عن قمة بغداد وسفينة الخِضر.. أسئلة الحاضر والتاريخ تحت سقف الخيمة الواحدة

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

يجتهد العراق للعودة إلى محيطه العربى منذ سنواتٍ طوال، وها قد عاد فعلاً؛ لكنه لم يجد ما يليق به تاريخا وحاضرا من مُستقبِلين ومُهنِّئين.

قبل شهرين كان يُحيى فى صمتٍ ذكرى الغزو الأمريكى، ووَضْعه على مسار انحدارٍ طويل، تكبَّد فيه كُلفةً باهظة من الدم والمال والمكانة. وبالتزامن، كانت الجامعةُ العربية تُكمل عامَها الثمانين؛ كأقدم مُنظَّمة إقليمية ودولية، استبَقَتْ ميلاد الأُمَم المُتَّحدة نفسَها بعدَّة أشهُر.

لدينا روافع صالحةٌ لحَمل مشروعٍ إقليمىٍّ أكثر قوَّة ومتانة؛ إنما من نَكَد الدنيا علينا أنها مُعطّلة، أو يُرَاد تعطيلها، ويُجتَهَدُ فيه بدأبٍ غريب وغير مفهوم.
يظلُّ مشهد القمَّة العربية الرابعة والثلاثين فى بغداد مُهمًّا؛ لكنه ليس مُبهجًا، ولا يُحقِّق العلامة الكاملة فى أشدِّ حالاتنا احتياجا إليها.

أقلُّ من نصف القادة توافدوا على الحدث، منهم ثلاثةٌ فقط من قائمة المُؤسِّسين السبعة، بينما انحصر تمثيلُ البقيَّة فى مستويات مُتباينة، تراوحت بين رؤساء حكومات أو بيروقراطيين دبلوماسيين، والأصل فى دُوَلِنا أنَّ القرار يُصنَعُ فى أعلى مستويات السلطة، ويكتسبُ قيمتَه من البصمة القيادية عليه، ما يعنى أن الغياب ليس تفصيلاً عابرًا، ولا مُجرَّد تحويرٍ فى الصورة بلا تغيير للأثر.

باختصار، وبدون مواءمة أو مُحسّنات بديعية؛ يفرضُ المُلتَقَى الأخيرُ أسئلةً جادّةً وجارحةً على الطاولة، تبدأ من الغياب الراهن، وتمتدُّ إلى المنظمة وهيكلها وفاعليَّتها وما يترتب عليها من أدوار، وحدود نظرة كلِّ بلدٍ للمظلّة الجامعة، وأغراضها فيها، وما تقبلُه أو تتمرَّد عليه من التزاماتِ الشراكة والتكامُل.

لم تكتمل للعرب قمَّةٌ منذ سنوات؛ إلَّا أنَّ المشهد الأخير يُرَقِّى الهواجسَ إلى أعلى ذُراها، ويختلف عن كلِّ سوابقه لاعتبارات شتّى. فى القاهرة قبل شهرين كان اللقاء طارئًا، ويُحتَمَلُ مع الاستثنائية أن يتعارض مع روزنامة بعض الدول وأجندات قادتها، كما أنَّ مصر بلدُ المقرِّ وعمودُ خيمة العرب، وفيها لا يُستَشعَرُ النقص والغياب؛ لأنها تملأ المكان وتُعوّض عن الغائبين.

أمَّا العراق؛ فإنه يتلمّس خُطاه حثيثًا، ويعودُ للتوهُّج بعد انطفاءٍ طويل، وإذ تكتسب ساحتُه أهميَّةً كُبرى لذاتها؛ فإنها تتضاعَفُ بتقاطُعها المُباشر مع المجالين السورى والإيرانى، واتصالها بالخليج والأردن، وشراكتها التنموية مع مصر وفق الآلية الثلاثية.

كان البلدُ فى حاجةٍ للترحاب، وأحوج منها إلى رسائل مُباشرةٍ تصلُه على الوجه الصحيح، بحيث لا تتداخل فيها المعانى بشأن الموقف من الجامعة، مع الموقف منه شخصيًّا. أى أنّه لو اقتضت الضرورة أن تكتمل قمَّةٌ بعَينها؛ فالقضاء فى حقِّ اللقاء الأخير على أعلى ما يكون، وأجلاه، وأكثره أهميَّة أيضًا.
وبديهىٌّ من دون شَكٍّ أنها قراراتٌ سيادية، ويحقُّ لكلِّ بلدٍ أن يتَّخذ من المواقف ما يُعبِّر عن حاله وانحيازاته الراهنة، وأن يتدرَّج فى تمثيله وفقَ ما يرفعُ درجة التصريح بمَوقفٍ ما أو يُخفِّضُها.

وإن كان لا رادَّ لتلك الإرادة؛ فليس أقل من التعقيب عليها. ولسنا فى مُتّسع يسمحُ برفاهية الأخذ والردِّ فى القضايا المصيرية، أو إعلاء السفاسف على المُتون والمركزيَّات.

ومن نافلة القول أيضًا؛ أنه لا شَكَّ فى العروبة وصِدق التوجُّه إليها من المحيط للخليج، ولا فى وحدة الهَمِّ، وإن تقطَّعت السُّبل على توحيد الرؤى والسياسات؛ إنما الخلاف كلُّه فى حيّز التعريف وضبط الاصطلاح، وما يقع من تفاوتٍ إزاء فهم الغلاف القومىِّ، ومسموحات دخوله فى نسيج البلدان والمجتمعات، وما يشتبك منها مع أولويَّاته، وعلى أيَّة قاعدة.

أى أنه يقع فى نطاق تعريف السياق العربى الجامع، وتعريف جامعته، وإعادة تكييف مركزها وأدوارها على نحوٍ مُثمرٍ، ينسجم مع تطلُّعات الأعضاء دون شِقاقٍ أو صدام، ولا يجور على الكيانية التضامنية لصالح طرفٍ ضد آخر، أو يظلُّ عرضةً للارتباك والتعطيل؛ كُلَّما افتُقِدَت اللغةُ المُشتركة، أو تسرّبت حرارةُ الحوار بين أطراف الجسد الواحد.

الرتابةُ أُولى الآفات؛ إذ ما عادت القِمَم ورشةَ بحثٍ وجَدَل، وعمليَّةً حيويَّةً لجَبْر التناقُضات والوصول بها إلى نطاقاتٍ وسيطة مُقنعة.
توقَّعتُ ملامح البيان الختامى، وبعد الاطِّلاع على مُسوَّدته قبل يومٍ من الانعقاد؛ لم أجد اختلافًا فى العناصر الأساسية؛ اللهم إلَّا ما يخصُّ المُبادرات التنموية المقترحة من البلد المُضيف.

وما دون ذلك، يسهُل استشرافه بالفلسفة والصياغات، وبعضه صار روتينًا دائمًا لا يتبدَّل من قمَّة لأُخرى؛ ربما لأنَّ أزمات المنطقة طويلةُ الآجال بطَبعِها، أو لأنه الحدُّ الأدنى من التوافق وتَلصِيم المواقف؛ حتى لَيَصِيرَ عَصيًّا فيما بعد التحبير أن يُعاد النظرُ للمسائل نفسها، ولو تبدّلت الظروف وتعقدت الأوضاع، وفرضت المُلمّات علينا أن نُنتج مُقارباتٍ من خارج الصناديق المُعتادة، أو نُجدِّد القديم منها بما يميلُ يمينًا أو يسارًا، وفى كثيرٍ أو قليل.

نحو ثُلث العائلة العربية يعيشون فى سياقاتٍ غير مُنتظمة، وتحت ضغط المخاطر الدائمة والداهمة. لا شىء يفرضُ الالتئام الجماعىَّ أكثر من تطويق الخارطة بالنار، وانحلال أطرافها، وتآكُل قدرتها على التعافى والحياة.

وبالنظر إلى أنَّ الجامعة نشأت عن حاجةٍ حقيقية، ولم تكُن رياضة ترفيه أو تزجية للوقت وفائض الطاقة؛ فلا يُفهَمُ الابتعاد عنها فى أوقات ضعفِها إلَّا على معنى الاستقالة من شواغلها، وتَركِها عاريةً فى مُواجهة المجهول، من طوفاناتٍ وميليشياتٍ وجهاديَّاتٍ وحروب قياميَّةٍ، وبالضرورة ارتداداتها الثقيلة على الإقليم كاملاً.
إنها سفينةٌ واحدة، ولا يُغيّر من هذا أن يتَّفق الركابُ على التوصيف أو يختلفوا، والنجاةُ مشروطة بالجماعيَّة لا الفردانية، ولسنا فى وارد الالتجاء إلى حكمة «الخِضْر» كى يخرقَها حتى لا تُؤخَذَ غَصبًا.

الخَرقُ يتهدَّدها بالغَرَق لا الطفو، والطامعون يُلاقونها بإراداتٍ مُتَّحدة وتصوُّراتٍ حارقة، ولن يهنأ مُقيمٌ فيها إنْ التزمَ غُرفتَه، بينما تندلعُ الحرائق فى أرجائها، أو يميلُ جانبٌ منها لتغمُرَه المياه.

بُنِيَتْ المُنظَّمة على كَتف مصر، كانت فكرتَها فى الأساس، وحتى الاسم اختارته بفلسفةٍ وَحدَويَّة واضحة، بدلاً من مقترحاتٍ سورية ولبنانية مالَتْ لمعانى التحالف أو الائتلاف وما يشبههما.

كان الغرضُ أن يندرج القادرون فى عقدٍ واحد؛ ليتعاونوا ويُعينوا غيرَهم، ولم يكُن لديهم شاغلٌ وقتَها أهمّ من الاستقلال والاستقرار. أُنجِزَت المهمَّة ببطء، وتوسَّعت الدائرةُ، وأخذ العدد يزداد مع السنوات، بينما تضعفُ الفاعليَّة وتتآكَلُ الروابط.

لا أملَ فى الفحص المُتعمِّق من دون مصارحةٍ كاشفة؛ بل قاسية ومزعجة أحيانًا، ولا سبيلَ لاستعادة الوجهة وضبط الإيقاع دون بحثٍ جاد فى أسباب الاعتلال وطُرق التشافى منه، على قاعدة الإيمان بالتكامل، وشرطِ القناعة بأهمية العلاقة النظامية لأطرافها جميعًا، وأنَّ ما يستقيمُ بها يتعذَّرُ استحصالُه والحفاظ عليه من أبوابٍ أخرى.

بين مَدٍّ وجَزرٍ عاشت العروبةُ أغلبَ عُمرِها المنظور من تجارب الدول الوطنية. حدث التوافُق حينًا وانقطع أحيانًا، وكان أعلى تمثيلاته فى زمن الحرب المصرية الكُبرى مع إسرائيل.

وقتَها وجدت مصرُ الدعمَ والاحتضان، وبادر الشيخ زايد بتفعيل سلاح النفط، وتبعه آخرون؛ ما مَثَّل ضغطًا اقتصاديًّا مُهمًّا على العالم الغربىِّ المنحاز. أفاد الموقفُ أكبرَ جيوش المنطقة وأقواها؛ لكنه أفاد الأشقاء أيضًا بذات الدرجة.

عبرنا وانتصرنا، وتبدّلت أسواقُ الطاقة تمامًا؛ ليبدأ عصر الوفرة المالية فى دول المكامن الكبيرة. وإذ يُختزَل المشهد فى أحد مُكوِّناته؛ فإنَّ النظرَ إليه من الزاوية الواسعة يُعيدُ تسمية الأشياء بمُسمّياتها الحقيقية، ويُفصح عن جوهر الفائدة الكامنة فى التضامن، وأنها معادلةٌ مُنتظمةٌ فى جناحَيْن، ويستفيدُ طرفاها طالما أُحسِنَ استغلالُها، أو انطلقت من شعورٍ بالقوَّة، وقُدرةٍ راغبةٍ فى حراستها، بما لا تغنى فيه الخشونة عن الليونة، والصدام عن الدهاء، والعكس.

لعلّها لعنةُ البداية المُبكِّرة. كان العالم يتعافى من تأثيرات حربه الكونيَّة الثانية، ويُزيلُ أطلالَ «عُصبة الأُمَم» بحثًا عن بديلٍ أنجع. التقى المُؤسِّسون بين استقلالٍ جُزئىٍّ أو صُوَرىٍّ، وكان الاحتياج مُرشِدهم وهاديهم إلى الاجتماع تحت خيمةٍ واحدة.

قادت مصرُ الجامعة العربية بمنطق الاقتدار والضرورة؛ لكنَّ المُؤسَّسة تعرَّضت للتشغيب سريعًا، من حلف بغداد إلى المناطحة البعثية الناصرية، وصولاً لجبهة الصمود والتصدِّى، ثم اشتباك المُمانَعة والاعتدال.

لم تخلُ مرحلةٌ فى عُمرِها المديد من نزاعاتٍ خَفيَّة أو ظاهرة، وضغوطٍ خارجية تقابلُها قُوى طَردٍ من الداخل، وكُلَّما شبّ أحد الشركاء عن الطَّوق وتضخَّمت طموحاته، لم يجِد ما يُصرّفها فيه سوى القناة المشتركة مع أشقائه.

وبهذا؛ صار البيت منصَّةً للاستعراض والتعبير عن ديناميكية الأحجام والإمكانات خارجه، وليس سقفًا يُظلِّلُ أبناءه ويُوظّف مجموعَ قُواهم لصالح القوَّة الجماعيّة الشاملة، ويأخذُ ويُعطى بمقادير محسوبة ومنضبطة، وبما يغنى الجميع ويُداويهم، ولا يترك بأسَهم بينهم، أو يجعل من اجتماعهم أداةَ شِقاقٍ وتقسيمٍ وإضعاف.
ولنكُن صُرحاء؛ فإنَّ بعض الأطراف ربما يرون أنفسَهم أكبرَ من منظومة العمل المشترك، أو أقدرَ على السير فى حقل الألغام دون معونةٍ منها، أو التزامٍ تجاه بقيَّة أعضائها.

وإن صحَّ ذلك جزئيًّا فى جانبٍ يخصُّ القُدرة العسكرية لطرفٍ، أو الوفرة المالية وإمكانات التنمية لدى غيره؛ فإنه لا يصحُّ على طُول الخطِّ، حال النظر إلى المنطقة ضمن عنوانٍ واحد، وبمنطق أنها مُترابطةٌ عضويًّا؛ ولو بدا التمايز صارخا بين مُكوِّناتها، أو فصلَتْ الخرائطُ فيها بين بيئات النار والاستقرار بخطوطٍ سميكة. إنه جسدٌ واحد تتداعى أعضاؤه، وما يوخز القدم ستتفجّر إشارة ألمه فى الرأس حتمًا.

القوّة تظلُّ مُحصّنةً بقُدرتها على الردع، والنهضة لا ضمانةَ لها إلَّا التشابُك وتعميق الصلات، وبحيث تكون المصلحة حزامًا وحائلاً بين المغامرين ونزواتهم، وأداةَ زَجرٍ تتعاظَمُ فاعليَّتُها؛ كلَّما تكشّفت آثارها وتداعياتها الثقيلة على الكلِّ المُترابط، بشكلٍ ينقلُ الخطر إلى الجزء؛ ولو توهَّم نفسَه بعيدًا أو فى مَأمنٍ من التقلُّبات.

تبدو الجامعةُ ضعيفةً، وقد لا تُلامُ فى هذا حقيقةً. لقد أُرِيدَ لها منذ البداية أن تكون مُنتدىً للدول الأعضاء، لا حلقة وسيطة وذات مفاعيل قيادية بينها. ومع الوقت؛ تحوَّلت لصيغةٍ تُشبه النادى الاجتماعى، تتلقَّى الضربات بدلاً عن المُتسبِّبين فى الأزمات أو المُقصِّرين عن التصدِّى لها، وإن تحقَّق شىءٌ يُرَدُّ الفَضلُ والامتنان إلى غيرها.

ميزانيّتُها تتخطَّى 60 مليون دولار سنويًّا، وهى قليلةٌ للغاية بالنظر إلى الحجم والدور المطلوب، وعاليةٌ جدًّا بالحساب على الحركة والتأثير الفعلى.
تحتاجُ إلى رَفدٍ بالموارد وإغناءٍ أكثر، وإلى مساراتِ تمويلٍ لا تتركها عُرضةً لتجاذُبات الدول بالعقاب أو تأخير المُساهمات؛ لكنها تحتاجُ قبل ذلك للإصلاح والتفعيل، وقيادة عمليَّةِ هيكلةٍ شاملة من داخلها، لا تستثنى موضوعًا ولا تتوقَّفُ أمامَ محظور، من أوَّل النظر فى الميثاق المُؤسِّس، وإلى آليَّة العمل واتخاذ القرارات، ومُواكبة القضايا بنَفَسٍ استقلالىٍّ لا تُخضِعُه مُشاكسات الأعضاء أو إملائهم.

ولا مُفارقةَ اليومَ أكبر من انعقاد القمَّة فى العراق، وأن تعود إليه الجامعة العربية بعدما تركته أو غابت عنه طويلاً. لم تلعب دورًا فاعلاً فيما قبل الحرب، ولا اشتبكت مع الغزو الأمريكى وتداعياته، وأشرفت على انتقال ورقته من واشنطن إلى طهران بصمتٍ وإحجامٍ عجيبين.

والمسألة نفسها فى سوريا، وقد شطبتها بتعليق العضوية خريف العام 2011، ثم أعادتها للأسد مُجدَّدًا، وتُواكب انتقالَها الخَشِن حاليًا من مقاعد المُتفرِّجين. وكذلك ليبيا بعدما وفَّرت الغطاءَ السياسىَّ لحلف الأطلسى «ناتو» كى يُسقِطَ نظامَ القذَّافى، ثم غابت مع الغائبين، وتركت البلاد الشاسعة مَرتعًا للاعبين الإقليميين والدوليين بميليشياتهم ونواياهم غير البريئة.

واليَمنُ يقترب من عَقدين على حال الفوضى، والسودان افتتح عامَه الثالث مع الحرب الأهلية، وما سُمِعَ لها صوتٌ خارج التحفُّظ والدعوات العاطلة، وما أطلقت مُبادرةً للحلِّ أو حتى للإحراج.

وكى لا يكون النقدُ مَسلكًا ساديًّا خالصًا؛ فالحقُّ أنها مُكبَّلةٌ بإرادة الدول وحكوماتها، وبالمصالح التى تنظر بعض العواصم منها إلى قضايا المنطقة، ثمَّ تفرضها على الجامعة وأمانتها ومرافقها.

وعلى تلك الحال؛ فإنها تظلُّ عُرضة للانتقادات بدلاً من غيرها، وقد يرى البعض أن تمويلها أقربُ إلى كُلفة الصمت، من كونه إسهامًا جماعيًّا فى بناء حاضنةٍ تُطرَحُ فيها الموضوعات للحسم لا الجدل، وللتحريك لا التعطيل.

وإن كُبِّلت بالمحاذير؛ فلا يُفهَم أن ترضخ بالارتضاء. على تلك الصورة؛ فإنها لا تضطلع بمهامّها، ولا تُعلِّق الجرسَ فى رقاب المَعنيِّين. كما لا يستفيد من الإسهامات الشحيحة الموجَّهة لها سوى الأمانة العامة، وهيكلها الإدارى، والوفود الإعلامية المُرافقة للفعاليات الدورية، وبعض المدعوّين لرحلات سياحة وترفيه مدفوعة.

والحقُّ أنَّ الترشيق يجب أن يبدأ من الأفكار والبرامج، وأن يتَّجه صوب التفعيل الكامل والمُتدرِّج بحسب الأحوال، مع العمل على التغيير الديناميكى الحثيث، ولو قاد إلى تقليصٍ يكون أَمضَى وأكثر فاعليَّةً، من زحامٍ لا يُنتج سوى التعطيل والانسداد الدائمين.

وإذ يَرُدُّ البعض على المُؤاخَذات بأنَّ مُندرجات القِمَم تكتسبُ فاعليَّتَها بالإجماع، والأخير يتحقَّق بالتمثيل العام من دون اعتراضات، ومهما كان المستوى المُمثَّل به كلُّ قُطرٍ؛ فالواقع أنَّ الغياب والحضور ليسا من قبيل التفاصيل المجانية، ويُفصحان عن أولويَّاتٍ قد تختلف أو تتمايز عن الشواغل الجماعية، وعن أُفق المنظمة والتزاماتها.

والقَصدُ هُنا؛ أن الرفض قد لا يأخذ شكلاً قطعيًّا واضحًا ومحسوما، إنما يُقفَزُ إليه من جهة خفض الحرارة وتقليص درجة المشاركة، بحيث لا يبدو البلدُ مُعترضًا أو رافضًا؛ لكنه فى الوقت نفسه لا يُبدِى حماسةً للمُخرَجات، وبطبيعة الحال فلن يجتهِدَ فى العمل على إنفاذها، أو الدفع بها فى المُقدِّمة بين رُزمة مواقفه وخياراته الذاتيَّة.

الجامعةُ أكبرُ عُمرًا من أغلب دول المنطقة، وقد يصحُّ السؤال هنا عن شيخوخة المرفق، أو اندفاعة الشباب والعافية لدى أعضائه. ومع توقُّع أن يسعى البعض للتخارُج منه أو تحييده؛ فإنه يظلُّ احتياجًا حقيقيًّا للإقليم ودُوَلِه كافّةً، مَنْ يَرون ذلك ومن يتعامَون عنه أو يجهلون حُجّيته.

والحلُّ ليس فى الصمت على محاولات التقويض، أو مُجاراة من يتطلَّعون لإفنائه بالذبول والاعتياد الرتيب؛ بل فى المُبادرة بطَرح رُؤىً إصلاحيَّةٍ خلّاقة، يُتَوَسّلُ فيها بالدول الكُبرى الفاعلة، وبالخبرات والكفاءات الدبلوماسية مِمَّن خدموا فيها أو فى فعاليَّاتٍ دوليَّة شبيهة.

وذلك؛ على أن يُرسَم المسارُ من خلال ورشة عملٍ مُوسَّعة، ويُعرَضَ على مُؤتمرٍ بصيغةٍ شبه تأسيسية، وأن يُترَك المجالُ للحوار من أجل تقريب الأفكار، وفرز المواقف والاختيارات، بحيث يكون مساحةً للكَشف بأكثر من كونها للإحراج، وللتفعيل بديلاً عن المُواءمة الرماديّة، ويُتَوخَّى منه إعادة القاطرة إلى مسارها القويم، وما يُفتَرَضُ أن تكون عليه، لا أن تُردَعَ بالتعطيل عن العمل، أو تُخطَفَ لمستوى المنصَّة الثانوية لغاياتٍ «فوق/ أو دون تكامُليَّة».

بصراحةٍ شديدة، ومن دون تفاخُرٍ أو مُكايدة؛ فقد أنقذ الرئيسُ السيسى بحضوره ما يُمكن إنقاذُه من قمَّة بغداد. وباعتباره قائد البلد الأكبر ديموغرافيا وجيوسياسيًّا، ودولة المقرّ ورافعة التأسيس؛ فقد أكَّد الحفاوة العربية بعودة العراق إلى حاضنته، وثبَّتَ الالتزام السياسى فى أرفع مستويات القيادة تجاه المُضَيِّف والضيوف، وعلى رأسهم فلسطين، وبقيَّة النطاقات المُتأجِّجة، بما يَعتَمِلُ فيها من نزاعاتٍ بَينيَّة وإقليمية.

وقد قدَّم بهذا نموذجًا عمليًّا على التجرُّد ومُوازنة الأمور، وتغليب المصالح الإقليمية فوق الاعتبارات القطرية، لا سيَّما أنَّ القاهرة تتقاطَعُ مع كلِّ الملفَّات الملتهبة فى المنطقة، ولم يُعرَف عنها أنها تقولُ عكسَ ما تفعل، أو تُصرِّحُ عَلنًا بخلاف ما تُمرِّر سرًّا.

ومن ثمَّ؛ فقد أكَّد السيسى بالمُشاركة أولويات اللحظة الاستثنائية والتزاماتها، وترك لبقيَّة الشركاء أن يُوازنوا مواقفهم كيفما شاءوا؛ إنما فى ضوء معيارٍ واحد واضح، وثوابت لا تحيد عنها أكبر دول المنطقة وأثقلها وزنًا واستقامةً خُلقيّة.

وعلى الجامعة أن تُمارس أدواها دون حرجٍ أو مُواءماتٍ مُعطِّلَة، وأن تشتبك مع القضايا بحقّها، ولا يردعها أنَّ القرارات تُتَّخَذُ بالإجماع؛ لأنَّ المُقاربات اليومية المندرجة ضمن منظومة قِيَم مُعلَنَة، وما لا يحتاج منها لقرارٍ أو إجراء تنفيذىٍّ، مِمَّا يسهُل التداخُل معه وتوسعة مجال الحركة، وإبقاء مسؤولية القبول أو الرفض والتضييق مُعلَّقة على أكتاف أصحابها.

والمَبعثُ هنا أنَّ الحسابات الخفيَّة كثيرًا ما تُوقعها فى تناقضات، أو تُغيِّبها عن أدوارٍ حيوية لا أحدَ أَولى منها بلعبها. إنها ترفض تهجير الفلسطينيين وتنصُّ عليه فى قراراتها، لكنها لا تلتفت إلى تسريب معلومات من أروقة الإدارة الأمريكية، بشأن بحثها فى إجلاء مليون من أهل غزة إلى ليبيا، وقبلَه الحديث عن ترحيل المهاجرين من الولايات المتحدة إليها، ثم ما تزامن مع ذلك من اشتعال الأوضاع فى العاصمة طرابلس، وإيحاءات أن يكون رئيس حكومتها عبد الحميد الدبيبة قد أبرم اتفاقات من فوق رأس الدولة.

وما فى الشمال لا يختلف كثيرًا عن جنوبه فى الدولة السودانية، ولا عن الشرق منها فى اليمن، بتعقيدات الماضى القريب أو سيولة الحاضر الكئيب.
كانت القِمَم استثنائيَّةً وظرفية منذ التأسيس؛ ثمَّ عرفَ العربُ انتظامَها مع مطلع الألفية. انضبط الإيقاع وخفُتَ الصوت والفاعلية. تعرَّضت فى شبابها للأيديولوجيا من أشد جوانبها طيشًا وخِفَّة، وتنقَّلت بين القومية من منظور أُمَمىٍّ خِلافى/ بمعنى الخلافة الدينية، ثمَّ على وجهٍ عِرقىٍّ ثقافى، ومنه للدول القُطرية بتحزباتها وانتماءاتها الضيقة؛ فآلت إلى عكس ما بُنيت لأجله.

استبقنا الأمم المتحدة لكنها تطورت وتجمّدنا، وبيننا والاتحاد الأوروبى أكثر من أربعة عقود، وقد صار عائلةً وما نزال قبائل متناحرة.
وبينما يخرج ترامب على مُؤسَّسة ما بعد الحرب العالمية، ويحلم اليمين الأوروبى بنَقض السقف الجامع؛ فقد عرفنا ذلك مُبكّرًا عنهم للأسف، وقبل أن يتحقَّق لنا ما حققوه من الجماعية والعمل المشترك؛ فكأننا نخرج قبل الدخول أصلاً، ونسعى للهدم دون إتمام البناء.

طبيعة الأعمال التجميعية أن ينزل فيها كلُّ طرفٍ عن شىء من إرادته للجهة الناظمة، وما الصورة الراهنة للجامعة؛ إذ تصغُر كلَّما كبُرت، وتضيق كلما اتّسعت؛ إلّا لأنها عُرضة للاستئساد عليها من الداخل، والإنكار والمناطحة؛ لأن البعض يختزلونها فى مصر صاحبة الفكرة والمقر.

ولا تعارض بين أن يكبُر اللاعبون فى فريقهم، وبه ومعه وله أيضًا. الترضيات والمجاملات وشراء الخواطر تزيدها ضعفًا، وتوافُقات الغُرَف المُغلقة مع الحلفاء أو الأعداء من الخارج، تُقدِّم صورةً سلبية وتطميعيّة عن الشاة الشاردة؛ مهما بلغ عنفوانها وقدرتها على العَدْو. المُنظّمة ضرورة لتمثيلها الحدِّ الأدنى من المشتركات، وإبقاء حائط صدٍّ يذود عن الجميع، وعن كلِّ فردٍ على حِدة، ولا يُمكن أن تُعوِّض عنها التبعية أو شراء الصداقات.

لم تكن قمة بغداد مثالية؛ لكنها مدخلٌ مِثالىٌّ لإثارة الأسئلة الجارحة، والتماس الأجوبة العاصمة من مآلات لن تصبَّ فى صالح أحد على الإطلاق.
وإذا كانت المشاركة فضيلةً؛ فالتوقُّف والنقد والتمحيص كلُّها فرائض، وإثارة الموضوعات على إزعاجها مِمَّا لا يقبل المُدارة والتأجيل. كيان أصغر وفعّال، أفضل من جسد ضخم مُعطّل أو منقوص الفاعلية.

تحرير الإقليم من استقطابات الماضى ضرورة: صمودٍ وتخلٍّ، مُمانَعةٍ واعتدال، وفرةٍ وشظف، حداثة ورجعية، ملكيات وجمهوريات، كلُّها ثنائيات تجاوزها الزمن، وتصطنع صراعاتٍ لا حاجة لها.

يجبُ ألَّا تظلَّ المُؤسَّسة مُلتقىً اجتماعيًّا، ولا أمانتها سكرتاريةً وسُعاةَ بريد، ولا أن تتحرّج من الاعتراف بالقصور، والعمل على الإصلاح، والاشتباك مع الأزمات والنزاعات البينية قبل الخارجية.

العرب فى مفصلٍ دقيق؛ كما قال السيسى فى كلمته. بعضهم يستشعرون، وآخرون قد تُغريهم الأضواء البرّاقة من بعيد؛ لكنَّ المشهد فى حاجةٍ ماسّة إلى وقفةٍ اضطراريَّة جادة؛ لأنه لا أحدَ يغرَقُ بمفرده؛ لو أُغرِقَت سفينةُ الجميع!

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

تنسيق الجامعات 2025.. استمرار إتاحة التقدم لحجز اختبارات القدرات

سياسات واستراتيجيات تنقل ذوى الهمم من التهميش إلى الإنتاج.. الدولة تضعهم فى قلب خطة لتمكين اقتصادى يفتح لهم أبواب الأمل.. تدريب مهنى فى محافظة أسيوط وتسليم ماكينات بعد تقييم اجتماعى للتأكد من الاستحقاق.. صور

اليوم.. السكة الحديد تشغل عربات فاخرة وVIP على خط الإسكندرية القاهرة المنيا

الحكومة الموريتانية تنفى لقاء الرئيس الغزوانى بنتنياهو فى واشنطن

غادة عبد الرازق تكشف عن تعرضها للإصابة وتجلس على كرسى متحرك


انفجارات عنيفة تدوي في مدينة جبلة السورية

طلاب الهندسة الحيوية بالإسكندرية ينجحون فى تصميم ذراع روبوت بـ6 درجات حرية.. "6-DOF" يُستخدم كمساعد لأطباء الجراحة فى المستشفيات.. تنفيذه يكلف نحو 22 ألف جنيه.. وأعضاء هيئة التدريس يشيدون بالمشروع.. صور

مواعيد مباريات اليوم السبت 12 - 7 - 2025 والقنوات الناقلة

إخماد حريق في هيش ومخلفات بكورنيش النيل بحلوان دون إصابات

مانشستر سيتي: هالاند يستمع إلى ألبوم عمرو دياب الجديد


هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل

موعد مباراة تشيلسي ضد بي إس جي فى نهائى كأس العالم للأندية 2025

أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. خامنئى يهدد باستهداف قاعدة العديد الأمريكية مرة أخرى.. الاحتلال ينبش المقابر فى خان يونس.. انفجار مستودع يضم ذخائر من مخلفات الحرب فى حلب السورية

العراق يرحب بإعلان "حزب العمال الكردستانى" بدء عملية تسليم السلاح

شقيق حامد حمدان: أخى فى حالة نفسية سيئة ومستعد للعب للزمالك دون شروط

فتح: على حماس التوقف عن وضع نفسها فوق السلطة الفلسطينية

استطلاع: زيارة نتنياهو الأخيرة إلى الولايات المتحدة أضرت بشعبيته

الخارجية الفرنسية: نجدد رفضنا القاطع لأى تهجير قسرى لسكان غزة

"أوديشن" مسابقة ملكة جمال مصر 2025.. أغلبية المتسابقات من طالبات الطب (صور)

الزمالك يفوز على أورانج بهدف نظيف فى أولى تجاربه الودية تحت قيادة فيريرا

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى