سعيد الشحات يكتب: إيلي كوهين.. الجاسوس الذي زرعته إسرائيل في سوريا.. روايات عديدة لكيفية افتضاح سره والقبض عليه.. ساحة المرجة شهدت إعدامه وجثته ظلت معلقة ساعات.. وإسرائيل حاولت استعادة رفاته طوال 60 عاما

أشرف علي البرنامج الغربي بالإذاعة السورية وعن طريقه بث رسائله باصطلاحات متفق عليها
كان يقرأ في البرنامج كل ليلة صفحة من قصة "روبنسون كروزو" باللغة الفرنسية التي يجيدها بطلاقة ويقرأ الجملة الأخيرة خطأ فتعلم المخابرات الإسرائيلية أنه علي مايرام أعماله
اعتقلته الأجهزة الأمنية السورية وأمرته أن يقرأ كما هو معتاد فلما وصل إلي الجملة الأخيرة قرأها قراءة صحيحة فتأكدت المخابرات الإسرائيلية بأنه تم القبض عليه.
ليس من المصادفة أن تعلن إسرائيل عن الاستيلاء علي أرشيف قضية جاسوسها في سورية إيلي كوهين في ذكري إعدامه يوم 18 مايو 1965 ، فطوال 60 عاما مضت حاولت بكل الوسائل وعبر وسطاء دوليين أن تحصل علي رفاته ومتعلقاته، لكنها كانت تصطدم بحائط الرفض القاطع، لهذا فمن المؤكد أنها اختارت أن تعلن عن خطوتها في هذا التاريخ لما يمثل لها رمزية خاصة، فلماذا يكتسب هذا الجاسوس أهمية تاريخية خاصة لدي إسرائيل، وماذا عن نشأته، وكيف تم زرعه في سوريا باسم "كامل أمين ثابت في عز سنوات الصراع مع إسرائيل.؟ وكيف تم القبض عليه.؟
من واقع اعترافات "إيلي كوهين" أمام المحكمة العسكرية في سوريا والتي بدأت محاكمته في يوم 1 مارس 1965 بعد أسابيع من القبض عليه، والتي نقلتها جريدة الأخبار في عددها يوم 2 مارس 1965 ، ولد "كوهين " في مدينة الإسكندرية عام 1924، وعاش ودرس فيها والتحق بجامعتها لدراسة الهندسة لكنه غادرها في ديسمبر 1956 بتأشيرة سفر إلي إيطاليا بلا عودة، وحصل علي هذه التاشيرة بسبب اتهامه في "فضيحة لافون" التي كشفت فيها أجهزة الأمن المصرية عن شبكة "يهودية" جندتها المخابرات الإسرائيلية للقيام بعمليات تخريب ضد منشآت أمريكية وبريطانية ومصرية عام 1954.
في اعترافاته أمام المحكمة العسكرية السورية، كشف عن أنه سافر في العام التالي "1957" إلي إسرائيل، ووافق علي العمل في المخابرات الإسرائيلية تحت ضغط الحاجة، واعترف أنه تدرب علي أعمال الجاسوسية، وتعلم الصلاة، وقراءة القرآن، ثم تسلم جواز سفر منتحلا اسم "كامل أمين ثابت".
يكشف "كوهين" في اعترافاته أمام المحكمة في ثاني أيام جلساتها "2 مارس 1965"، وفقا لجريدة الأخبار، يوم 3 مارس، أن رجال المخابرات الإسرائيلية ساعدوه علي السفر إلي الأرجنتين تمهيدا لزرعه في سوريا، واستخرجوا له جواز سفر أرجنتيني وبطاقة تحقيق شخصية عام 1961، وأنه تعامل هناك مع المغتربين السوريين وأقام علاقات وطيدة معهم، وأصبح عضوا في النادي الإسلامي في الأرجنتين، وتعرف في عاصمتها "بيونس إيرس" علي عبد اللطيف الخشن صاحب جريدة " العالم العربي" الذي قام بتعريفه علي أفراد من الجالية العربية في الأرجنتين.
ويكشف أنه دخل سوريا كمهاجر لبناني من الأرجنتين باسم كامل أمين ثابت، وأن رئيسه في هذه العملية اسمه "إبرهام"، وحين قبض عليه كان معه جهازين للإرسال اللاسلكي، وحزمة ديناميت، وأنبوبة تحتوي علي أقراص سامة حتي يستخدمها وقت شعوره بالخطر، وقال أنه في سوريا وخلال عامين استطاع تكوين علاقات وثيقة مع مسئولين سوريين، وكون شبكة تضم 63 شخصا من بينهم 17 سيدة، وكان يستخدم إذاعة دمشق الموجهة إلي المغتربين لبث رسائله بشفرة متفق عليها مع المسئولين عنه في تل أبيب.
4
قبل بداية المحاكمة بيوم واحد، نشرت الأخبار تحقيقا موسعا يوم 1 مارس 1965 بعنوان "كيف تم اكتشاف أخطر شبكة للجاسوسية الصهيونية في دمشق؟"، قالت فيه، أن "كامل أمين ثابت" الذي هو في الأصل "إيلي كوهين" تولي الإشراف علي البرنامج الغربي في الإذاعة السورية، وعن طريقه راح يبث رسائله باصطلاحات متفق عليها، وقيل أنه كان يقرأ في البرنامج كل ليلة صفحة من قصة "روبنسون كروزو" باللغة الفرنسية التي يجيدها بطلاقة، وكان يقرأ الجملة الأخيرة بصورة خاطئة فتعلم المخابرات الإسرائيلية أن أعماله تسير علي خير مايرام، فلما اعتقلته الأجهزة الأمنية السورية، أمرته أن يفعل ذلك، فلما وصل إلي الجملة الأخيرة التي يختتم بعدها الإذاعة قرأها قراءة صحيحة، فتأكدت المخابرات الإسرائيلية بأنه تم القبض عليه.
يبقي السؤال المهم وهو، من اكتشف هذا الجاسوس ؟..وماذا عن أول خيط أرشد عنه؟، وهناك أكثر من رواية في هذا الأمر، وإحدي هذه الروايات يذكرها أمين الحافظ الرئيس السوري وقتئذ في أحد حواراته التليفزيونية، قائلا، أن ضابطا قدم إليه ملفا عن رسائل مريبة تم التقاطها لكن لايعرفون من أي مكان يتم بثها من دمشق، وأنه بدوره تحدث مع خبراء سوفييت موجودين في سوريا فوفروا جهازا استطاع تحديد المكان، وداهمه رجال الأمن وفوجئوا بأنه "كامل أمين ثابت" ونفي "الحافظ" أن يكون تعرف عليه منذ أن كان ملحقا عسكريا في الأرجنتين، مما جعل الأبواب المغلقة تفتح له بعد أن أصبح رئيسا.
يأتي هذا النفي من "الحافظ" ردا علي ما ذكره البعض ومنهم الكاتب الصحفي محمد حسنين في كتابه "سنوات الانفجار" أن "كوهين" سافر إلى الأرجنتين بجواز سفر سورى وباسم "كامل أمين ثابت"، وهناك اندمج فى الجاليتين السورية واللبنانية، وأصبحت له شركة ملاحة وحسابات متعددة فى بنوك سويسرا والأرجنتين، وتكونت صداقة بينه وبين العقيد "أمين حافظ" الملحق العسكرى لسوريا فى الأرجنتين، والذى أصبح فيما بعد رئيسا لسوريا على أثر انقلاب عسكرى، وبعد أن تولى الرئاسة جاءه من الأرجنتين ليهنئه، وعرض "الحافظ" عليه أن يعود إلى سوريا ليستثمر فيها، ونصحه "الموساد" أن يبدى تردده قبل موافقته، وخلال فترة تردده كان يزور سوريا بانتظام، وعبر علاقته مع"أمين الحافظ" كانت كل الأبواب المغلقة تفتح له، وزار معه الجبهة الأمامية
6
أما الرواية الثانية، فهي للإعلامي والمذيع السوري الشهير عبدالهادي البكار وصاحب أشهر نداء أثناء العدوان الثلاثي عام 1956 حين قال عبر الإذاعة السورية: "من دمشق هنا القاهرة، هنا مصر من سورية، لبيك يامصر"، يذكر "البكار" في مذكراته "صفحات مجهولة من تاريخ سورية الحديث"، أن السفارة الهندية التي كان يقطن بجانبها "كوهين" كانت تشتكي من التشويش اللاسلكي المستمر، وتقدمت بشكوى للسلطات الأمنية السورية وعلى الفور إهتم العقيد / أحمد السويدان رئيس المخابرات الحربيه السورية بالأمر، وزادت شكوكه في أن يكون مصدرها " كامل أمين ثابت" حيث كان السويدان يتشكك دائماً في الصعود المستمر لنجوميته بين أوساط المجتمع السوري على كافة المستويات العليا، حتى أنه أي كوهين كان في تقاريره للموساد يشتكي من شك وريبة السويدان المستمرين له، حتى جاءت اللحظة المناسبة وبعد مراقبات مستمرة ودقيقة للتشويش تمكنت المخابرات السورية من الإيقاع بالجاسوس داخل مسكنه وبقيادة السويدان نفسه.
7
تبقي الرواية الثالثة وهي أقوي الروايات، وتذكرها "الأخبار المصرية" نقلا عن تحقيق "المحرر" اللبنانية، وتتفق في معظمها مع رواية الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الانفجار"، تقول الأخبار: "حدث أثناء زيارة الفريق علي عامر القائد العام للقوات العربية الموحدة إلي الجبهة السورية، أن "ثابت" كان بصحبة بعض أصدقائه الضباط، وكان مع الرائد سليم حاطوط المشرف علي الإذاعة والتليفزيون في دمشق، والتقط له بعض الضباط الصور التذكارية، ولما نشرت الصور لفت وجود شخص مدني بين الضباط أنظار الأجهزة المعنية في مصر، فاتصلت بنظيرتها السورية تسألها عن هذا الشخص، فأجابت أن اسمه "كامل أمين ثابت" وأنه من الشباب السوري الطليعي، لكن الأجهزة المصرية سرعان ما اكتشفت أنه ليس في الحقيقة سوي "إيلي كوهين" الذي سبق وتم القبض عليه والتحقيق مع في مصر أثناء "فضيحة لافون"، فأبلغت سوريا بالأمر فورا، فسارعت إلي اعتقاله
8
وتقول رواية "هيكل"، أن المخابرات المصرية وصلتها صور لزيارة أمين الحافظ إلى الجبهة، ولفت نظر ضابط مخابرات وجه شخص غريب فيها، وتم البحث عن حقيقته حتى توصل ضابط مخابرات فى مجال مكافحة الصهيونية إلى أنه "إيلى كوهين" الذى كان مراقبا فى مصر قبل خروجه منها، وعلى الفور سافر ضابط مخابرات مصرى رفيع إلى دمشق، ومعه ملف كامل بالموضوع، وعرض القصة كلها على العميد "أحمد سويدانى" قائد الأمن الداخلى بسوريا، ليتم القبض على الجاسوس، وذهب الرئيس السورى "أمين الحافظ" بنفسه إلى السجن العسكرى ليلتقى صديقه الذى تم اكتشافه جاسوسا لإسرائيل، لم تستغرق المقابلة أكثر من دقيقة، سأله فيها: "من أنت؟"، فأجاب: "إيلى كوهين من تل أبيب".
وأخيرا قضت المحكمة العسكرية التي حاكمته بإعدامه، وتم تنفيذ الحكم علنا فى ساحة "المرجة" بدمشق، وظلت جثته متدلية من الفجر حتى العاشرة صباحا، واعتبرته إسرائيل بطلا قوميا، وحاولت الحصول على رفاته لكن الحكومات السورية السابقة رفضت، وظلت علي رفضها طوال 60 عاما مضت.
Trending Plus