جزرة الجولانى ووثائق إيلى كوهين.. من وهم الشرعية لوفاق الأعداء على ذاكرة سوريا

فُتِحَت الخزائنُ، وأُخرِجَت المصارينُ من البطن. الجغرافيا مكشوفةٌ للعدوِّ والصديق، والديموغرافيا سائلةٌ وتتلاطَمُ مُكوِّناتها فى إناءٍ مُحكَم الإغلاق، والذاكرة معروضةٌ فى الطريق.
يُعاد تشكيلُ سوريا على وجهٍ لا يُشبه ماضيها الطويل؛ حتى فى محطّاته الناصعة، كما لا يحترم حاضرَها المُتنوِّع الثرىّ. كان الأسدُ حجابًا ثقيلاً على عَينَى الدولة، وصار «الجولانى/ الشرع» خنجرًا فى خاصرتها. كلاهما نظرَ للمسألة الوطنية من منظور الأيديولوجيا، واختزل الكُلَّ فى الجزء، ووضعَ المصلحةَ الشخصيَّةَ فوق الشاغل العام.
والبؤسُ كلُّه أن تُوظَّفَ خطايا السابق، لتمرير دناوة اللاحق، وأن يُعوَّضَ عن التقصير الجديد بقياسِه إلى القديم، واتّخاذ الإخفاق ذريعةً، بدلاً من اعتباره إلزامًا وقتيًّا عاجلاً بالنظرة الجادّة والتصويب الأمين.
كأننا إزاءَ نُسخةٍ بَعثيَّةٍ ثانية، يتبدَّلُ الشكل فيها ولا يختلف المضمون، فتنتقل رايةُ الطائفيَّة من الأقليَّة إلى الأغلبيَّة، ويأخذ التفريطُ صُوَرًا مُحدّثةً تحت دعاوى الضرورة والإنقاذ، ويُستعَاضُ عن وصايةِ المُمانَعة بآخرين من لونٍ مُغايرٍ؛ لكنهم يظلّون أوصياء كسابقيهم فى كلِّ الأحوال.
تتمشَّى الإدارةُ الجديدة فى شهرها السادس. قدّمت وعودًا وتحصّلت على وعود، ويتسارَعُ إيقاعُها مع الخارج بأضعاف ما هو عليه فى الداخل، فيما يبدو أنه رهانٌ على الرعاية الإقليمية والدولية قبل الحاضنة الشعبية.
وإذ يقولُ قائلٌ إنَّ الوقتَ قصيرٌ نِسبيًّا، والتجربة ما تزالُ فى بدايتها، بما يتعذّر معه التقييم والإغلاظ فى النقد؛ فالواقع أنَّ وتيرةَ الحركة لا تُنبئ عن رغبةٍ إصلاحيَّة حقيقية حتى الساعة، وتُرتِّبُ السِّلْمَ الاجتماعىَّ ومناعةَ الجبهة الشعبية فى مَوقعٍ مُتأخَّرٍ بين أولويَّاتها.
التحدِّياتُ ثقيلةٌ قَطعًا، وكان الكيان مريضًا لعقودٍ؛ لكنَّ إخراجَه من غُرفة العَزل والرعاية المُركَّزة قبل تمام الشفاء، أو ضمان ألَّا تتطوَّر العدوى وتستفحل، ينصرفُ فى دلالاته إلى تقديم رغبات النظام على احتياجات الشارع، وانعقاد الشرعيَّة فى وَعيه بالقبول والمُباركة مِمَّا وراء الحدود، ليصير الواقعون فيها مُجبَرين على الإذعان لاحقًا، أو المُواجهة من مواقع غير مُتكافئةٍ على الإطلاق.
يعيشُ الجولانى، أو «الشرع» حسبما اتُّفِقَ على تسويقه سياسيًّا ودعائيًّا، فى مرحلةٍ مُلتبِسةٍ بين الثورة والدولة، ويُصرِّح بالانتقال بينهما وما يزالُ على صِفَته الأولى؛ باستثناء اللحية المُهذّبة ورابطة العنق.
يستندُ بإطلاقٍ إلى المشروعية الناشئة عن إسقاط النظام الأسدى، ويُقدِّمُ نفسَه قائدًا لبديلٍ وطنٍّى يُغادر حظيرة السلاح إلى فضاء السياسة. فُرِضَت عليه مُقدِّماتٌ، وانتقى غيرَها بإرادةٍ خالصة.
وبينما كان الطرفَ الجاهزَ لاستلام مقاليد الحُكم، وربما اضطرته الظروف لاحتكار المشهد مع فريقه خلال افتتاحية شهور الانتقال؛ فإنَّ تلفيقَ طاولة حوارٍ مُشوَّهة لم يكن عملاً مُبرَّرًا بالمرّة، ثمَّ اللجنة الدستورية ونصُّها المُعتلُّ، واقتطاعه حقَّ تعيين الهيئة التشريعية ونقض قراراتها، وإرساء المحكمة العُليا، وقيادة الحكومة والانفراد بتعيين أعضائها وإقالتهم، وكل هذا فى سياق مرحلةٍ مؤقّتةٍ وعدَ بأن تكون لثلاث سنوات، ثم مَدّدها بغطرسة لِمَا يقربُ من الضعف.
شموليَّةٌ تُرسَى دعائمُها على أعين الثوَّار والغاضبين؛ غير أنها من دون الأسد وبعثيّته العَلَويَّة، وتحت ستارِ بَعثيّةٍ جهاديَّة عُثمانيَّة، وطائفيَّةٍ سُنّيّةٍ تُوظِّفُ فائضَ العدد ضدَّ بقيَّة الأطياف داخل الهُويّة الجامعة، قبل أن تنقلب على نفسِها وتأكُلَ جمهورها المُتأجِّج؛ كما جَرَت العادةُ فى كلِّ التجارب الشبيهة.
وإن لم يكن مطلوبًا من الصاعدين على أنقاض البلد، وأطلال مأساته العظيمة، أن يصنعوا فردوسًا مفقودًا فى غمضةِ عَينٍ؛ فليس مقبولاً منهم أنْ يُؤبِّدوا الجحيمَ أو يمنحوه هياكل بنيويَّة صالحة للإقامة الدائمة.
يُدَانُ الأسلافُ بالديكتاتورية وقتل المناوئين والمختلفين، وبالتفريط فى الثوابت والأُصول الوطنية، والاستتباع لصالح أجنداتٍ «فوق سوريَّة» تُحوِّلُ الأصيلَ إلى وكيل، ويصيرُ البلدُ فيها مَمرًّا لا مُستقرًّا، ورصاصةً مدفوعةً فى بندقيَّةٍ مُستأجَرة بهالةٍ ميليشاويّة. والحقُّ أنَّ الخَلَفَ ما غيَّر حرفًا، ولا شذَّ فى نغمةٍ واحدةٍ عن الإيقاع.
وباستناده للشرعيَّة الأَسَديَّة؛ مُمثَّلة فى إسقاط النظام؛ فإنه يُراهِنُ على ارتضاء الناس رغبةً ورهبةً، وتغليبًا لفكرة أنَّ أىَّ بديلٍ لن يكون أسوأ ممَّا فات. وفيما تقومُ ساقُه الثانية على طرد إيران؛ فإنه يُسوِّغُ استباقيًّا حاجتَه لِمَن يملأُ الفراغ، ويُمسك بالخيوط المُنتَزَعة من أصابع الملالى وحرسهم الثورى، على النهج المُعتاد وبالكيفية ذاتها.
وبين هذا وذاك؛ يُعاد تعديل النظرة إلى العدوِّ الجنوبىِّ المُستأسِد، فلا تتحرَّرُ الأرضُ ولا يُدَانُ الاحتلال،ُ صراحةً وبنَفَس تحرُّرى قاطع، وتكتسبُ العلاقةُ أبعادًا جديدةً ومُركَّبةً تحت سقف المُواءمة، وفى ظُلمة الكواليس والقنوات الخلفية.
عاد إيلى كوهين إلى فلسطين المُحتلَّة مَعنويًّا، والصهاينة فى انتظار الهدية الكاملة بإعادة رُفاته قريبًا. كان صادمًا للمُتابعين أن يُعلِنَ نتنياهو، ظهيرة الأحد، عن نجاحهم فى استعادة نحو 2500 وثيقة تخصُّ الجاسوس السابق، فيما وصفَه بالعملية الاستخبارية النوعية بالتعاون مع جهازٍ شريك؛ وكلّ لبيبٍ يفهم من الإشارة هُويّة الجهاز وعنوانَ الشراكة.
والصدمة هُنا ليست فى طبيعة الغنيمة، من حيث كونها أوراقًا ومعلوماتٍ يسهُل نَسخُها، ويُحتَمَلُ أنَّ لدى الأجهزة السورية وغيرها أراشيفَ كاملةً عنها؛ بل فى المُضمَر من وراء الصفقة عن تركيبة النظام الجديد، ونظرته للبلد ومصالحه، ولمجاله الحيوىِّ ودوائر عدائه.
وكذلك فيما يخصُّ حدود الترضية والتقديمات التى تُملَى عليه، ويقبلُ التطوُّع بها، أو يهديها مجّانًا لخُصومه ومُحازبيه؛ لأجل مكاسب جُزئيَّةٍ، لا تتخطَّى فى الحالة الراهنة مُجرَّد الاعتراف به، والقبول بوفادته، وإرخاء الحَبل له أن يشترى مزيدًا من الرضا، ويُقايِضَ القليل من الآخرين بالكثير مِمَّا فى حَوزته من خزائن الدولة وذاكرتها.
والسرديَّةُ نصفُ الحَقِّ، وكُلُّ الهُويَّة، والنزول عن شىءٍ منها إنما يُحمَلُ على اللعب فى الجوهرىِّ من الأمور، والاستعداد لتكييف البلد وصَبِّه فى قالبٍ على مقاس من يُخطَبُ ودُّهم، وتُطلَبُ مَعيّتُهم، ويُباع لأجلهم الغالى والنفيس.
يطيبُ للراقصين فى عُرس الجولانى توصيفه بالبراجماتية، على معنى أنه ليس عقائديًّا دوجمائيًّا، وليس مبدئيًّا أيضًا، ويعرفُ المصلحةَ ويقتفى أثرَها بمرونةٍ وديناميكيَّة. والمَدحُ فى مقام التسويق قد ينقلِبُ ذَمًّا فى حال التدقيق، إذ لا يُجرِّبُ الرجلُ مسلكَه الانتفاعىَّ من فضاء الدولة وعميق ثقافتها، وهو الآتى من خارجها تمامًا، وعاش عُمرَه القصير رافضًا لها؛ بل يختبرُه بعقليَّة التنظيم الأُصولىِّ، ومسموحاته المحكومة بتصوُّرٍ ضيِّق عن الشَّرع والفقه، وعن قِيَمٍ تتعثَّرُ فيما بين التقية والمعاريض، وأولوية العدوِّ القريب على البعيد.
ولا يُخفِى الرجلُ بحالٍ أنه يُوجِّه جهودَه لإيران بأكثر مِمَّا يختصِمُ إسرائيل، وفيما أخذَ على سلفِه الارتماء فى أحضان الشيعيَّة المُسلَّحة، فما يزالُ جُنديًّا انكشاريًّا فى كتائب العُثمانية الجديدة.
يتعقَّبُ جيوبَ طهران على ما يقول؛ لكنه لا يلتفت إلى آلاف الكيلو مترات المقضومة شمالاً وجنوبًا، وإلى تنازُع عَدوَّيْن طامِعَيْن فى سمائه، ومحاولات استتباعه لصالح قُوىً دعمَتْ الصحوات قديمًا، ثمَّ انقلَبَتْ عليها، ثمَّ عادَتْ للوفاق معها وإسنادها نكايةً فى خصومةٍ قديمةٍ مع البَعث، أو بحثًا عن أدوارٍ جديدة تفيضُ فيها الوَفرةُ الماليّة عن الثِّقَل الاستراتيجى.
وفيما يقعُ الرجلُ فى دوّامةٍ من النزاعات؛ فإنه يُوقِعُ نفسَه راضيًا فى المُتناقِضات أيضًا، ويرقصُ على إيقاعاتٍ مُتضاربةٍ بين حلباتٍ عِدّة، ويُقدِّمُ صورتَه الشخصيّة للمُشترين كيفما يُفضِّلون، لا بحسب حقيقته، أو على وجهٍ واضحٍ لنواياه وأغراضه الوَقتيَّة وبعيدة المَدَى.
تمريرُ وثائق إيلى كوهين قد يكونُ الإشارةَ الأخفَتْ والأقلَّ إزعاجًا. وما يخرجُ للعَلَن يخضعُ طويلاً للفَرز والانتقاء والتدقيق، ويُراعَى فيه أن يظلَّ عند الحدود الدُّنيا، وهامسًا لا صاخبًا. ما يعنى أنَّ ما خَفِى أعظم بالضرورة، حتى مع تصريح الرئيس الأمريكى فى لقائه بالجولانى على هامش جولته الخليجية، عن رغبته فى إدخال سوريا ضمن سياج الاتفاقات الإبراهيمية التى بدأت ساخنةً قبل خمس سنوات، ويعودُ لتنشيطِها حاليًا بعدما تباطأت فى ولاية سلفه جو بايدن.
وهكذا يُمكن تَوقُّع أنَّ حاكم الشام الجديد يرتضى مُؤقَّتًا بدمشق عن كلِّ ما سواها؛ حتى لو قصفَ الطيرانُ الإسرائيلىُّ محيطَ قصرِه ومقرّ إقامته. لن يكون الردُّ بالنار لأنه لا يقتدر عليه، ولا بالتصعيد السياسى والدبلوماسى لأنه يتناقَضُ مع مصالحِه وأولويات رُعاته؛ إنما بهَديَّةٍ تُحرِّرُ الذاكرةَ من أثقال الصراع، وتُمهِّدُ لإعادة جثمان الجاسوس فى تابوتٍ مُذهَّبٍ من الأَرْز وخشب الصنوبر الشامىِّ العتيق.
الذاكرة هُنا فائضةٌ عن الحاجة. سوريا فى غلافِها القديم وَقفيَّةٌ أَسَديَّة، وما يُرَادُ لها اليومَ أن تَخُطَّ مسارًا انقطاعيًّا عن ماضيها الطويل، وأن تُبنَى من الصفر؛ لتتيسَّر لها الإقامةُ الأَبَديَّة فى عِصمة قادتها الجُدد.
وما يفيضُ لدرجة أن يُهدَى؛ يُقبَلُ فيه أن يُباعَ أيضًا. وبالنظر لطبيعة العدوِّ ووحشيّته، وأنّه يفوز بإرث جاسوسِه وسيرته، رغم اختصام مالكه فى ترابه والدوس على كرامته؛ فالمُحتَمَلُ أنَّ الإدارةَ نفسَها كانت أكثر كرمًا مع الحُلفاء والرُّعاة، وأهدَتْ وباعَتْ ومَرّرت وثائقَ لا حصرَ لها، تكشفُ إيران لخصومها، أو تُرخِى غلالةَ السَّتر على نزاعاتٍ وقضايا عالقةٍ مع المُحتلِّ القديم القديم، وتمسَحُ معلوماتٍ وفضائحَ وإداناتٍ بحقِّ قادةٍ وتنفيذيِّين فى دُوَلٍ أُخرى.
كان النظام السورى جهازًا أمنيًّا فى المقام الأوَّل؛ ولطالما انتهجَ سُبلاً غير شريفة، وخاض حروبًا على المعلومات والوثائق، وجمَّعَ كُلَّ ما تطاله يدُه عن القريب والبعيد. كثيرون فى المنطقة وخارجها يطمعون فى الأرشيف العظيم؛ ولعلَّهم فازوا به فعلاً، قبل أن يفتحوا بابًا عريضًا للصهاينة إلى مكنونه، أو يمنحوهم منه ما أرادوا.
يُدَارُ الجدلُ فى الشِّقِّ الظاهر، وعلى طبيعة السلطة وعلاقتها ببيئتها اللصيقة والبيئات المجاورة والمُتقاطِعة؛ فيما يغيبُ الجزء الغاطسُ من جبل الثلج عن التداول تمامًا.
كيف يعملُ الجهاديِّون السابقون فى أحشاء الدولة؟ وكيف يُرتِّبون الخَفىَّ عن الناس قَصاصًا من الماضى، السيِّئ فيه والحَسن، أو تعبيدًا لطريقٍ إلزاميَّةٍ ذات مسار واحدٍ نحو مُستقبلٍ لا يعود فيه البلدُ بلدًا، ولا تتخلَّصُ فيه سوريا من ميراث البَعث فحسب؛ بل من تركةِ حضورها الطويل، واشتباكها مُتعدِّد الحقَب والتبدُّلات مع قضايا المنطقة.
الخرائطُ والمخطوطات ومحاضر الجلسات وإفادات المصادر وموضوعات الأمن القومى، كلُّها كانت إلى جوار أوراق إيلى كوهين على رَفٍّ واحد، وربما تكون عُبِّئَت فى صناديق شبيهةٍ، وقطعَتْ رحلةً مشبوهةً مثلَها إلى تل أبيب أو عواصم أخرى.
يُؤلمنى ما جرى بشكلٍ شخصىٍّ؛ لأنَّ الحكاية تتقاطَعُ مع مساحةٍ خاصّة ومُهمَّة من ذاكرتنا الوطنية. يعود «كوهين» لأُصولٍ حَلَبيَّة؛ لكنّه وُلِدَ فى الإسكندرية، وانخرط فى مُنظَّمة الشباب اليهودىِّ الصهيونية أوائل الأربعينيات، وكان مُتورِّطًا فى «فضيحة لافون» الشهيرة التى تفجّرت بعد ذلك بسنوات.
وبينما تظلُّ قصّتُه محلَّ تنازُعٍ بين روايات سورية وسوفييتية، وربطتها إسرائيلُ بالاستخبارات الهندية فى دراما تليفزيونية أنتجتها عنه مُؤخَّرًا؛ فالأرجَحُ لدىَّ من التتبُّع الطويل أنَّ مُرتقاه إلى المشنقة كانت درجة السُّلَم الأُولى منه فى القاهرة.
وباختصار؛ فقد تشكَّك فيه أحدُ الضبَّاط المصريين مِمَّن عملوا على قضية الخمسينيَّات، واسترعته الملامحُ أوّلاً، ثم رحلة الصعود السريعة بعد تمريره من قناةٍ لاتينيّة، ومع اقتفاء الأثر أو مُضاهاة الأدلّة الحيوية المُتاحة كالبصمات، تثبَّتْ من حقيقة الشخص، وأُهدِيَتْ المعلومةُ للأشقاء، ضمن مُسلسلٍ نَشِطٍ من حروب العقول وأجهزة الاستخبارات بين المصريين والصهاينة.
وما أهديناه لدمشقَ قبل ستَّة عقودٍ، يُهدَى اليومَ بنذالةٍ واضحةٍ لتلِّ أبيب، ويُشتَرَى فيه قبول العدوِّ بالكرامة والثابت الوطنى، بما لا يُحمَلُ إلَّا على الخروج من عقيدة إلى أُخرى مُضادّة؛ لا سيَّما أنه لا يأتى فى سياق مُسالمةٍ مُتكافئةٍ أو استعادةِ أرضٍ مَغصوبة؛ بل لمُجرَّد السماح للجهادىِّ بأنَّ يصير سياسيًّا، ولو على رُكام البلد وما تبقّى له من إرثٍ كان يستحقُّ الفخر، ويُخلَطُ فيه الغث بالسمين عمدًا؛ لتمرير أغراضٍ دَنيّة ولا تعلو فوق الشُّبهات.
الدُّوَل ليست أقاليم. وفى هذا فإنَّ سوريا منقوصة السيادة من أعلاها وأدناها، والسكَّان انتقلوا من خاطفٍ مُستبدٍّ إلى سَمىٍّ وشبيه، وإرهابىٍّ يزيد على سابقه بمُطابقة الفعل مع النشأة والتعريف. نظامُ الحُكم كان مُشاغبًا وصانعَ أزماتٍ يُجعجِعُ بلا طحين، وصار مُهادِنًا وأداةً لا تطحَنُ ولا تصخب.
إفراطُ الجولانى فى الحديث عن الثأرية الشيعية يُشير لأنه يستمرئُ إرساءَ شرعيَّته من الصورة الضدِّ لسَلَفِه فحسب، ويعجز عن إنتاج بديلٍ أكثر كفاءة وموضوعية. لكنّه يُوحى أيضًا بانخراطه فى مشروع إقليمىٍّ يطمعُ فى ملء الفراغ الإيرانى، ويقبلُ بالمُطاوعة الأَسَديَّة مع إسرائيل ويُطوّرها، ويعرضُ البلدَ على الراغبين فيما تُهَندَسُ هيئتُه الجديدة.
لا يملك تصوُّرًا عن الشام فى حاضره ومُستقبله، ولا يُريدُ إنجازَه أو إشراك المُستحقّين فيه، بل يستكشف المسموحات والممنوعات فى سياقٍ مُختلٍّ تمامًا، ولا يتسانَدُ إلى شىء؛ حتى حاضنته الاجتماعية وذاكرتها الواسعة.
تغييب الوفاق طوالَ الشهور الماضية يقطعُ بعَدَم الرغبة فيه، أو فى أفضل الافتراضات بالسعى إلى تأطيره ضمن حدودٍ إذعانيَّةٍ لا تخلو من الشموليَّة. وتمرير الوثائق جزءٌ أصيلٌ من فلسفة البناء المُستحدَثَة؛ إذ لا حاجة له بشراكات الماضى ونزاعاته، ويستقيلُ اختياريًّا من هموم المكان والمكانة والزمن العتيد؛ لأنه ينطلقُ من رعاية عُلويّةٍ تُسيّره وتقضى فى أمرِه بأحكامها الصارمة، ولا يتطلَّعُ فى المدى المنظور على الأقلِّ للاختلاف معها، ناهيك عن رفضِ بعض الإملاءات أو التفاوض على بعضها.
يصعُب التنبّو بمآلات السلطة الجديدة؛ لأنَّ فواعلها ليست من داخلها. والتوازُنات الاجتماعية مُغيَّبَة قسرًا، وثقافة الشَّوكةِ تحكمُ الفضاءَ الوطنى، تحتكرُ سُلطة الإنفاذ، فيما تُمرِّرُ الفاعليَّة إلى مجالاتٍ «فوق سوريَّة»، تصطدم حينًا وتتقاطَعُ طموحاتها ومصالحها أحيانًا.
كلُّ الاحتمالات واردةٌ، من أوَّل إعادة إنتاج بَعثيَّةٍ أَسَديَّةٍ بلِحيةٍ أُصوليَّة ولَكنَةٍ عُثمانيَّة، أو التنازُع داخل البيت الجهادى، وربما الثورة الشعبية. قد يبقَى الجولانى أو يُزاح لصالح بديلٍ من النطاق نفسِه أو غيره؛ إنما من دون تحقيق الانقلاب الكامل على النظام القديم فى كلِّ أفكاره ومفاتيح عمله، لا أملَ فى انتقالٍ يُحرِّرُ الشام من ميراثه القديم، أو يُجنّبه مغبّة الابتلاع لصالح نسخةٍ ثانية عنه، ومُشوّهةٍ أكثر منه.
وأقصى ما يتمنّاه البراجماتى أن تُخلِّى إسرائيلُ سبيلَه، على قاعدة اتِّفاق فَضِّ الاشتباك، أو حتى بما قضمته فى الشهور السابقة. وأن يبقَى الوِفاقُ المُعلَنُ والتنافُس الخفىُّ بين الأناضول والخليج، فيكسب منهما معًا، ويتأمَّنُ له هامشُ مُناورةٍ ضئيل.
ستظلُّ الوثائقُ تُنزَحُ للخارج، وقد تُباع أشياء أثمَنُ منها خِفيَةً، وستتآكَلُ الذاكرةُ الصُّلبة؛ لكى يكون مُتاحًا للصاعد الهَشِّ أن يملأ مقعد الشام العريض، وأن يفرضَ دماغَه البيضاء على بلدٍ كان عظيمًا، ويُوطِّدُ لآليَّات عمله الاستنسابية والزبائنيّة فى قلب الدولة وأحشائها.
الجنسيَّةُ مُكافأةُ الجهاديين عن المَقتلة المديدة، والمُراد تمديدها؛ كما لو أنه يشطُبُ ميليشيات إيران ويُحبِّرُ كشوفَه نظامه بالقلِم ذاتِه، والكُرد أعداءٌ طالما لم يَصدُر أمرٌ من الباب العالى بالمَودّة، والدروز هدفٌ كغيرهم؛ إنما يُكرَمون اتَّقاءً لشَرِّ الصهاينة، والساحلُ لا بَوَاكِى له، ويكفى الحقدُ الدَّفين لإبقائه ساحةً دائمة لاستعراض القوَّة، وتقديم أُمثولة «رأس الذئب الطائر» للآخرين.
الضرورات تُبيح المحظورات كما يُبرِّرُ المتطرفون جرائمَهم دومًا؛ إنما لا نعرفُ حتى الآن ضرورتَهم من محظورِهم. إلغاءُ الجميع لصالح الطَّيف الواحدِ ينطَوى على تخوينٍ واضح، والعمل مع إسرائيل يُعَدُّ براجماتيَّةً وحصافةً لا عمالة وخيانة، وقَتلُ العَلَويِّين والدُّرز والكُرد على مُقتَضَى الإجماع ووأد الفتنة، والجغرافيا يكفى منها القليل، والله يبارك لمن شاء أو ينزع بركَتَه.
الحكومة الانتقاليَّةُ تمدَّدت بعد موعدِها المُحدَّد اختياريًّا بالأساس، والسنوات الثلاث صارت خمسًا، والمُؤقَّت لا حائلَ يمنعه من أن يتّسع ويترسًّخ ويصير دائمًا، وقد قدّمَ الهدايا المطلوبةَ للجميع، وتحصَّلَ على بعض الأثمان، وتُواكبه الرعايةُ الخارجيّة بإفراطٍ وحماسةٍ عجيبَتَيْن.
لم تعُد لديه حاجةٌ للحوار، والالتفاف من موقع التمكين أسهلُ من الوعد به قبل التثبيت. سيُطعِمُ الناسَ وعودًا، ويعطيهم من طرف اللسان حلاوةً، وسيظلُّ الصهاينةُ يأخذون ويتشدَّدون؛ فيأخذون أكثر، والعثمانيون الجُدد فى قبضتهم الآنَ ما يفوق أحلامَهم سابقا، والغنائمُ وافرةٌ وهامش التراضى مع إسرائيل عريضٌ، وسيزداد اتِّساعًا كلَّما نَهَبَتْ القاطرةُ الإبراهيميَّةُ مزيدًا من السِّكَك المفتوحة، وتوقَّفت فى عاصمةٍ بعد عاصمة.
أخطرُ ما يتبدّى فى فضاء الشام، أنه لم يَعُد مجالاً للتنازُع بين المُمانَعة والاعتدال، أو بين تصوُّراتٍ رَجعيَّةٍ وتقدُّميَّةٍ مُتعدِّدةٍ ومُتصارعة. لقد صار ميدانًا للتأهيل والاختبار، ومَسربًا جانبيًّا لإنجاز الاتّفاقات المشبوهة قبل توسيع مَداها، وتعميمها على بيئاتٍ أكبر وأهمّ وأكثر استقرارًا.
يُرسَمُ الشرقُ الأوسط الجديد من الشام؛ لأنه نطاقٌ مُهمٌّ بالأساس، ولأنه يعيشُ حقبةَ سيولةٍ تُجيز فيه كلَّ ما لا يجوز فى غيره. وإن نجحت التجربةُ سيسعى الساعون لزحزحتها شرقًا نحو لبنان، وقد يُجرِّبون مع العراق واليمن وغيرهما، قبل أن تُفرَدَ المَظلَّةُ التى يُرَادُ لها أن تُغطِّى سماءَ الإقليم فى صورته الجديدة، المُلفَّقة والمُوَّلَدة قسرًا، وخارج كلِّ عقلٍ أو منطق.
وثائقُ إيلى كوهين قُبلةٌ فى الهواء، تلويحةٌ وعربون محبَّة، ورُفاته سيكون بمثابة التوقيع بالخطوط الأُولى على العَقد. أشلاءُ سوريا فى أيادى المُحتلِّين، أغرابًا وذوى قُربَى، والجولانى مُنتَدَبٌ لمهمَّةٍ باتَتْ واضحةً؛ وحتى لو افترضنا فيه الأمانةَ والإخلاص، فقد وضَعَ نفسَه فى مَوضعٍ أداتىٍّ وظيفىٍّ، وأسلَمَ قيادَه لآخرين ربما يستحيلُ أن يتمرَّد عليهم لاحقًا دونَ تكاليف باهظة، منهم أو من دائرته اللصيقة.
حلمُ الخلافة الدينيّة مَطمورٌ تحت ابتسامته البلاستيكية، والجميع يعرفون، ولعلَّه الوحيد الذى تنطَلِى عليه خدعتُه. سيظلُّ يُطارِدُ الجَزرةَ، ولا يعرف أنها مربوطةٌ إلى عصا طويلةٍ يتنازعُها الجالسون على أكتافه من ألوانٍ ومشارِبَ شَتّى.
الجولان ضائعةٌ أصلاً، فما عسانا أن نفعل فيما بدَّدَه الأُسدُ وحيواناتُهم المُعاونة فى غابات البَعثِ الكئيبة. والوثائقُ حكاياتُ نظامٍ أمنىٍّ مُتوحِّش، والطائفيَّةُ كُتِبَتْ علينا، ومَنْ كُتِبَتْ عليه خُطَىً مَشَاها. وَهمُ الشرعيَّة يسوقُ المُريبَ الذى يكادُ أن يقول خُذونى، والجوارحُ تتلاقَى فى وفاقٍ مُصطَنَعٍ على ذاكرةِ الطرائد الجريحة. السيِّد أبو محمّد الجولانى يمتلِئُ، دون مُبرِّرٍ مُقنعٍ، بإحساس أنَّ سوريا وُلِدَتْ مع مَقدمِه، والإشاراتُ كلُّها حتى الآن تُشير إلى الاحتضار لا الولادة للأسف.

Trending Plus