قمة بغداد.. هل تنقذ غزة أم تضاف لمتاهة البيانات؟

تنعقد القمة العربية العادية الرابعة والثلاثون فى العاصمة العراقية بغداد غدا السبت فى ظل واقع عربى متأزم وسياقات إقليمية بالغة التعقيد، تتصدرها المأساة المستمرة فى قطاع غزة، حيث تمر 19 شهرا منذ بداية العدوان الإسرائيلى دون توقف، فى ظل تعنت واضح من حكومة الاحتلال، وصمت دولى مخز، وتخاذل إنسانى عن إدخال المساعدات أو وقف الحرب، ما جعل من غزة ساحة مفتوحة للدمار والمعاناة، لم يتبق فى غزة حجر على حجر، كما تؤكد التقارير الدولية، والمشهد بات أكثر قسوة من أن يُحتمل، وهو ما يفرض على القادة العرب فى قمة بغداد مسؤولية تاريخية، تتجاوز البيانات التقليدية والمواقف الرمزية، نحو تحرك حقيقى يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، ويمنح الأمل لملايين العرب الذين يشعرون بالعجز والخذلان.
وتأتى القمة بعد تحركات محدودة خلال الشهور الماضية، أبرزها المبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة، وهى المبادرة التى أثنى عليها وزير الخارجية العراقى علنا، معبرا عن دعم بلاده الكامل لها، واعتبارها حجر الأساس لأى تعافٍ محتمل فى القطاع المنكوب. المبادرة المصرية كانت واقعية وشاملة، إلا أن تنفيذها اصطدم بتعنت الاحتلال الإسرائيلى، وغياب آليات تمويل واضحة، وافتقار إلى موقف عربى موحد يدعمها سياسيا واقتصاديا، من هنا، تبدو قمة بغداد فرصة حقيقية لتحويل هذه المبادرة إلى مشروع عربى متكامل، يمكن أن يبدأ بإقرار صندوق دعم عربي، وتفويض لجنة مشتركة للعمل على تجاوز العقبات الميدانية، بما فى ذلك الضغط على المجتمع الدولى لإجبار إسرائيل على السماح بدخول المعدات ومواد البناء.
لكن هذا الأمل يصطدم بجدار صلب من الرفض الإسرائيلى، الذى يجسده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بكل وضوح، إذ يواصل تجاهله لكل الدعوات الدولية والعربية لوقف الحرب، وإرسال وفده إلى مفاوضات الدوحة لم يكن إلا خطوة شكلية، بلا صلاحيات فعلية، ما يؤكد أن إسرائيل لا تزال تماطل وتلعب على عامل الوقت لفرض أمر واقع على الأرض. وفى المقابل، بدت بعض المؤشرات القادمة من الولايات المتحدة، وتحديدا من الرئيس دونالد ترامب، معاكسة لهذا النهج، ولو بتلميحات غير مباشرة، فترامب، الذى بدأ جولة فى دول الخليج تحمل دلالات سياسية وانتخابية، حرص على التلميح إلى رفضه لطريقة إدارة نتنياهو للحرب، ما فُهم من بعض الأطراف كإشارة لانفتاح أمريكى محتمل على مسارات بديلة، السؤال المطروح الآن: هل تلتقط القمة العربية هذه الإشارات وتبنى عليها موقفا موحدا يستثمر التباين فى المواقف الدولية لصالح الضغط على إسرائيل؟ أم ستُهدر هذه اللحظة كما أُهدرت فرصا كثيرة فى السابق؟
غزة اليوم ليست فقط منطقة منكوبة، بل باتت عنوانا لمأساة إنسانية تتعمق كل يوم، فيما تقف الشعوب العربية عاجزة، والحكومات العربية مكبلة بقيود المصالح والانقسامات، مئات الآلاف من العائلات بلا مأوى، الأطفال يموتون جوعا ومرضا، والبنية التحتية مدمرة بالكامل، فيما لا تلوح فى الأفق أى حلول فعلية، لذلك، فإن القمة القادمة لا تحتمل أن تكون مجرد رقم جديد فى سجل القمم، أو مناسبة بروتوكولية لالتقاط الصور وتكرار العبارات التقليدية، لا جدوى من التنديد المجرد، ولا قيمة للمواقف منزوعة الفعل، المطلوب موقف سياسى موحد، يضع حدا لتآكل الدور العربى، ويعيد إلى القضية الفلسطينية صدارتها فى جدول أولويات العمل العربى المشترك.
المطلوب من قادة الدول العربية فى بغداد أن يتجاوزوا الخلافات، وأن يعيدوا للقمة مضمونها الحقيقى، أن يعلنوا، بصوت واحد، أن استمرار الحرب على غزة لم يعد مقبولا، وأنهم مستعدون للتحرك بكل الوسائل المشروعة لحماية الشعب الفلسطيني، سياسيا وإنسانيا. أن يتبنوا رسميا خطة مصر لإعادة الإعمار، ويوفروا لها الغطاء المالى والسياسى، أن يطلقوا دعوة لعقد مؤتمر دولى تحت رعاية عربية، يضع قواعد جديدة للتفاوض، ويواجه التعنت الإسرائيلى بإرادة جماعية، وأن يعيدوا النظر فى مسار التطبيع مع إسرائيل، بحيث لا يكون ذلك ممكنا ما دامت الحرب مشتعلة والحصار مفروضا والحقوق منتهكة.
قمة بغداد إما أن تكون نقطة تحول، أو فصلا جديدا فى مسلسل الفشل. التحديات جسيمة، لكن الفرص لا تزال قائمة إذا توفرت الإرادة، وتحركت الحكومات العربية بعيدا عن الحسابات الضيقة والمواقف المترددة. غزة لا تطلب المستحيل، بل تطلب أن تكون الدماء التى تُسفك يوميا كافية لتحريك الضمير، وكافية لأن يكون هناك موقف عربى واحد لا يخجل من قول الحقيقة، ولا يخشى اتخاذ قرار حاسم فى وجه القتل والخراب والخذلان.

Trending Plus