أشرف العشماوي يكتب: لعنة الخواجة وإعادة تشكيل الذاكرة

لعنة الخواجة لوائل السمري ليست مجرد رواية تاريخية مُسلية، لكنها مغامرة معرفية وروحية تتنقل بالقارئ بين دهاليز التاريخ ومرايا الذات، ينجح السمري في صياغة عمل أدبي ملحمي يختلط فيه الخيال بالوقائع التاريخية بواقع اجتماعي يستند على قدر لا بأس به من التخييل أيضًا، لتبدو فيه الشخصيات كما لو كانت أطيافًا تتقاطع على جدران الزمن، في هذا النص، تُستعاد وقائع منسية، ويُعاد تركيب سرديات خفيّة بين سطور التاريخ الرسمي، لا يقف السرد عند بناء السد العالي بوصفه مشروعًا هندسيًا، بل يغوص في رمزيته القومية كجسرٍ بين إرادة فرد وحلم أمة، غير أن السد العالي هنا ليس فقط جغرافيا مائية، بل أيضًا استعارة لفكرة المقاومة، لفيض الهوية حين تُحاصر، ولحتمية أن يُبنى المستقبل على أساس من تحدي الأسئلة الصعبة لا سهولة الأجوبة الجاهزة، وطوال صفحات الرواية الضخمة يتنقل السرد بخفة شاعر وصرامة باحث وسلاسة روائي ، تتداخل فيه العامية مع الفصحى، في حوارٍ يعكس تعدد الأصوات في المجتمع المصري.
وائل السمري لا يكتفي بسرد الحكاية، بل يعيد تشكيل الذاكرة، ويضع القارئ في مواجهة ذاته وتاريخه، بأسلوبه العذب المشحون بالعاطفة، حيث يجعل من الشخصيات كائنات حية تنبض بالتردد، بالخوف، بالفضول، وبالرغبة في الفهم، وحين يُغلق القارئ الصفحة الأخيرة لا تغادره الرواية، بل تحملها ذاكرته كوصية غير مكتملة تثير العديد من التساؤلات .
لعنة الخواجة ليست مجرد عمل سردي، إنما نشيد طويل عن الانكسارات والانتصارات، عن الأيام الجميلة، عن الشغف الذي يخلق المعنى، وعن اللعنة التي تلازم كل من يحاول أن يحفر اسمه على جدران التاريخ، عن نجاح له ألف أب.
اللافت أيضًا في هذا العمل البديع هو هندسة الكتابة الروائية إن جاز التعبير، يقدم السمري نموذجًا روائيًا يجمع بين البنية الفنية المُحكمة والثراء المعرفي، في نص يبدو وكأنه صُمّم لا ليُروى فحسب، بل ليُبنى كما يُبنى معبد عتيق، أو قصر من طراز كلاسيكي يُعيد الاعتبار إلى الجمال المفقود في تفاصيل الكتابة، فالرواية التي تمتد على مدى 666 صفحة، توزّع طاقتها بتوازن فريد،حيث تتحول كل صفحة إلى لبنة داخل بناء روائي مُعقد لكنه متماسك، في حين تشبه البنية غير الخطية للرواية خرائط المدن القديمة، تتفرّع وتلتف وتتشابك لكنها تعود دائمًا إلى نواتها الأولى حول سؤال الهوية في ظل ضجيج التاريخ.
أما اللغة، والكاتب شاعر في الأساس، فهي بطل خفي في الرواية، لغة عذبة، مرنة، أنيقة، يعرف المؤلف متى يكتب برصانة الباحث، ومتى يسرد بتلقائية العاشق، تتخلل الرواية صور شعرية خافتة لكنها مؤثرة، فلا تفرض نفسها على القارئ بل تهمس له في عذوبة ، هناك اقتصاد في المجاز، وذكاء في توزيع الإيقاع، بحيث لا تُغرق اللغة السرد ولا تُجرّده من متعته، أما الحوار، فقد نجح السمري في جعله يعكس شخصياته لا صوت الكاتب، ويتلوّن بمقام الموقف ومناسبة الحدث دون تكلّف، حتى بطل العمل دانينوس، المهندس الذي حفر في الصخر والذات ، لم يقدمه السمري كمجرد بطل تاريخي أو حامل لفكرة، بل رسمه روائيًا ككائن رمزي أقرب إلى أسطورة معاصرة، يتقاطع فيها الطموح الفردي مع صراع الحضارات، وتمور فيها أسئلة الهوية على إيقاع الدهشة. فالبطل دانينوس، المصري اليوناني، ليس غريبًا عن أرض النيل، لكنه أيضًا ليس ابنها التقليدي، يتحرك على حد السكين بين الانتماء والاغتراب، وهنا تتجلى براعة السمري في بناء شخصية مزدوجة، لا تهرب من تناقضاتها بل تعيش فيها وتُبرز جمالها متفاخرة به ، وطوال النص ستكتشف أن رسم شخصية دانينوس من جانب المؤلف لم يكن يسعى إلى الحل، بل إلى الفهم، لا يهدف لمجد شخصي ، بل عن المعنى من وراء عمله.
الرواية لا تجيب عن الأسئلة التي يطرحها دانينوس، لكنها تضع القارئ في قلب تلك الأسئلة، ماذا يعني أن تكون "مصريًا"؟ هل يمكن لفكرة أن تنجو من لعنة الأصل؟ هل الطموح خلاص أم لعنة أخرى مقنّعة؟ وفي هذه المساحات الرمادية تتألق الرواية كعمل ملحمي بديع مُتشح برداء سردي شديد التشويق .
Trending Plus