سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 18 مايو 1954..الموسيقار محمد عبدالوهاب يكشف عن أسرار علاقته مع أمير الشعراء أحمد شوقى وصدمته يوم أن فاجأه قائلا: «أتمنى يا محمد إنك تموت قبلى»

أخذت صداقة الموسيقار محمد عبدالوهاب، مع أمير الشعراء أحمد شوقى، مكانها منذ عام 1925، وصار شوقى أستاذا لعبدالوهاب يكثر من رعايته، ويفتح أمامه أبواب المعرفة، ويغرس فى نفسه الشعور بلذة الابتكار والخلق، حسب وصف عبدالوهاب فى مذكراته المنشورة على حلقات أسبوعية بمجلة «الكواكب» من مارس إلى يونيو 1954، وحررها الكاتب الصحفى «لطفى رضوان».
يكشف عبدالوهاب عن أسرار علاقته بأمير الشعراء، والدروس التى تعلمها منه، وفى الحلقة المنشورة بالعدد رقم 146، بتاريخ 18 مايو مثل هذا اليوم 1954، يكشف كوليس الأغنيات التى كتبها شوقى خصيصا له، ويصحح معلومة مغلوطة بأن أول أغنية غناها له كانت قصيدة «يا جارة الوادى»، قائلا: «أول أغنية وضعها لى المرحوم شوقى لم تكن قصيدة شعرية، وإنما مقطوعة عامية بعنوان «شبكت قلبى يا عينى»، ويقول فيها: «توحشنى وانت ويايا/ واشتاق لك وعنيك فى عنيه/ واتذلل والحق معايا/ وأعاتبك ما تهونش عليه»، يضيف: «كنت ألقى هذه الأغنية فى الحفلات الخاصة التى أكلف بإحيائها، وبعدها بدأ يشجعنى على غناء ما ينظمه، فلم يكن أحب إليه من شعره، وكان يسعده أن يستمع إليه يجرى على لسان غيره، فما بالك حين يسمعه غناء».
يؤكد عبدالوهاب، أن شوقى ظل يحبه كأحد أبنائه، ويكشف: «فى أحد الأيام فاجأنى بقوله: أنا أتمنى يا محمد إنك تموت قبلى، وقبل أن أفيق من دهشتى مضى يوضح: «عايزك تموت قبلى علشان أرثيك بقصيدة»، ويعلق عبدالوهاب: «ربما يندهش البعض من هذه الكلمات، لكن الواقع أن شوقى الشاعر كان يحب فنه أكثر من أى شىء فى الوجود، كان يحبه أكثر من أولاده ومنى، وكان يدرك مقدار ما يستطيع أن يصنعه لو أتيح له أن ينظم قصيدة فى رثاء عبدالوهاب الذى يحبه، كان يحس أنها ستكون شيئا رائعا، فتمنى أن أموت قبله حت لا يحرم تراثه الفنى من هذا الأثر الخالد».
يذكر عبدالوهاب: «شوقى لم يذكرنى فى شعره إلا مرة واحدة فى قصيدة قالها فى ذكرى سيد درويش، وختمها بهذه الأبيات: «إن فى ظل بلادى بلبلا/ لم يتح أمثاله للخلفاء/ ناحل كالكرة الصغرى سرى/ صوته فى كرة الأرض الفضاء/ يستحى أن يهتف الفن به/ وجمال العبقريات الحياء»، ويكشف عن أن شوقى أوصاه، قائلا: أرجوك يا محمد ألا تهمل شعرى بعد أن أموت، تبقى ديما تغنى قصايدى، وفى أحد الأيام قدم لى أغنية جديدة هى دور «فى الليل لما خلى» فوجدتها شيئا جديدا حقا، إنها أغنية لا تتحدث صراحة عن العشق والهجر والصد، ولكنها أغنية وصفية تقدم لوحة فنية رائعة حافلة بشتى الألوان والظلال، عامرة بالأحاسيس العميقة النبيلة، إنها شىء جديد فى عالم الغناء العربى، ولهذا قررت أن أقدم لها فى التلحين شيئا جديدا، ومادامت القطعة صوفية فيجب أن يكون للموسيقى فيها نصيب كبير يساعد على إبراز اللوحة الفاتنة التى رسمتها ريشة الشاعر الملهم، ولما كان التخت يتكون - حتى ذلك الوقت - من العود والقانون والكمنجة فقط، فقد رأيت أن أضيف إلى هذه الآلات الموسيقية المحدودة بعض الآلات الغربية التى تلائم أنغامنا الشرقية، وتنسجم مع باقى آلات التخت، وهكذا أضفت إلى التخت الشرقى لأول مرة «الفيلونسل» و«الكونترباز».
قدم عبدالوهاب أغنية «فى الليل لما خلى» لأول مرة فى حفل انتقال نادى الموسيقى الشرقية من مكانه القديم إلى الجديد، ويؤكد: «كان سرور شوقى عظيما بنجاح هذا اللون من الغناء الوصفى، وشجعه ذلك على وضع أغنيات جديدة من هذا النوع، فكتب أغنية «بلبل حيران» ثم «النيل نجاشى» وغيرهما، ويعلق عبدالوهاب: «هكذا خطا شوقى بالغناء العربى خطوة مهمة، عندما أدخل فيه هذا اللون الجديد الذى لقى نجاحا عظيما عند الخاصة والعامة على السواء»،
يؤكد عبدالوهاب أن شوقى جعل من نفسه أستاذا عليه، يعمل على توسيع مداركه، ويصحبه إلى مجالس الكبراء، ويقدمه إلى الصالونات والمجتمعات الراقية، ويهيئ له فرصة الغناء فى الحفلات الخاصة، ويذكر: «كانت صحبة شوقى مدرسة وحدها، وما أكثر الدروس التى تعلمتها من هذا الرجل العظيم، الخبير بطبائع النفوس البشرية»، ويعطى عبدالوهاب مثلا، قائلا، إنهما كانا معا فى محل «صولت» الحلوانى، فأقدم رجلا يطلب خمسة جنيهات من شوقى لكنه رفض، وظل الرجل ينزل بالمبلغ حتى خمسة قروش وشوقى يصر على الرفض، وأثناء انصرافهما شاهد شوقى على الباب رجلا يرتدى «ردنجوت» قديم فناداه: «أهلا يا عم على» وأعطاه خمسة جنيهات، ويذكر عبدالوهاب أنه اندهش من هذا التناقض فى تصرف شوقى فسأله عنه، وأجاب قائلا: الرجل الأول شخص آفاق يتمحك بالصحافة ويأكل على كل مائدة، ويمد يده لكل إنسان، وتركنى ليذهب لغيرى، أما «عم على» فمن زملاء الدراسة، وإذا لم أعطه أنا فلن يمد يده لإنسان».
Trending Plus