عن تطبيع لا يقوم مقام السلام.. أزمنة العروبة المقلوبة وإعادة إنتاج خطاياها فى 8 عقود

بقلم حازم حسين
الإثنين، 19 مايو 2025 02:00 م
عندما يُكرِّر الزمنُ نفسَه؛ يكون فى المرَّة الثانية مَلهاةً. ذلك أنَّ تراكُم الخبرات حينما لا يُفضى لشىءٍ ملموس، يُحوّل الدراما إلى حالةٍ من الابتذال، والدوران فى حلقات مُفرّغة، وإنتاج الأسوأ برِهاناتٍ، مُتتابعةٍ ومُتطابقةٍ تقريبًا، على ما ثبَتَ فشلُه من قبل.
الزمنُ سيّار، وكذا يُفتَرَضُ فى الخبرة أيضًا؛ إنما المُقاربة من نقطةٍ قديمة تُقيِّدُ وعىَ طرفٍ، بينما يتفجّر الآخر باقتراحاتٍ مُفارقة، ويُضيف إلى نصره السابق، حصيلةَ ما يتبدَّى فى الخصوم من هشاشةٍ لاحقة، وإقامة دائمةٍ فى مَواضيهم الغابرة، مع وَهمٍ بأنهم يتحرَّكون، فيما العقول مربوطة بعِقالها، ولا حراكَ هُناك ولا مَنْ يحزنون.
تشبّعتْ العروبةُ بثقافة الصحراء قرونًا، وفيها يمرُّ الوقت بطيئًا، وتتحدَّدُ معالمه بمساحات الظلِّ والنور العريضة فحسب. لا تُعرَفُ الساعاتُ وكسورُها، فضلاً على تشابه الأيام والأعوام.
وهكذا تمضى المواكبُ من حولها، بينما تُقيم على حالها الرتيبة، وتُعيدُ إنتاجَ تجاربها فى مُتواليةٍ دائريَّةٍ غالبًا.
كان يُكتَفَى من كلِّ سنةٍ بحدثٍ واحد، تصطبغُ به ويُسبِغُ عليها اسمًا أو صِفَة. والناس نيامٌ بطبعهم؛ فإذا ما ماتوا انتبهوا، وليس أقلَّ من خضَّةٍ كُبرى إن تعذّر الموت، أو ظنٍّ كبيرٍ أيضًا.
ولأننا نغفو ونصحو؛ فقد نتصوّر أننا عبرنا فى شرايين التقاويم، واكتسبنا وفرةً فى المعرفة وبسطة فى الجسم والمقدرة. مرايانا كثيرًا ما تكون خادعةً، ولا نرى الآخرين من زاويةٍ صحيحةٍ غالبًا، كما لا نرانا فى مراياهم على ميقاتٍ قويم.
أزمَتُنا الأعمقُ أننا نتعثَّر فيما أورَدَنا مواردَ التهلكة مرّةً بعد مرّة، ونُجرّبُ المُجرَّب لافتتانٍ بالذات، أو غرام بمحاربة طواحين الهواء. نبدأ الرحلة مع كلِّ دورة جديدةٍ من نقطة الصفر، ولا ننظر فى خرائط السابقين وشروحاتهم.
يندرُ أن نتطلَّع لما دون الأقدام، أو أنْ نُخطِّط لقُدَّامٍ، عامين أو ثلاثة؛ ناهيك عن أن يكون لعقدٍ أو عدَّة عقود. لذا؛ تتناسل النكبات من أرحام بعضها، وينقلبُ المنكوبون على ذواتهم بلا ذاكرة أو بصيرة.
ما كان مرفوضًا يصيرُ مرغوبًا دون مُبرِّر، والعكس، وما كان منصّةً للكَيْد والمُزايدة يتحوَّلُ فى غمضة عينٍ إلى فُرصةٍ للمُقايضة والانتفاع.
والأيديولوجيا إن كانت لعنةً فى وجهها البسيط؛ فألعَنُ منها أن يتحوَّل الصراع معها إلى عقيدةٍ قائمة بذاتها، مع القبض على الضدَّين: التحالف والقطيعة معًا؛ بزَعم الحياد حينًا، وبالتبدُّل بين المبدئيَّة والبراجماتية أحيانًا.
كان الصحفىُّ النمساوى تيودور هيرتزل يُلملم شتات مشروعه من العَدَم. يكادُ يحتكرُ الفكرةَ الصهيونية بكاملها، ويصحُّ أن تُنسَب إليه وحده، أو على الأقل قبل الآخرين جميعًا، من شُركاء وداعمين.
وفيما كان يُرتّبُ للانطلاقة على أُسُسٍ واضحة فى ذهنه وقتَها، قال خلال مُؤتمر الحركة الأول بالعام 1947؛ إن تطلُّعهم فى العمل ينصرفُ لإرساء كيانيَّةٍ يهودية نظامية فى غضون نصف القرن، وقُبَيل الموعد المُحدَّد سَلَفًا بنحو خمسة عشر أسبوعًا، كان حاييم وايزمان وديفيد بن جوريون ورفاقُهما يُعلنون عن قيامة إسرائيل.
مات الحالمُ والأبُ المُؤسِّس بعد سبع سنواتٍ من التصريح بحلمه، واكتمل ما كان يتمنّاه مع قليلين شاركوه الخيال، وأغلبيَّةٍ لم يَرَوه أو يمضُغوا معه مُفردات التنظير وملامح الدولة المأمولة فى جلسة واحدة.
مرَّت ذكرى النكبة قبل أيَّامٍ قليلة. لا أحدَ بيننا من ضحاياها إلَّا مَنْ كانوا أطفالاً أو ماء فى أصلاب آبائهم، ولا رائحةَ منها تعلَقُ بأثوابنا طبعًا، أو تنعكس على زجاج عيوننا جميعًا، ووعى القائمين مِنّا مقامَ الآباء فى زمانها.
خمسون عاما كانت المُؤامرة تُدَارُ، عَلنًا أو من وراء ظهورنا؛ فما استعددنا لها ولا حوَّطنا على البشر والحجر. وحينما اتُّخِذَ القرارُ مشمولاً بصيغته التنفيذية، تدفّقنا من الصفوف الخلفيَّة مُتأخِّرين عن عدوّنا المُتقدَّم جيلين كاملين.
كان يُرتِّبُ دولابَ الدولة فيما نتحضّر فى خيالاتنا المريضة للاشتباك مع عصابة، يبتلعُ الأرض ولا يعنينا إلَّا أن نُوقِّع بالحضور الخافت دون برنامجٍ تالٍ، وينظرُ إلى ما وراء الوجود، ولا نُغادر إقامتَنا المُريحةَ فى العدم. خسرنا قبل أن ندخُلَ الحربَ أصلاً، وكانت الرصاصة مِنّا وإلينا، وما فعلناه بالنار أننا أنضجنا للمُحتلِّ طبختَه الفاسدة.
وإذ لا يحقُّ لنا أن نُخرِجَ الحوادث من سياقها، ولا أن نُقَيِّمَ الماضى بوَعى الحاضر ورفاهته المعرفيّة؛ فالاعتبار إنما يبدأ من الفحص والفهم، وإقامة الحجَّة على الغابرين؛ كى لا نسقُطَ فيما سقطوا، ولا أن نعود اندفاعًا إلى ما ذهبوا إليه من دون رجعة.
والشِّكاية الأعظمُ اليومَ؛ أننا لم نفهم مآسينا على وجهٍ دقيق، ولا اتّعظنا بمَوعظَتِها، ويُصرُّ آحادٌ مِنَّا على اختزالها فى أطرافها المُباشرين حصرًا، والإصرار على أنها تَنُمُّ عن عجز السائرين فى الحلول الحارقة فقط، لا عن اختلال الموازين بين الدخيل والأصيل، أو طبيعة الأوَّل المحمولة على تُراثٍ طويل من العداوة والاختراق، قد يعود للحروب الصليبية، ووجيعة الثانى بعدما ضيّعته الشعاراتُ قرونًا، وأجهَزَتْ عليه فى زمن الخروج منها؛ فكأنه يُسدِّدُ الأثمانَ مرّتين، وبديمومةٍ لا تُمَلُّ وتنقطع.
تُرَدُّ المحنةُ لأسبابٍ شتّى، الاستعمار على رأسها قطعًا، والرخاوة العثمانية لا يُمكن استبعادها، وبرودة أعصاب الإقليم بينما كان العالم يتأجَّج حواليه. وقد تجوزُ تخطئة الحزام العربىِّ فى صبره الطويل وصمتِه الرمادىِّ المُحايد، وربما تخطئة الفلسطينيين أنفسِهم فى بعض سلوكيّاتهم، والنكاية بأثرٍ رَجعىٍّ فيمَنْ رفضوا قرارَ التقسيم، أو تصادموا معه بخشونةٍ لا يملكون مفاتيحها؛ حتى ضيّعوا ما كان مُتاحًا، وألقوه فى عُهدة المستحيل.
هذا وفقَ الوعى الراهن، ويُعَقَّبُ عليه مَنطقيًّا بالضرورة وأشراط الغيب؛ إنما لا سبيلَ اليومَ للتعقيب على اختراع نكبةٍ ثانية دون جاهزيَّةٍ أو منفعة، ولا بالذهاب إلى القسمة بعد أوانها، وبعدما تغيَّر السياق تمامًا، وانتفَتْ إمكانية التفعيل.
والقَولُ إنَّ ما فاتنا فى قطار مُنتَصَف القرن، يتيسَّر استدراكه فى القرن التالى رهانًا على حداثة القاطرة وامتلاء خزّانها بالوقود؛ إنما يُؤَشِّر على انفصالٍ عظيم وعميقٍ عن الواقع، وعُصابيّة تتسلّط على أمخاخ القائلين وخيالهم، فضلاً على المبالغة القياسية فى تقدير النفس والحَطِّ من الآخر المُتفوِّق.
وقد لا يُفهَمُ الطَّرحُ إلَّا على معنى الرغبة فى التفريط، والنزول عن حقوقٍ تخصُّ مُلّاكَها، وما الإغراق فى أحاديث العدالة والحلول من جانب البعض؛ إلَّا لقَصدٍ مُضمَرٍ فى التعمية على عُقدة الصراع، وإرخاء ستارٍ يُؤمِّنُ التخفِّى للعائدين من جبهة الإنكار والابتزاز، لائذِين بحياض الدفء بالعدوِّ، وشراء صداقة رُعاته وداعميه الكبار.
كانت مصرُ واضحةً للغاية فى كلمتها أمامَ القمَّة العربية الرابعة والثلاثين بالعراق، أوَّل من أمس السبت، ناطقةً على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسى بالقول الفصل؛ أنه «حتى لو نجحت إسرائيل فى إبرام اتفاقيات تطبيعٍ مع كلِّ الدول العربية؛ فإنَّ السلام العادل والشامل والدائم سيظلُّ بعيدَ المنال؛ ما لم تُقَم الدولة الفلسطينية المُستقلّة وفقَ قرارات الشرعية الدولية».
والقَصدُ إنما يذهبُ إلى النصح من مغبَّة اختزال المسائل الكُبرى فى عناوين صغيرة وهامشية، فيما لا يخلو من تحذيرٍ تطفُر منه خبراتُ الماضى وتجاربه، مُؤسَّسةً على حقيقة أنَّ الدولة العِبريَّة لا يُمكن أن تكون كيانًا طبيعيًّا فى المنطقة؛ ما لم تحترِمْ شرطَ تخليقها، بالمادّة التى نَصَّ عليها صانعوها من عَدَمٍ وظُلمٍ كامِلَيْن.
إنّها ما دخلت الإقليم إلَّا من بوّابة فلسطين الجريحة، ولا سبيلَ لأن تمتزج فيه وتكون عضوًا صالحًا؛ هذا لو افترضنا فيها الإمكانيَّةَ أصلاً؛ إلَّا بأن تستدرِكَ على اصطناعها الخَشِن بإبداء النيَّة والقابلية للمُهادنة والتعايش، وأن تُعيد تحرير شهادة ميلادها، بما لا يجعلها بؤرةَ نارٍ دائمة، وتعبيرًا مفتوحا عن التوحُّش المُفرِط، والنَّهَم الذى لا ينطفئ.
وعلى صراحة ما فات وقسوته؛ فإنه يخدشُ بعض الوجوه الساعية للاستقالة من أدوارها الإلزامية، والشطب على القضية بعدما تاجرت بها، واستثمرت فى تأجيجها زمنًا؛ بالمُباشر أو من وراء ستارٍ، وربما بالصمت المُقرّ.
والردُّ المُتوقَّع من تلك الدائرة وأشباهها، أنَّ القاهرة تستنكف التطبيع بينما استبَقَتْ الآخرين إليه، وتصُدُّ غيرَ المُعترفين بإسرائيل عن طريقها؛ وقد اعترفت بها قبل ما يزيد على أربعة عقود.
وبقَدر ما يتوهَّمُ السُذّج والخفيفون منهم بعضَ الوجاهة فى ذاك القول، وما يتَّصل به أو يتفرّع عنه؛ فإنهم يعودون من طرفٍ خَفىٍّ إلى مُنزلَق الابتذال والتسطيح، وألاعيب الاختزال وتبسيط القضايا، والأهمّ أنهم يتورَّطون من حيث لا يقصدون فى شىءٍ من الدائرية اللعينة.
والإلزامُ المُشار إليه سَابقًا بحقّهم؛ إنما يعود إلى أنهم انتزعوا فلسطين مُبكِّرًا من أهلها، ووظَّفوها أداةً فى مُناكفات الأيديولوجيا، وصراعات المحاور والأحلاف.
ولا ينحصر الأمر هُنا فى اجتذاب حركة فتح ومنظَّمة التحرير وزعيمهما ياسر عرفات قبلاً، ولا إرساء ركائز حماس ودعمها وتمويلها لاحقًا؛ بل يمتدُّ إلى مجالٍ واسع من التديين والنمذجة الطائفية والمذهبية، وإطلاق موجةٍ واسعة من الأُصوليَّة والصحوات على امتداد المنطقة.
وتلك الموجةُ، كان من نتائجها المُباشرة نخر العُمُد العربية من داخلها، وتقسيم العائلة الواحدة أو إشغالها بالجزئيَّات، أمَّا النتائج غير المُباشرة فقد صبّت فى صالح العدو الذى يصيرُ حبيبًا الآن أو يقترب، وتمكينه من تجذير رُؤاه وتفعيل ماكيناتها، والوصول لأهدافه العدائية من أيسر الطُّرق وأسرعها، وصولاً لإعلان سيادته فى مُقبلٍ غير بعيد، وإدخالهم جميعًا فى عصمته جبرًا أو اختيارًا.
لُعِبَ بالفلسطينيين طويلاً لغايات عديدة، رديئة ومُتضادة فى كثير من الأحيان. وحدث فى أوقاتٍ كثيرة أن كان الشعبُ الواحد يُصلّى فى عواصم شتّى، ويقبض منها أيضا؛ لا لشىءٍ إلَّا أن يخدم المُموِّل أو يُخرِّب على مُنافسيه، وأن يكون رصاصةً فى بندقيَّةٍ مُستأجَرة.
وفيما كان الخزّان العظيم بين النهر والبحر يموج، وتتلاطَمُ أمواجُه معًا، نُشِّطَ الاستثمار فى الرجعية الدينية إلى آخره، من الإخوان فى مصر إلى الإماميَّة الزيدية فى اليمن، وفى الأُولى شُغِلَت الناصريَّةُ بمسألةٍ داخليَّة مقيتةٍ بغرض الإرباك، وفى الثانية أُدخِلَت فى صراعٍ ساخنٍ لأجل التعويق.
صحيح أنه لا يُمكن إغفال خطايا عبد الناصر نفسِه، والاستخفاف بالوقائع ومدلولاتها حتى داهمته الهزيمة واقتحمت عليه بيته؛ إلَّا أن الدراما لم تخلُ من خطوطٍ ثانوية، وتحريك ناعمٍ عبر أدوات مدفوعة السعر، ظلَّت على مُحايثتِها الساعية لتقليم أظفار الأخ الأكبر، وتجلّت بأوضح صُوَرها في الانتقالات الحادّة والمُتعجّلة، من لاءات السودان الثلاثة صيف 1967، إلى تخوين رجال الجبهة وقائدهم بعد ثلاث سنوات مع القبول بُمبادرة روجرز.
ما كان العربُ جميعًا فى سلّةٍ واحدة بالتأكيد؛ لكنَّ حدود التمايز كانت ضئيلةً، وتختلف فى الشكل بأكثر من اختلافها فى المضمون. دُعِم الساداتُ فى سياق الثأر من ناصر، ثم قُوطِع عقابًا على ديناميكيته السياسية وبحثه عن الخلاص لبلده ومجتمعه، وأخيرًا قتلته الأدوات التى كانت طابورًا خامسًا فى محيطه القريب، وانتفعت عقودًا بالتدفُّقات المالية المشمولة بإملاءات عقائدية ذات طابع سوسيوثقافى وسياسى.
ما يعنى؛ أن الذين عرّبوا القضية أو ديّنوها كانوا شركاء فى دمِ الرجل، ولو من مسربٍ جانبىٍّ خارج الاتفاق والتوجيه الموقوت، والعودة من طريق الأذى راهنًا تستوجب الاعتذار عمَّا سلفَ منها أوّلاً، والاشتغال على التصويب. وعُقدته وحلُّها أن تُحرَّر قضية فلسطين من رواسب الاستقطاب القديم، وألَّا تُترَك عِظامًا فى العراء بعدما أُكِلَ لحمُها بكلِّ صور الاستتباع والاحتيال.
ولا يستقيمُ أن تُلام الدول الستّة التى حاربت فى النكبة الأُولى، ثم يُعاد لَومها عندما تمشى إلى التسوية السلمية، وقد اختبرت بدائلَها بالنار والدم ولحمِ الحىِّ. فيما الواقفون من بعيدٍ يُقيّمون القديم والجديد، ويُطلقون الأحكام على عواهنها وعِلَّاتها؛ ثم يمضون فى مساراتٍ مُخلّقةٍ عشوائيًّا، ولا وجاهة لها فى الراهن، كما أنها تتصادَمُ مع سوابق مواقفهم، وما سَعَوا لفَرضه على الآخرين بالإملاء والإغراء، أو وظّفوه لاختصامهم والحَطِّ من مكانتهم بالابتزار والمكايدة.
وبهذا؛ لا يصير التطبيع تعويضًا عن حرب العام 1948، ولا دخولاً فى مسار السلام الساداتى الذى استهجنوه وصوّبوا عليه بكلِّ الأسلحة المُمكنة، بقدر ما يهيل التراب على الميدان وغُرَف التفاوض معًا؛ فيُهدر الدم ولا يقبض على خيطٍ من العدالة بالسياسة أو القانون، ويُقدّم ترضيةً للفائز تفوق ما اقتطعه بالمخالب والأنياب، وتُفرِّط فيما ليس فى أيديهم ولا يحقُّ لهم التفريط فيه.
والمُقابلة الآن بين حالة السادات، وحالات من يتوسّلون طريقَه دون سداد الأعباء نفسها؛ إنما يتأتَّى من خفَّة وَعىٍ واستخفاف بالسياق، ومن غيابٍ للسويّة النفسية والعقلية. ذلك أنَّ الرجل ذهب إلى ما ذهب إليه بعد قتالٍ وانتصار، واستعاد فيه الأرض وضمن سلامتها عقودًا تالية.
والمعنى أنه كان مُضطرًّا؛ لكنه استبق الاضطرار بالاقتدار. فيما يتلمّس الذين يحاكونه اليوم أثر الفائدة دون مخاصمة أصلاً، ومن دون تبرير الاستعجال فيها، أو تقديم ما يُحصّنها من أن تكون تنازلاً مجّانيًّا، أو تفريطا خالصًا.
وفى هذا لا تنوب المنفعة الاقتصادية عن الاعتبارات الجيوسياسية؛ لأنهم أدخلوا أنفسَهم فى الصراع اختياريًّا فيما مضى، ولأنَّ تشبيك مصالحهم مع العدوِّ حاليًا يُضيف للظالم على حساب المظلوم، ويُخرج الأخير من المُعادلة كلِّها مرَّة وللأبد، وليس من رحمة الرُّعاة والتجّار القُدامى فحسب.
أراد ترامب فى ولايته الأُولى أن يُحِلَّ الاقتصاد بديلاً عن السياسة والقانون. وفكرته أنَّ ربط المنطقة فى شبكاتٍ وتحالفات مالية وتجارية، قد يصرف الأنظار عن المسألة الفلسطينية أوّلاً، ثم يجعل التهدئة اختيارًا اقتناعيًّا ناشئًا عن المنافع والأولويات القُطرية.
والطرح قد يصح فى أيَّة بيئةٍ مُلتهبة حول العالم؛ إلَّا لدى العرب ومع قضيَّتهم الكُبرى وجرحهم المفتوح منذ ثمانية عقود. ذلك أنَّ شرعية النظام الإقليمى انبَنَت على الصراع مع الحركة الصهيونية، وزِيْدَ فيها لدرجةِ أنه ما عاد بالإمكان أن تنعقد الريادةُ لأحدٍ؛ ما لم يتوصَّل إلى وسيلةٍ تُعيد الحقوق وتُداوى مواجع الماضى وخطاياه.
والتركيبة بصورتها الحالية لم تُفرَض على المجموع غصبًا، ولا مُرِّرَت من فوق رؤوسهم؛ بل اختاروها وانحازوا إليها وتلاعبوا بها بإراداتٍ ذاتيَّة مُستقلّة، وتكفَّل البُعد الدينى بتحويلها إلى ثابتٍ مُقدَّس، لا سيما بين مجتمعاتٍ تأسَّست فيها رمزية القيادة على ركائز قومية أو عقائدية.
وبهذا، بدت أطروحة الرئيس الأمريكى كأنها تُفخِّخ البيت من جذور أعمدته، وبقدر ما فيها من مغرياتٍ؛ فإنها مُطوَّقةٌ من أرجائها بالمخاطر والمحاذير.
والحال؛ أنَّ حماس سعت لقطع الطريق على اتساع الدائرة الإبراهيمية. ولا فارقَ بين أن تكون بادرت، أو أُملِىَ القرارُ عليها خارجيًّا من حلفاء المُمانَعة والشيعية المُسلَّحة. كانت عملية الطوفان قصفًا لفكرة السلام الاقتصادى، وليست عملاً نضاليًّا ضد المُحتلّ فى مُستوطنات غلاف غزَّة.
والمُؤكَّد أنهم كانوا يعرفون حجم المغامرة، ويتوقّعون الارتدادات المُحتَمَلة عنها، سواء داعبَ خيالَهم أن يديروا صفقة تبادُلِ رهائن ناجحة مثل تجربة شاليط بالعام 2011، أو أن تتَّسع حلقةُ النار لتُسقط آخرين يشاركونهم المأساة بما يتجاوز العاطفة.
كانت التحرُّك شبيهًا بالنكبة الأولى دون استيعابٍ للفوارق وحركية الزمن، وما أُدير سابقًا عليه ويتواصل فى سياق النمذجة المالية لعملية التعايش والسلام، يُشبه الهندسة العكسية للحرب؛ كما لو أنَّ صاحب القرار هنا ينحاز للاختيار المُنكَر قبل سبعٍ وسبعين سنة؛ مُتجاهلاً أيضًا أنَّ الأرض غير الأرض والزمن غير الزمن.
مأخَذُ الـ48 ليس فى الحرب نفسها؛ بل فى إغفال السياق والتوازنات، والعودة المقلوبة إليها راهنًا إنما تُجدِّد خطاياها دون رسائلها الحاسمة، وتبدو كما لو أنها تُسدِّد الأثمان أوّلاً. وبهذا؛ يبدو التطبيع أقرب للإذعان وشراء الصداقة والأمان، وليس علاقةً ندّية ناشئة عن حاجة مُتبادَلة أو مُعادلة جيوسياسية قويمة.
وفيما يُلام السادات حتى الساعة؛ ويُساق الجولانى أو أحمد الشرع إلى مذبح التطبيع، من دون أُفق للتسوية أو استعادة الأرض، فإن من يَطلُب منه ذلك أو يفرضُه عليه، يُشوّه الصِّلَة ويُحرّف الصراع، ويجعل الاحتلال سؤالاً ثانويًّا، وإن قُبِل شمالاً من الحليف، فلا مانع من قبوله جنوبًا مع العدو، وتلك صيغةُ علاقةٍ آثمة، أو زواجٍ عُرفىٍّ فى أفضل توصيفٍ؛ لا استقامة وطنية أو رشاد سياسى.
تُشتَمُّ رائحة حلف بغداد؛ لتتّسع الشقوق فى الجسد العربى بأيدى أبنائه. تصيرُ النزعة الجهاديّة شريكًا مُرحّبًا به، فيما يُغفَل أنَّ نكبة الحوثى القائمة يُمكن رَدُّها إلى اللعب المُراهق بالمفاتيح الزيدية قديمًا. واندفاعة الأصوليّات تُهدِّد بإنتاج زمنِها بمنطقها، وكما قُتل السادات بعد تحالُفه مع أحد أجنحتها، فلا أحد خارج مجال التكفير والشطب.
وفيما لا تختلف حماس بطوفانها، عمَّن يتوخّون شطب القضية بنعومة لزجة؛ فإن السيولة الحاكمة للمشهد تُدخل كل شىء فى نقيضه؛ فتنقسم الراديكاليات على نفسها بين صديق وغريم، وتنشقّ المُمانعة، ويصير الاعتدال نفسه تيّارين أو أكثر. يُنافح أحدهما عن الأصول الركينة، ويسعى الآخر وراء أصوليّات مُستترة، ومطامع فى تخليق بديلٍ من الغرف المغلقة والتوافقات المُلفّقة.
وبهذا؛ فالمنطقة ذاهبة إلى مجهول أعظم مِمَّا كان فى كل مراحلها. ذلك أنه لا سلاح يُعوَّل عليه، ولا وفاق يسدُّ مسدَّه، بينما لا يقوم التطبيع بنسخته المطروحة مقام السياسة؛ وليس حتى السلام المأمول. مُجرَّد إعادة إنتاج للماضى بنُسخٍ أشد تشوّهًا، ونزول إلى المستنقع نفسه؛ لأن بعض الأطراف يعتبرون ولادتهم تصويبا للتاريخ، أو مُنطلقًا لتأريخ جديد.

Trending Plus