خالد دومة يكتب: العبث المقدس (4)

وها أنا الأن أمسك بقلمي ويدايا ترتعشان، والظلام يغلف حجرتي، إلا من ضوء شمعة ألتمس منها رؤية خافتة لأتبين الأشياء، شريط ضوء بالكاد أتبين الحروف، وأخط فوق أوراقي حياتي المظلمة، التي أُرغمت عليها، ولأنني أنثى فإنني مهيضة الجناح، ولا حظ لي من قلب، يشعر ويحس ويختار، أخط بقلمي ما ألقت به الأيام من صخور في طريقي، ومن الألم والحزن والحسرة التي خلفتها الأعاصير، وجعلتها ركاماً، وجبلاً عظيماً لا أقوى على حمله، كانت بنيتي ضعيفة، وعودي لين لا يقوى على صد الرياح القوية، وكان لا بد أن أميل، وأتوارى وأختبأ، أن أجد ملجأ أحتمي به، وإلا اقتلعتني الرياح من جذوري، نعم حاولت الثبات في بداية الأمر، ظناً مني أنني أستطيع الصمود، لكن محاولاتي كلها كانت أضغاث أحلام، الآن أبثُ أوراقي وصفحاتي ما سطرته يد الزمن، وما عجزت أن أبوح به لأحد، عشت عمري كله أكتمه في قرارة نفسي، وفي أعماق وجداني، عشت لا أهمس به حتى لنفسي، كنت أكتمه وأواريه وأهيل عليه التراب، حتى لا أحترق بناره، ويلتهم ما يتبقى مني، كنت دائمة الهروب منه، لأنه لم يكف عن مطاردتي كل هذه السنوات. كلما أمسكت بأحرف كلماتي تتفلت مني، تنسل من ذاكرتي، أحاول أن أخطُ فوق أوراقي حرائقي، انتصارتي وهزائمي، غزواتي ومعاركي، أخط مسيرة امرأة، ولدت لتشقى، وعاشت بالرغم منها حياة غريبة، ضاقت بها حتى ألجأتها إلى الضياع، أخط فوق الأسطر غبار أيام مضت، علا فيها دخان الحرب، وصوت الرذيلة، ونيران الحقد والطغيان، ولازالت الحرب دائرة، والنيران تعلو، وسماء مغبرة بالتراب، حرب مبعثها النفوس، حرب باردة غير معلنة، أثرها باق متغلغل في الأعماق، لا يظهر على الوجوه شيء من خرابها، حرب باردة بين الباطل الذي يرتدي عمامة، بوجهه الناصع البياض، ببرائته الظاهرة ومسكنته، والحق الصريح، الذي يجرح ويخدش ويكشف العورات، بين خصم يطعن في الخفاء وفي الظلام، وبين عيدان الذرة يتربص، ليطلق نيرانه القاتلة، الكل يختبأ وراء الأقنعة، فالحرب قائمة في كل بيت، وفي كل شارع، وعلى أرصفة الطرقات، وبين الأخوة الأشقاء، وأبناء العمومة، وفي المدارس، وفي المساجد، وفي ساحات الملاعب، في كل شيء، هناك حرب باطنة، وما أفدح تلك الحروب التي منشأها القلوب، فهي أشد خطراً من حروب السلاح والأعداء، في هذه الحروب، إنك لا تستطيع أن تعلم من أين تأتي الطعنات؟ ولا متى؟ فلا يظهر من أثر تلك الطعنة، إلا الدم المسفوك على الثرى، وحين تنظر إلى الخلف، تتراء لك مئات الوجوه المحيطة بك، والتي تعرفها عن ظهر قلب، تبحث عن وجه غريب، شخص لا تعرفه، فلا يرتد إليك نظرك إلا حاملاً الأسف والحزن العميق، تموت والدهشة والعجب تملأ ملامح وجهك، والحسرة تفتك بك.
لا أدري كيف أبدأ أو من أين أبدأ؟ وهل تسعفني الذاكرة في استرجاع ما حاولت نسيانه والهروب منه، ها أنا أقف على أطلال قلبي المُحطم، أريد أن أتذكر، أعود بذاكرتي أُفتش عن ذاتي، التي ضاعت مني، في رحلتي التي أوشكت على الإنتهاء، أتعجب كيف تحولت، وهل يستطيع الإنسان أن يحمل بين جوانحه كل هذا التناقض الغريب المذهل، هل يبدأ ملاكاً لينتهي به الحال إلى شيطان، أو يبدو ملاكاً، وهو يحمل في قلبه رصيداً زاخراً من الألم والحقد والإنتقام، كان العالم يبدو لي صغيراً، بحجم قريتنا الصغيرة، والتي تقع في ناحية ما من بقاع الأرض المترامية الأطراف، مجهولة الهوية، حيث الفقر والمرض، والشقاء المنحوت على وجوه الناس، والقوت المُختلط بتُراب الأرض، والخوف والرهبة. تمتد البيوت ذات الطراز القديم، مصنوعة من الحجارة، والأسقُف الخشبية، والأثاث المتواضع، الشوارع ضيقة، تبعث في النفس ضيقاً في الصدر، وقلة في الطموح، وتملأنا ضيقاً بالحياة، الزبالة منتشرة عبر الطرقات، والذباب لا ينتهي، أسراب تملأ الأجواء، وفي المساء يطاردنا الناموس، يمتص دمانا، ويصيبنا بالأمراض القاتلة، الرؤوس مثقلة بالجهل، والعادات السيئة، والتقاليد الجامدة، والعقول صلدة لا تلين، أو تُفكر، أو تعترض، وإلا كان نصيبها التقريع، والسباب والخروج من جُلودنا المشقوقة من حرارة الشمس، وتُراب الأرض، والخوض في الطين، فالعقول قديمة قدم البيوت، والأفكار الشاذة منتشرة إنتشار الذباب والناموس، كامنة في كل عقل لا تفارقة، ورغم ذلك، يُحيط بيواتنا الهشة، المساحات الشاسعة الخضراء، تمتد عبر الأفق، لا نهاية لجمالها، أشجارها الظليلة مُتناثرة في كل مكان، السماء صحو أغلب أيام السنة، في الصيف تُداعبنا نسماته في رقة وحياء، وفي الشتاء حيث المطر الخفيف، والبرد القارص، والسكون والصمت الرهيب، ولا شيء سوى السلام الداخلي، لمن كان له قلب، والتي قد تبعث في النفوس بهجة، وحب للحياة والطبيعة التي تمد الروح بوابل من الإطمئنان والأمان، ولكن سرعان ما تعمى الأبصار عن رؤية كل هذا الجمال، كما عميت العقول عن رُؤية الحقائق، إنهم لم ينظُروا إلى الطبيعة الخلابة التي تُحيط بهم إلا نظرة جائع طامع، فقد غلفت عقولهم الخُرفات، والوساوس التي تُسيطر على القلوب، وتتركها فريسة تنهشها الأعراف البالية، فتصنع منهم عبيداً، لا قدرة لهم على مخالفتها، ليس إلا أن تقف ساعةً مفكراً في ماهية حياتهم وأفكارهم، حتى تكتشف نومهم العميق، وخداعهم المتواصل، يُكبلون عقولهم خلف قضبان التقاليد الزائفة، والعادات السقيمة، التي تؤسرهم، وحين تتمرد أن تكون مثلهم أعمى، وتُنكر ما لا يُنكرون، وتعترف بما يهابون ويخافون، فإنك خليع متهتك، أو فاسق مُرتد، وليس للإيمان والكفر شأن فيما يُخيل إليهم أو يدعون، نعيش بقوانين سمجة، عاشوا مئات السنين على عبادتها وتقديسها، نطيف حولها، ولا فكاك من أسرها، قيدونا بها من أيدينا وأرجلنا، ودرجنا على طاعتها العمياء، كل قوانينهم لا حظ لها من عقل، إنما هي نتاج التخلف المحفور منذ سنين في عقولهم الهشة، فمحاولة التحرر منها هي محاولة إنتحار، وتعريض للسلخ والجلد والكفر والإلحاد، والنبذ في دنياهم، كل هذا يُلقي في روعي، إنها بداية حرائق لا تنتهي، وصراعات نفسية طويلة الأمد، إنها نبض قلوبهم التي لا تشعر، إن حياتنا تمضي بنا، وترث الأجيال ما تعودناه، فالرجال في قريتنا قامات مفلسة، والنساء أشد إفلاساً، هياكل تتحرك وأعماق فارغة، لكنهم يخدعون أنفسهم بأن يجعلوا من فراغهم قيمة، ويضفون عليه مسحة دينية، ليأخذ شكل القداسة والتوقير، فتقرأ في وجوههم آيات من الخشوع في حضور الأخرين، فإذا أنفردت بأحدهم، قرأت آيات الشيطان تبوح بها عيونه الآثمة، فكلهم في العلن حُكماء وقديسين وشيوخ منابر، لا تفوه ألسنتهم إلا بما يُرضي الله ورسوله، وما تفرضه القيم والأخلاق، فإذا إنفضت جموع الناس من حولهم، تحررت ألسنتهم من الجد والوقار، وصارت تطارح الغرام، وأعينهم تفيض بالشهوة، ولا تترك زاوية او إنحناءة من زوايا جسد امرأة إلا افترسته، وكادت أن تخترق ما تحت الثياب، ولا تدري أين ذهب الله في خلوتهم، وأين أختفي؟ هم لا يرونه، أو يتغاضون عن رؤيته، فتشت عن الله في أفعالهم لم أجده، بحثت عنه في معاملتهم لم أجده، إن الله قابع هناك في كتابه، لا يتحرك، لا أثر لله إلا على ألسنتهم الكاذبة، يسحقون أرواحهم من أجل أجسادهم التي تشعلها الرغبة في خلاياهم، فتُذهلهم عن رؤية الحق والفضيلة، إذا كانت عيون الناس غافلة عنهم، ساعة ريثما يقضوا وطرا، ثم تعود إليهم نفوسهم الطاهرة فيتوبوا إلى الله، فهو التواب الرحيم، يفتعلون المشاكل من لا شيء، حتى يظهر كل منهم، يعرض حكمته ووجهة نظره المثالية في هذه القضايا الحساسة، التي قد يعجز عن حلها مجلس الأمم ويقف عندها مذعوراً مبهوتا عاجزاً، ولا حول له ولا قوة، فهو مكتوف الأيدي، أمام هذه العظائم التي تبتكرها بنات أفكارهم الضحلة والساقطة، ليس في قريتنا سوى العبث، يُحيط بنا، ويُقيم فينا، ونجعل له مراسم وطقوس، وهالة من التبجيل والتكريم، ونجعل له أعياداً قومية، ونتحراه في كل عمل نقوم به.
أهذا هو الريف؟ كما يظنه الكثيرين من أهل المدن، الذن سمعوا به أو زاروه، على فترات متقطعة متباعدة، يذهبون ليُريحوا أعصابهم، من صخب المدينة أيام قلائل، ثم يرحلون، يأكلون ويشربون ويتنفسون هواءً نقياً، خالياً من التراب والضجيج، الذي يغزو المدينة صباح مساء، يستمتعون بالمساحات الخضراء، والمياه الجارية عبر الترع والقنوات، وبالمعيشة البسيطة، والجبن والبيض واللبن الدسم والعسل والفطير الفلاحي، وأكواب الشاي على نار الحطب، ونكهته المميزة، الفلاحون العائدون قرب المساء فوق الحمير، يحملون عليها أحمال البرسيم، صوت الطاحونة، نباح الكلاب الضالة، تسكع القطط في الطرقات، الليل والهدوء والتفكير العميق، وساعات من الصمت المتواصل، كل هذا لا يعرفه أهل القرى والريف، ولعلهم قد أعتادوا على رؤيتها، فلم تُثر فيهم أي شعور بالجمال والمُتعة، أو أن عقولهم وقلوبهم المعطلة صارت حجاب، يحجُب عنهم سحرها، فلم يروا فيها إلا الشظف والحرمان، فأهل قريتنا الموقرة من الغرباء، لم تكن موقرة في نفوسهم وقلوبهم، ولعلهم سخروا من أهل المدن، حينما يمتدحون جمالها وسحرها، أنهم لم يروا مما يقولون شيئا، بلدتنا الصغيرة النائية عن الحياة وعن عيون الدولة، المطموسة من ذاكرة التاريخ، أنها كمئات من القرى التي تجاورنا، والتي تمتد عبر قطرنا من الجنوب والشمال، يعيشون في عالم الظلام والنسيان، يشق طريق قريتنا الرئيسي، ترعة كبيرة، وعلى أطراف الترعة أشجار متناثرة كبيرة وعتيقة، كأنها موجودة قبل نزول أبونا آدم إلى الأرض، منذ وعينا على الدنيا ونحن نراها، قائمة بجذورها الضخمة تلامس السحاب في النهار، والنجوم في المساء، أو هكذا كنا نراها ونحن أطفال صغار، كانت مياه الترعة التي كنا نراها في صغرنا شفافة ناصعة البياض، وكانت النساء يخرجن في الصباح بعد أن يذهب أزواجهن إلى الحقول، حاملين أوعيتهم، وحصرانهم وأرديتهم المتسخة ليغسلنها على حافة الترعة، ترفع ثيابها قليلاً، وتمد قدميها في الماء وتجلس على حجر صغير، وتبدأ عملها في تنظيف أغراضها، في أثناء ذلك يتجاذبن أطراف الحديث حول أخبار الناس وأطفالهن يلعبون حولهن في الماء، كان منظرا رائعا، لازلت أذكر صداه في مخيلتي حيت كنت أصاحب أمي وأحمل معها بعض أغراضها ونتوجه بها إلى الترعة، أم الآن فقد فقدت مياه الترع والقنوات بريقها الفضي، وتحولت إلى قنوات مجاري تحمل مخلفات الإنسان والحيوان، وصارت تشمئز منها العيون والأنوف والنفوس، ومرتع للفئران والأمراض، على حافتها أطنان من القمامة، والأشجار سكنتها الغربان، وفسد الماء والهواء والظلال، البيوت متلاصقة، والشوارع نحيلة ضيقة، غير نظيفة، مملوءة بروث الحيوانات، وفي المساء يعم الظلام كل شيء، وتهدأ أقدام السائرين إلا من خفافيش البشر.
Trending Plus