الكلمات.. ثمار لا تُقطف خضراء

في عالمٍ ازدادت فيه سرعة القول وتضاءلت فيه حكمة الحديث، صار الصمتُ فضيلةً مهدورة، والكلمةُ رصاصةً طائشة قد تُصيب عقلًا أو تكسر قلبًا، قليلون أولئك الذين يعرفون أن الكلام، كالثمار، لا يُؤكل قبل نُضجه، ولا يُلقى قبل أن يُختار.
فما أكثر ما نندم على كلمة خرجت قبل أوانها، أو جملة زلّت قبل أن يُمنحها عقلُنا فرصة المراجعة! نحن لا نتحدث فقط لنملأ الفراغ، بل لنمنح الوجود شيئًا من المعنى، والناس شيئًا من الأثر، ولذلك، لا بد للكلمة أن تُحرَث في القلب، وتُسقى بالتفكير، وتُقطف فقط حين تنضج على غصن العقل.
في كل حديث، أنت كزارع يقف أمام أشجار نفسه، بعض الكلمات يانعة، شهية، فيها عذوبة الفهم وطيب النيّة، وبعضها مُرّ، جارح، لم تنضج بعد، ومع ذلك نلقيه. نُفرط في الحديث، وننسى أن اللسان سلاح ذو حدّين، إمّا أن تبني به جسرًا، أو تحفر به قبرًا.
تأمل الفلاح الذي ينتظر موسم القطاف، لا يستعجل، ولا يخدع نفسه بلونٍ أخضرٍ زائف، كذلك يجب أن نكون مع كلماتنا، دعها تتخمر في صمتك، تتأملها، تراجعها، تعدّلها ثم قلها، لا تتحدث لأنك قادر، بل تحدث لأنك حكيم.
وكم من كلمة نضجت فأزهرت حياةً! وكم من كلمة قُطفت قبل وقتها فأذبلت روحًا! لذلك، الكلام لا يُقاس بطوله، بل بوزنه، ولا يُقاس بعلو الصوت، بل بعمق المعنى.
ليس من الضعف أن تصمت، بل من القوة أن تنتظر، أن تُمسك الكلمة على طرف لسانك وتعيدها إلى عقلك لتسألها: "هل أنتِ صالحة للخروج؟ أم أنكِ لازلتِ حامضة النية؟"
المتكلم الحكيم، ليس من يكثر، بل من يختار، هو الذي يعلم أن الكلمة الملقاة بلا تفكير، كالثمرة الساقطة قبل أوانها، لا تُشبع، ولا تُفيد، بل قد تُسمم.
اختر كلماتك كما يختار الشاعر قوافيه، كما تختار الأم اسم ابنها، كما يختار الحبيب موعد اعترافه، فالحياة قصيرة جدًا لا نُفسدها بكلامٍ لا يُصلح، وعُمر القلوب طويل جدًا فلا تُجرَح بكلماتٍ لا تشفى.
وفي زمنٍ تُطلق فيه الكلمات أسرع من الرصاص، اجعل لحديثك وقارًا، ولصمتك هيبة، تكلم لتُضيء، لا لتُصيب، فالكلمة الطيبة شجرة، والكلمة الجارحة فأس.
وختامًا..
إن لم تكن الكلمة ناضجة، فاتركها على غصنها، فبعض الصمت أنضج من كل كلام.
Trending Plus