دولة ملفقة ونكبة يُعاد اختراعها.. هكذا تحتفل إسرائيل بالدم وتحتمى فلسطين بذاكرة مثقوبة

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

طالت الروزنامة الفلسطينية؛ حتى أنه لا يخلو يومٌ فى السنة من ذكرى سيئة. هجراتٌ فانتداب فاحتلال، ونكباتٌ تتوالى وتتناسَلُ من بعضها. اليومَ يُحيى الصهاينةُ عُرسَ الولادة المُلّفقة من العدم، وقد منحوها مُسمّى الاستقلال، وغدا يجترُّ اللاجئون دمعًا يتخثّر فى عيونهم منذ سبع وسبعين سنة؛ إلى أن صار غشاء سميكًا يحجب الضوء ويزغلل البصر.

وكما كان الوضع فى السنة الماضية، وسنواتٍ مديدة سابقة، أبَتْ الدراما إلَّا أن تتجدد بالمادة لا الروح فحسب، وأن تُعيد عليهم الحكاية البائسة بالكيفية ذاتها، أو لعلَّها أسوأ وأضل سبيلا.

رُسِمَت ملامحُ المأساة على الأرض؛ ثم حُبّرت فى قرار أُمَمىٍّ ظالم. وقَّع تسعة وثلاثون من آباء المشروع وثيقةَ الإشهار، وانطلقت البنادقُ فى الأرجاء، تقود حامليها وتتكلَّم بدلاً منهم.

أُبيدت قرى عن بَكرة أبيها، وشُطِبَت حيواتٌ طويلة ومُتجذّرة من الخرائط، وفرَّ الناس تحت ستار الخوف والأمل، ومن مات نجا.
ذلك أنَّ الفصل الأسود كان باكورة العرض لا نهايته، ومن يومها عرف المنكوبون ألوانًا أشد قتامة من السواد ذاته، أدناها أن يُوطِّد الظالم حضوره بالحديد والنار، والابتلاع النَّهِم دون قَضْم أو مَضغ، وأعلاها أن يدور المظلوم فى حركة مُفرّغة، وأن يُعسّر الخيارات على نفسه ويتعثَّر فيها، ويُمَكِّن لعدوِّه بالخفّة فيما لم يتمكَّن منه بالبطش والاحتيال.

وإذ لا يصحُّ اللوم على الهاربين بأرواحهم قديمًا؛ فإنَّ اختبار التجربة بحذافيرها على أمل أن تُفضى لنتائج مُغايرة، ممَّا لا يُفهَم ولا تسدُّ الدعاياتُ فيه شقوقَ السرديَّة، وانقسامات الآخذين بنواصيها. أكان من نقطة الانقلاب الحماسىِّ فى غزّة قبل نحو عقدين، افتتانا بوعود الانقسام وتجزئة المُجزّأ أصلاً، أمْ بالانفراد المُتغطرس بالجغرافيا، وتعميم لونٍ أُصولىٍّ قاتم على الديموغرافيا، واتخاذهما معًا منصَّةً لإعلاء الأيديولوجيا على القضية، والفصيل فوق الوطن.

وهكذا تُبتَسَرُ العناوينُ الكُبرى فى مضامين صغيرة، ويصير المتنُ حاشيةً، والعكس. أمَّا النكبةُ الجديدة فتبدو أسهل من سابقتها وأقسى فى آن؛ لأنها تأتى مُغلَّفة بالذرائع المجّانية حينًا، وتُحمَلُ على سياقاتٍ حارّة وحارقة من الصدامات اليمينيَّة المُتبادَلة فى أغلب الأحيان.

وما صنعَ مأساويَّةَ النكبة الأُولى، ورمزيَّتَها الماثلة إلى اليوم، أنها كانت مَظلمةً صافية، توافرت لها كلُّ اشتراطات الاصطناع والتجبُّر والغدر؛ أمَّا النسخة الراهنة فقد افتُتِحَت من نطاقٍ مُفارق، واغترّ فيها المظلومُ بهالة الظالم، مأخوذًا بانفعاليَّة المُبادرة والاقتدار. وما يزال مُصرًّا على إهدار ما يملك، وانتحال ما لا يتأمّن له أو يقتدر عليه.

ثِقَلُ القضية وتُفّاحتها المُقدَّسة فى المظلومية، ولا شىء آخر، ومقتَلُها فى الاستئساد الهَشِّ، والتناطُح العارى من الوجاهة والفاعلية. وهذا مِمَّا لا يُفوّته المُفترس فى مُطارداته الهائجة، فيما يَفُوت باستسهالٍ على الفريسة للأسف.

وليس القَصدُ قطعًا أن تُؤتَى الضحيَّةُ مرّتين: نَحرًا من الظالم العدوِّ، وقهرًا من الناقد الصديق، ولا أن تُصَحَّف المَرويّةُ لتختلَّ ركائزُها أو تتبدَّل فيها الأدوار؛ إنما أن يُنظَرَ للمسألة على شرطِها الوجودىِّ، وحاجتها العَمليّة لاستدراكٍ كُفء يليقُ بها، وتحتاجه أيُّما احتياج.  وبينما لا يختلف اثنان لهما أىُّ حظٍّ من الإنسانية والضمير، على أنَّ الكيانيّة العِبريَّة المُصطنعَة من العدم تحتكرُ دورَ الشيطان فى الحكاية، وتمزج سُوءَ المبعث بوحشيَّة المسلك؛ فإنَّ المُؤمن الذى يُلدَغُ من الجُحر مَرّةً بعد أُخرى، عليه أن يُعيد النظر فى الكيفية التى يُكيِّف بها إيمانه، أو أن يُفتِّش عن مسربٍ لا تكتنفه الجحور أو تُطوِّقه العقاربُ والحيّات.

وقد يستذكرُ البعضُ هُنا رحلة حركة فتح ومنظمة التحرير، أو أوسلو وتجسيد فلسطين الرمادىِّ الخافت فى سُلطتها الوطنية المُكبَّلة بالأصفاد، وربما يتريَّضُ آخرون فى فسحة الخيال، بحثًا عن هيكلةٍ بديلة، وصِيَغٍ غير ما واكبت المسيرةَ المهيضةَ وأشرفت على تداعيها المُتلاحق؛ إنما فى الحالين لن يكون استدعاءُ الماضى المأزوم، أو الارتحال إلى مُستقبلٍ مَأمولٍ وشديد الغموض؛ إلَّا تدليلاً على بُؤس الوضع الراهن وانعدام نجاعته، وإقامة للحجَّة على الفصائل التى دَيَّنَتْ الصراع أوّلاً، ثمَّ خصخَصَتْه واختطفته من شيوعه بين مُلّاكه الأصليِّين.

تحتفلُ إسرائيل بعيد استقلالها المزعوم فى ظرفٍ غير مثالى؛ لكنَّ الغزِّيين يستعيدون أطياف نكبتهم الافتتاحية من حالةٍ أسوأ كثيرًا، وبما لا يُقاس إطلاقًا على أزمة الاحتلال الحالّة، أو حتى على تراثهم المُتخَم بالتراجيديا وقصص المُعاناة المفتوحة والمتشابكة.

ولا فارقَ بين الوقوف على طللِ القطاع وأشلاء ساكنيه؛ اكتفاءً بعاطفية الرصاصة الأُولى أو شعبويَّة صمود الأنفاق رغم الخراب العَميم، وأن يَرُدَّ خطيبٌ أو أُصولىٌّ مُتأجِّجٌ على نزيف الدم والجوع والغضب؛ بادِّعاء أنَّ الصهاينة خسروا بشرًا ومالاً.

إذ تبدو الحسبةُ خاسرةً وشديدة الوقاحة فعلاً؛ بالنظر إلى أنَّ كلَّ دولارٍ تُرجِمَ إلى رصاصة، وكل قذيفة حصدت حقلاً كاملاً من المدنيِّين العُزّل، بينما الارتضاء بمُعادلة «الواحد منهم بألفٍ مِنّا» يَنُمّ عن مازوخيَّةٍ قارّة فى أعماق الوعى، وعن نزعةٍ انتحاريَّة لا تُقيم وزنًا للناس/ أى للوطن؛ باعتبار أنه لا قيمةَ للسكن دون السكّان، ولا أُفقَ لفلسطين إن شُطِبَ على الفلسطينيين.

دَفَّعَتْ نكبةُ العام 1948 نحو ثلاثة أرباع المليون من أصحاب الأرض التاريخية بين النهر والبحر، قليلهم إلى الداخل والأغلبية إلى منافٍ اضطرارية. والعدد يُمثّل قرابةَ نصف الفلسطينيين وقتَها، بما لا يُقارَن معه طبعًا أن يُصرّح 48 % من الغزِّيين اليومَ بقبولهم للرحيل أو رغبتهم فيه؛ بحسب استبيانٍ أعدّه أحد مراكز الدراسات وبحوث الرأى فى الضفّة الغربية مُؤخّرًا.

تضاءلت البلاد من ساعتها وتضاعف العبادُ، وتكفَّلت الأرحام بتعويض ما أكلته الإبادة والترانسفير. وتلك الصورة يُرَاد من البعض تمريرها على معنى النصر، من باب قولة درويش الشهيرة «منكم السيف ومنّا دمُنا»، كما لو أنها سرديَّةٌ فدائيّة/ قُربانيّة، مفروضة على هذه البقعة منذ اعتلاء المسيح لصليبه راضيًا.
أمَّا فى الحقيقة؛ فإنها تنطوى على دلالةٍ أُخرى، ومُفارِقة تمامًا؛ عمادها أنَّ الناس يخوضون صراعهم بالبيولوجيا لا غيرها، ويُطعمون الموتَ بفلذات أكبادهم؛ لأنه لا بديل سوى ذلك.

قادرون على الصمود، نعم، ويتجدَّدون كما يتجدَّدُ طائرُ الفينيق الأسطورى كلَّما احترق؛ لكنهم يفتقدون للأمل، ولا يُراكِمون التجارب والخبرات، ويعيشون فى ضيقٍ لم يتبدَّل منذ أربعة أجيال.

تمتلئ البطون وتفيض؛ لأن العقول خاوية، ويُلتَجَأ للحشد البشرىِّ تعويضًا عن افتقاد النظام والسياسة، والعجز عن استخلاص البدائل بدلاً من تقديم القرابين، أو الخروج على اللعبة وابتكار ما يُرمِّمُ فِجاجَهم ويصلُب عودَها الرخو.

وإن تغاضينا عن فارق الساعات بين اليوم وغدٍ/ 14 و15 مايو؛ فالحدث واحدٌ والرُّؤى مُتباينة. يحتفل الصهاينة بتجريد الفلسطينيين من وجودهم الاعتبارى؛ وإن ظلّوا باقين ماديًّا، أو بعضهم على الأقل. ويتباكى الأخيرون على انطفائهم ليتوهَّج الغريمُ الجائع.

واليومَ، لا خلاف بين المنشأ والمآل؛ إذ يسخط الإسرائيليون على حكومتهم بينما يحتفلون بالدولة، ويُدينون نتنياهو وعصابته بالتلازُم مع إحياء ذكرى بن جوريون ورفاقه. معهم الأرض وليسوا مُقتنعين تمامًا، وثأروا لقتلى غلاف غزَّة ولم يشبعوا، ويستعيدون أسراهم بالهُدَن أو تحت سحائب النار، ولا يمنعهم تكسيحُ حماس وحزب الله، وإسقاط نظام الأسد، وقطع الهلال الشيعى من طهران إلى جنوب لبنان، أن يُعارضوا وينتقدوا ويقولوا هل من مزيد.

أمَّا الحماسيون فراضون بالطوفان، قانعون بأنه عطيّةُ الناسك، وبأنَّ ما تعثّروا فيه بعد السنوار جهدُ المُقلِّ وحَدُّ الكفاية. مهزومون يتبجّحون بالنصر، ويبصقون على هزائم الناس ومواجعهم، ويضعون التنظيم فوق النظام. وطالما بقى مُلثَّم أو انتصبت راية؛ فإنهم فى الجانب الرابح حتمًا. كما لو أنهم يعزلون أنفسهم عن القضية أصلاً، ويتعاطون النكبة كما يتعاطاها المُحايدون والمتفرجون من مقاعد الجماهير.

جاء الرعيلُ الأوَّل فى مناخ دولىٍّ سائل. الامبراطورية العثمانية طالعَتْ الهجرات اليهودية بحيادٍ وَقِح، والأوروبيون نَفَذوا منها لغاياتٍ تخصُّ بيئاتهم، أهمّها الهندسة الديموغرافية وإعادة تركيب المجتمع على صورة أكثر تجانسًا، ومُتحرِّرةٍ من ثقافة الجيتوات المُغلقة وطبائع العمل التَّحتِىِّ الذى يُشبه المُؤامرة.
خُدِم المشروع فى باكورته من قوى الامبريالية الحاكمة، وما يزال مُستندًا لإسنادها وإن بدرجةٍ أقلّ؛ لكنَّ ما انتفع به لاحقًا من غباء الخصوم يفوقُ كثيرًا ما أزجاه له الحُلفاء بإخلاصهم.

حربٌ غير محسوبة أفضت إلى نكبة، وكان باعث البعض فيها التنطُّع بحثًا عن خلافةٍ زائلة.
تهدّمت بِنيةُ النظام واستُحدِثَ البديل بنكهات وطنية قُطريّة؛ وما تغيّرت النظرة للصراع بتقديم البَينىِّ فيه على الخارجى، واستمراء توظيفه عنوانًا لاستطرادات شعاراتية شعبوية: القومية إزاء الأُمَميَّة العقائدية، والإفراط داخلها مُقابل التفريط، والعودة على بدء بعد الثورة الخمينية وانفجار الصحوات.

إسلام فعروبة فإسلام، والوحدة تنقسمُ إلى ناصريَّة اشتراكيَّةٍ، تتصارَعُ مع بعثٍ اشتراكىٍّ أيضًا، ومَن يطلبون الدولة تلمَّسوها من طريق الميليشيا، وأغرقوا فيها؛ حتى امتلأوا باليقين فى أنهم بديلٌ كامل عنها، وصالحٌ للبقاء والمُواصلة بمعزلٍ عن الأهداف والأسباب المُنشئة.

أخطأ «عرفات» على امتداد مسيرته النضالية، صدامًا مع الأردن فى أيلول الأسود، وتخريبًا للبنان من اتفاق 1969 حتى الإجلاء فى 1982، وإلى انحيازه الفجِّ لصدَّام حسين فى غزو الكويت؛ لكنه كان ديناميكيًّا وقادرًا على استخلاص الدروس، واستدراك المسارات.

أمَّا أكثر ما يُثير الانزعاج اليومَ؛ فيُرّدُّ إلى الدوجمائية الطافحة من خطابات الحماسيِّين، حتى عندما يسعون لإظهار العكس. ارتَدَوا عباءة الإخوان لدرجة انطماس هُويّتهم الخاصة، وخلعوها بالقول فى النسخة المُعدَّلة من استراتيجيتهم بالعام 2017، ولم يخلعوها فعلاً، ويُوحون بالاستقلال تحت سقف المُمانَعة، بينما تقبض على مجامع القرار لديهم نخبةٌ من القادة ذوى الهوى الإيرانى.

الفاصلُ بين تأسيس منظمة التحرير وتوقيع اتفاق أوسلو أقل من ثلاثة عقود، وفيها يسهل أن تُعاينَ نُسخًا عرفاتيَّة مُتعدِّدة؛ بينما حماس بعد نحو ثمانية وثلاثين عامًا تبدو مُتجمِّدةً عند لحظة الميلاد؛ هذا إذا لم تكُن ارتدّت إلى بدائيَّة الجماعة الإخوانية، وسخفها المعروف من سياق تأسيسها القديم فى مصر.
قدّمت الحركةُ هديّة سخيّة لترامب. كان يتأهَّب للقدوم إلى المنطقة، ويحتاج ما يُبرز سطوته على العالم، وينطوى على ثنائية الترضية والإخراج لحكومة الاحتلال فى تل أبيب.

أُطلق سراح الجندى مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر بالتزامن مع إقلاع الطائرة من واشنطن.

الصفقة حصيلة لقاءاتٍ عدَّة بين فريق خليل الحيَّة ومبعوثى الإدارة الأمريكية، فيما تظلُّ اللافتة الحماسيَّة محبوسةً فى دفتر الإرهاب، والبيت الأبيض يضيقُ بزعيم الليكود لا بإسرائيل، وكما تخادَمَ اليمينُ على الناحيتين فى داخل فلسطين، يُوظّفهما سيِّدُ البيت الأبيض اليومَ ضدَّ بعضهما؛ دون أن يعنى ذلك أنه يتحوَّلُ عن ثوابته، أو بصدد أن يمنح الفصائل الغزِّية بوساطته ما لم تنتزعه بسلاحها، ويتناقَضُ حتمًا مع تصوّره عن المنطقة المُعقَّمة، فى مرحلة ما بعد ترويض إيران، وإعادة الشيعية المُسلَّحة إلى القمقم.

يقضى مبعوثُ العظمة الأمريكية يومَه الثانى فى الرياض، وعلى أجندته قمَّةٌ خليجية أمريكية، بجانب ما تردَّد عن أنه قد يلتقى رؤساء لبنان وفلسطين وسوريا/ العماد جوزيف عون ومحمود عباس وأحمد الشرع «الجولانى حتى الساعة».

وسواء صحَّ اللقاء إجمالا، أو اجتُزئ منه اسمٌ، أو لم يحدث على الإطلاق؛ فإنه لا يُغيِّر شيئًا من السياقات السيّالة والمُتداخلة على امتداد الإقليم.
إنه حديث فى الرمزية والمعنويات، ولن يتطوَّر أو يفضى لأثر ملموس. الخيوطُ كلُّها معقودةٌ بين أصابع نتنياهو، والبَرَم الأمريكى منه لم يصِلْ بعد لدرجة التضحية به. وأقصى ما يمكن إحرازه أن تُطوَّقَ النارُ بدلا من توسُّعِها، لا أن تُطفَأ أو تنقلب بردًا وسلامًا.

عُقدةُ العُقَد فى غزة تنصرفُ إلى الهدنة ووقف الحرب؛ وبافتراض تجاوزها فإنَّ الأمور ستزداد تعقيدًا، عندما يُنظَرُ فى تفاصيل «اليوم التالى»، والبديل عن حماس، وفرصة السلطة الوطنية، ومدى قابلية الحركة للانسحاب من المشهد عددًا وعتادًا.

ما كانت فلسطين قضيَّةَ أهلها منذ البداية. ربما فرضَتْ الضرورةُ ذلك فى صدر الأزمة؛ لكنه صار عادةً واختيارًا مُغريًا للخارج ومُقنعًا للداخل. تقافزت الكُرةُ بين القاهرة وعمّان ودمشق وبغداد حتى سقطت فى طهران، بينما تُسمَع إرشاداتُ المُدرِّبين على خطِّ التماس من أنقرة والدوحة أحيانًا.

والحرب التى افتتحها السنوار، كان يعرف أنه لا يملكُ قرارَ إنهائها؛ فإمَّا يُلاقيه المُمانِعون ترجيحًا لموقفه وتشغيبًا على غريمه، أو تلتهب المنطقةُ بالكُلّيّة ويُضطرَّ اللاعبون الكبار فى العالم للتدخُّل؛ وكلاهما لم يُوضَع فى مجال التطبيق عمليًّا للأسف، كما لم يُستَبعَد تمامًا فى الوقت نفسه.

وعليه؛ فإنَّ نكبة القطاع ما عادت حلولُها من داخله أصلاً، ويتوجَّب أن تمُرَّ عبر عِدَّة عواصم مُمانِعة ومُعتدلة قبل أن تحُطَّ فوق الركام، بينما يبدو التوافق بين الجناحين بعيدًا. ترامب لا يملكُ عصا سحرية، ولن يفرضَ شيئًا إلَّا ضمن حساباته النفعية، بيدَ أنَّ الفوضى التى تزحم أيّامَنَا لا تُهدِّد مصالحه فعليًّا؛ بل ربما تُعزِّزها فى واقع الأمر.

سيسمعُ كلامًا كثيرا من العرب الحضور، ولن يستبعد قضيَّةً أو يشطُبَ مَطلبًا؛ لكنه لن يُحقِّق إلَّا ما يرتدُّ عليه بمكاسب ملموسةٍ وعاجلة.
كان قد استبقَ تنصيبَه بهُدنةٍ فرضَها على الصهاينة والفصائل، ما عزّز الآمال فى أنه قد يُكرِّر التجربة قبل زيارته الأُولى للمنطقة. وما حدثَ أنه جاء بيَدَيْن فارغتين، حتى لو كان رجاله يشتغلون فى الكواليس على إنجاز الصفقة؛ فالمعنى أنَّ ما كان مُنتَظَرًا منه فى صندوق هدايا، سيكون تحقُّقه؛ لو تحقَّق أصلاً، مُقابلاً عن صفقةٍ أو خدمةً مدفوعةَ الثمن، وليس هديَّةً مجّانيّةً أو بادرة حُسن نِيّة.

سيُغدِقُ المدائحَ مع الوعود، ويبتسِمُ للمُضيف وضيوفِه، وللعابر والمُقيم؛ ترضيةً هُنا وضغطًا ناعمًا على نتنياهو هناك، إنما لن يحسِمَ المسائلَ العالقة لطرفٍ ضدَّ الآخر، ولن يَشدُدَ على إسرائيل أو يُغالى فى ضغوطه؛ كما لن يُصرّح باعترافه بالدولة الفلسطينية، مثلما أوردت بعضُ الدعاياتِ الخفيفة مُؤخَّرًا، أو حتى يُلوِّح بالورقة فى جُملة البدائل وأدوات الترويض.

فى دراما الخائف والطمّاع والمُحتال؛ يُعرَف الرابحُ مُسبقًا. ترامب لا يعنيه أن يُقيم العدل، أو يُعيد الاتّزان لميزان العالم المُختلّ. حماس ليس من أولوياتها أن تُضحّى بالخاص لأجل العام، ولا أن تضبط مسار النضال التحرُّرى؛ طالما المُقابل أن تصير خارجه.

ولا أحد سيتطوّع لإنقاذ الحركة أو خدمة مُخطَّطاتها، بما يعنيه ذلك من تدعيم المُمانَعة على حساب خطابات الاعتدال. والعِبرةُ ليست بما يُقال؛ إنما بما يُصَارُ إليه عَمليًّا، وفقَ رؤية واضحةٍ، وضمن سياق يتقبّل السائرون فيه بالأثمان والعوائد؛ شريطةَ ألَّا تتعارض القضيّة مع مصالحهم الحيوية.

كان يُفترَضُ أن تُختَبَر النكبةُ لمرّةٍ واحدة؛ ثمَّ تؤول لعُهدة التاريخ، وأن تكون فاصلاً عرضيًّا يُمتَحن به المنكوبون، ويُجبَرون من خلاله على تطوير الأفكار وتكييف المسارات. وبعد ما يزيد على سبعة عقود؛ فإنَّ النسخةَ الماثلةَ أشدُّ وطأةً من سابقاتها جميعًا، وأكثر تعبيرًا عن الرخاوة والاستخفاف، وعن ضِيق العقل وبُؤس الخيارات.

كأنها دوّامةٌ دُفِعوا إليها مرّةً؛ فاختاروا أن يظلّوا أسراها للأبد. وكُلّما سُمِعَ خطيبٌ أو بوقٌ أُصولىٌّ يتكلّم بحماسته «الحمساويّة» كما لو أنَّ شيئًا لم يحدُث، يتضخّم الشعور بالمأساة والمهانة، والحذر مِمّا يُخبّئه الغد المُظلم؛ فليس أخطرَ من العدوِّ النازىّ الجارح؛ إلَّا صديق ينتحرُ ويُجبر غيره على الانتحار، ويُناكِفُ فى الاعتراف والاعتذار والتصويب، وفى إسقاط الراية الفصائلية المُشتعلة؛ رغم أنه يراها تُمطِرُ نارًا عليه، وعلى الأبرياء المنكوبين به كنكبتهم بالاحتلال.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

ريبيرو يعود للقاهرة غداً لقيادة فترة إعداد الأهلى للموسم الجديد

كيفية الاستفادة من مياه الصرف الزراعى.. تعوض 30% من احتياجات الرى بمصر بنحو 4.8 مليار متر مكعب سنويا.. نتصدر العالم بمحطة بحر البقر لمعالجة 5.6 مليون متر مكعب يوميا.. ومحطة الحمام تقود ثورة المعالجة فى الدلتا

تنسيق الجامعات 2025.. استمرار إتاحة التقدم لحجز اختبارات القدرات

اتحاد الكرة يستقر على إقامة السوبر المصري بمشاركة 4 فرق

سياسات واستراتيجيات تنقل ذوى الهمم من التهميش إلى الإنتاج.. الدولة تضعهم فى قلب خطة لتمكين اقتصادى يفتح لهم أبواب الأمل.. تدريب مهنى فى محافظة أسيوط وتسليم ماكينات بعد تقييم اجتماعى للتأكد من الاستحقاق.. صور


قطار تالجو.. مواعيد الرحلات على خطوط السكة الحديد

إنجلترا الأكثر قيمة تسويقية للاعبين عالميًا.. والمغرب يتفوق أفريقيًا

مواعيد القطارات على خط القاهرة أسوان والإسكندرية أسوان والعكس اليوم السبت

تعرف على موعد صرف تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة

30 مليار دولار و4 شركات كبرى.. أوروبا تكثف دعمها لأوكرانيا بخارطة إعادة التسلح.. اتفاقيات استراتيجية لدعم التكنولوجيا بكييف.. صفقة تاريخية بين الدنمارك وأوكرانيا بـ67 مليون يورو.. وطائرات مسيرة برعاية فرنسية


تعرف على مواعيد القطارات على خط القاهرة الإسكندرية والعكس اليوم السبت

إخماد حريق في هيش ومخلفات بكورنيش النيل بحلوان دون إصابات

موعد انطلاق فترة إعداد الأهلي للموسم الجديد

هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل

بالأسماء والرموز.. قوائم المرشحين لانتخابات مجلس الشيوخ بجميع محافظات مصر

عداد صفقات الميركاتو الصيفى.. الأهلى الأكثر حضورا والزمالك وبيراميدز "اختفاء"

أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. خامنئى يهدد باستهداف قاعدة العديد الأمريكية مرة أخرى.. الاحتلال ينبش المقابر فى خان يونس.. انفجار مستودع يضم ذخائر من مخلفات الحرب فى حلب السورية

المونوريل يستعد لاستقبال الركاب.. جولة بمحطة المشير بعد تركيب بوابات التذاكر وتشطيب الرصيف.. أبواب زجاجية لحماية المواطنين واهتمام كبير بذوي الهمم وكبار السن.. نسب التشطيب تصل لـ100% والتشغيل تجريبي بدون ركاب

ماكينات حفر الخط الرابع للمترو لا تتوقف.. طاقم مصرى يصل الليل بالنهار لإنجاز المشروع.. المكينة تحفر 22 مترا يوميا والنفق حلقات خرسانية يتم تركيبها وتصنيعها محليا.. وهذه طرق تأمين العمال تحت الأعماق.. صور وفيديو

تمركز 15 سيارة إطفاء بمحيط حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى