مهرجان دوامة.. تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا

هكذا كان صلاح جاهين يحلم بأن تذهب الثقافة إلى القرية لتؤدي دورها ليس فقط على مستوى التعليم والمعلومات لكن كذلك على مستوى درجة الوعي بالعالم المحيط والتعامل معه، كان يحلم باليوم الذي تصل فيه الثقافة إلى القرية بوصفها المكون الأكبر لهذا الوطن، وأن تسهم الثقافة في إضافة صفة حميدة جديدة إلى صفات الريف المتكاتف المتعاون الحريص على بقاء إنسانيته شفافة ونقية، وربما لذلك اشترى بيتا ريفيا وأرضا زراعية في قرية اشكر بالقرب من فاقوس بالشرقية.
وبالقرب من فاقوس كذلك ظهر واحد من أبناء الريف المخلصين، فلاح كما يحب أن يقول عن نفسه، لكنه فلاح فصيح من نوع معاصر، هو هيثم عبد ربه السيد، مدرس اللغة الإنجليزية الذي عشق القراءة من صغره فتحول إلى كاتب مبدع، لكنه لقربه من تلاميذه في سن الابتدائي والإعدادي عشق أن ينقل إليهم متعته بالقراءة فبدأ منذ سنوات مبادرة عربية الحواديت التي وزع فيها أكثر من مائتي ألف كتاب مجاني على أطفال القرى وتجول ليلتقي بهم مباشرة ويحكي لهم، فكان لهذه المبادرة أثرها الكبير الذي نال عنه هيثم تكريما رئاسيا حيث كرمه الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2019.
وفي تطوير للفكرة تحولت العربة المتجولة إلى عربات تقصد في طقس سنوي قرية دوامة، مسقط رأس هيثم ومحل سكنه التي اختار أن يقيم فيها مهرجانا ثقافيا سنويا أقام هذا العام منذ أيام دورته الرابعة، في زخم شديد حيث معرض الكتب والحفلات الغنائية وندوات الحكي والندوات الفكرية وورش تعليم التصوير والرسم والكاريكاتير والكتابة الإبداعية والمسرح وغيرها، كلها ورش تتم في جوار الحقول ويحضرها أبناء القرية الذين احتشدوا جميعا ليتعلموا ويستمتعوا في صورة لم يسبق لها مثيل ولم تتكرر إلا في قرية أخرى وحيدة هي ميت موسى بمحافظة المنوفية، بتنظيم هيثم السيد أيضا.
تلك الفعاليات المتنوعة في يوم واحد تمت كلها بجهد هيثم السيد وإمكاناته البسيطة وبمساعدة أهل قريته الذين اقتنعوا بأهمية هذا الحدث الذي صار طقسا سنويا يشبه المولد في زحامه لكنه يعتمد الإبداع والثقافة والوعي والتنوير أسسا لإقامته، هكذا دون أدنى مساعدة رسمية، مما يجعل التساؤل مطروحا: إذا كان فرد واحد استطاع بإيمانه بالفكرة إقامة حدث ثقافي بهذا المستوى من الدقة في التنظيم وبأقل الإمكانات، فكيف لا يكون مثل هذا الحدث نموذجا تحاول المؤسسات الثقافية الرسمية دعمه ثم الاحتذاء به بدلا من حبسها لنفسها وأنشطتها داخل جدران صماء لا يعترف بها أبناء القرى ولا يتماسون معها إلا فيما ندر؟ ولماذا لا تهتم تلك المؤسسات بدراسة واقع القرى ومسايرتها بمثل هذا الحدث؟ ثم لماذا لا يتم الاستعانة بصاحب هذه التجربة لتعميمها على القرى في كافة أنحاء الريف بدلا من الأنشطة التقليدية المكررة التي تقوم بها تلك المؤسسات؟
ثم لماذا لا يقوم رجال الأعمال والشركات والبنوك بتبني مثل هذه المبادرات وتعميمها خاصة إذا كانت هي الملاذ الأهم الذي يحمي أولادنا من الوقوع في براثن أفكار التطرف من ناحية ومسخ الهوية من ناحية أخرى.
إن مهرجان دوامة الثقافة نموذج قام بعد عقود طويلة بتحقيق حلم طالما تغنينا به بأن يكون للثقافة الراقية مكانا في ريفنا وهو حلم قريب بل قريب جدا إذا حاولنا تقليد ذلك النموذج البديع.
Trending Plus