سِرك.. لا تَحبسه في فمٍ مفتوح

القلوب، يا عزيزي، ليست مجرد عضلات تنبض بالحياة، بل هي أوعية خفية، تمتلئ بما لا يُقال، وتفيض أحيانًا بما لا يُحتمل، فيها تختبئ الأسرار، وتسكن الحكايات التي لم تجد مخرجًا، تنتظر أمانًا لا يأتي، أو لحظة ضعف تفتح القفل عنوة.
والشفاه، تلك الحواف اللحمية الوديعة، ليست فقط لابتسامة عابرة أو كلمة مجاملة، بل هي أقفال محكمة، يُختبر من خلالها الوفاء، ويُقاس بها وعي الإنسان بما يجب أن يُقال وما يجب أن يُوارى خلف صمتٍ حكيم.
أما الألسن، فهي المفاتيح بها نفتح القلوب أو نغلقها، نُفشي الأسرار أو ندفنها، نُقيم بها جسور الثقة أو نهدمها بكلمة طائشة، الكلمة، حين تخرج، لا تعود، والسرّ، إذا غادر محرابه، صار ملكاً للريح.
في زمنٍ صار فيه الكتمان عملة نادرة، والثرثرة عملة رائجة، أصبح الصمت مهارة، والحفاظ على السر بطولة، فكم من صديق تحول إلى عدوّ لمجرد أن لسانًا لم يعرف كيف يصون ما سمع، وكم من قلب كُسر لأن مفتاحه وُضع في يد من لا يُحسن غلق الأبواب.
ليس كل من يُنصت جديرًا بسرّك، فالأذن ليست دليلاً على الأمان، وبعض القلوب ثقوبها واسعة، ما أن يدخل السرّ حتى يتسرّب إلى ألف فم.
احذر أن تعيش ككتاب مفتوح في زمن يتصفّحه الجميع دون استئذان، واحرص أن تكون سيد أسرارك، لا عبد حديثٍ عابر.
الناس أنواع: منهم من يحتضن سرك كأمّ تحتضن طفلها، لا تسمح لريح أن تمسه، ومنهم من يتعامل مع سرك كسلعةٍ في سوق الكلام، يبيعه بثمنٍ بخس من الإعجاب أو الانتباه، فاختر لمن تفتح وعاء قلبك بعناية، ووفّر مفاتيحك لمن يستحق أن يسكن طمأنينتك.
السرّ، حين يُقال، يُصبح هشًّا، يتنقّل بين الألسن كقطعة زجاج، تُخدَش في كل مرة تُمرَّر، حتى تنكسر وتفقد شكلها وقيمتها، أما حين يبقى في القلب، فإنه ينضج، يتطهر، يتحول من وجع إلى حكمة، ومن حكاية إلى درع.
فلا تكن سريع البوح، ولا تخلط الصداقة بالثقة المطلقة، فالماء العذب لا يُسكب في أوانٍ مشروخة، ولتعلم أن الصمت أحيانًا ليس خوفًا، بل وعيًا أن السرّ لا يحتاج دائمًا من يسمعه، بل يحتاج قلبًا يحتويه دون أن يلفظه.
احفظ مفتاح قلبك، ولا تمنحه لمن لا يُجيد غلق الأبواب بعده، فليس كل من اقترب منك يعرف كيف يُحبك، وليس كل من أنصت إليك يستحق أن يعرفك من الداخل.
Trending Plus