديد.
الأطلال ليست سوى ذاكرة متحجرة، شاهدة على ما كان، لا على ما سيكون، وكلما طال الوقوف عندها، زادت وحشة المكان، وزادت احتمالية أن يتحول الحنين إلى قيد، وما أقسى القيد حين يكون من صنع مشاعرنا نحن!
ليس المطلوب أن ننسى، فالنسيان خيانة أحيانًا، بل المطلوب أن نتذكر دون أن نتجمد، أن نحمل من الماضي ما يُعيننا على المستقبل، لا ما يُعيقنا عنه، أن نصغي لما تبقى من الأغنيات في داخلنا، لا لأنين الريح المتسللة من شقوق الذكريات.
لقد آن الأوان أن نبحث عن الفجر، لا أن نحرس ظلمة المساء، أن نُصادق العصافير، لا أن نألف نعيق الغربان، فهناك دومًا ضوء ينتظر من يراه، حياة تنتظر من يطرق بابها، وبداية تلوح لمن ما زال يؤمن أن النهاية ليست إلا منعطفًا.
الأشباح تعرف طريق الأطلال، لأنها لا تنتمي للضوء، أما نحن، فخلقنا لنسير في الدروب، لا لنحرس الرماد.
في كل قلب مساحة شاسعة للفجر، لكن لا يُفتح لها الباب إلا حين نقرر نحن أن نُزيح عن المفتاح غبار الذكرى الثقيلة.
فلا تقف كثيرًا على الأطلال، لا لأن الوقوف ضعف، بل لأن الزمن لا ينتظر أحدًا، وإن وجدت نفسك يومًا محاطًا بالخفافيش، فاعلم أنك أطلت المكوث، وأن وقت الرحيل قد حان.
البحث عن العصفور ليس سذاجة، بل شجاعة، والإيمان بالصباح في ذروة العتمة هو أقصى درجات الحكمة.
فامضِ، ولو وحدك، فربما يلحق بك الحالمون.
Trending Plus