قضاة "فيس بوك" والمرافعة فى سبيل "اللايك"!

كل قضية تظهر تجد الكثير من الخبراء والمعلقين، الذين يعينون أنفسهم شهودا ومباحث ونيابة وقضاء، يصدرون أحكاما، ويبالغون فى إطلاق واستعمال المعلومات المضروبة والأخبار المفبركة، والنتيجة أن الشائعات تحل مكان المعلومات، ونرى خبراء فى كل شىء، وهو نتاج تفاعلات واتساع أدوات ومواقع التواصل، بجانب لجان مهمتها إطلاق وتشويش حول كل القضايا، لدرجة أن البعض ممن يعانون من الدونية، مستعدون لتصديق بعض منصات الكذب بل ومصادر العدو، أكثر من المعلومات، ثم إن هناك بعض الحملات والتريندات تنطلق اعتمادا على بعض أو طراطيش المعلومات.
قبل سنوات فى ظل اتساع وانتشار القنوات الفضائية، وبرامج التوك شو كانت هناك ظاهرة محامين وقضاة التوك شو، حيث كان هذا النوع من أنصاف المعروفين يلجأون إلى البرامج ليتحدثوا فى القضايا الموكلين فيها، ويفشلون فى كسبها وتنتقل المرافعات من المحاكم إلى شاشات الفضائيات، ويسعون للتأثير على الرأى العام وكسب التعاطف، بينما البرامج تريد نسب مشاهدة.
للأسف كان هذا فى الغالب على حساب القضاء، بل وأحيانا كان المحامى يعرف أنه خاسر للقضية فيسارع بعمل ضجة أمام الشاشات بحثا عن تعاطف، ومع ظهور فيس بوك وأدوات التواصل ويوتيوب اتسعت هذه الظاهرة، فلا يبذل هؤلاء نصف جهدهم فى الترافع أمام القضاء أو تقديم دفوع، احترف بعضهم هذه الطريقة، ونجحوا فى تحقيق شهرة مكنتهم من تصيد زبائن اكتشفوا أنهم ضحايا الفراغ.
نقول هذا بمناسبة ما أصبح عليه الحال فى كل قضايا الرأى العام، حيث يحتل بعض هؤلاء منصات التواصل، ليبدأوا التعليق على بوستات مزيفة أو معلومات ناقصة، ويتحول كل منهم إلى شارلوك هولمز، أو كونان المحقق، جاهزون لكل شىء، لدرجة أنهم يستبقون التحقيقات فى أى حادث، ليبدأوا فى رسم سيناريوهات غالبا ما تكون خاطئة.
والواقع أنه بعد 25 يناير اتسعت هذه الظاهرة، ورأينا خبراء فى كل شىء من الاقتصاد إلى استرداد الديون ومن السياسة والدساتير إلى المجارى المائية، وظهرت أعداد من المحامين خرجوا من تحت طقاطيق الأرض، وأعلنوا تطوعهم فى القضايا التى يعرفون أنها تحظى بتغطية صحفية وسوشيالية، وبعضهم أطلق على نفسه المحامى الوحش، والمحامى الدولى، والعابر للمحيطات والقافز بالزانة، وكانوا يتدافعون وأحيانا يدفعون من أجل الظهور، والحديث فى أى كلام، من دون أن يكون لدى أى منهم أى فكرة، ونفس الأمر فى قضايا الشهداء وغيرهم، وبعض هؤلاء كان مجهولا فحقق شهرة وأصبح ناشطا وخبيرا وسمسارا و«بتاع كله»، وصدق نفسه بعد أن ركب الموجات، وأصبح يفتى فى كل شىء ويتصدر الصور والمنصات واللعب والحاجات، وما زلنا نتذكر بعض هؤلاء عندما نشرت «الجارديان» تقريرا عن ثروات، وبدأت عملية تقسيمها على الشعب واتضح أنه تقرير مضروب.
ومع أن القضاء هو المكان الطبيعى لنظر القضايا فإن موضة المحامى الفضائى أو الافتراضى هى الجلوس مكان القضاة وإصدار أحكام فى كل شىء، وشغل الناس بتريندات ليست كلها حقيقية، والهدف كسب مشاهدين وليس تبرئة أبرياء.
ومع هؤلاء هناك زعماء دخلوا للصورة بحثا عن الكاميرات، والواقع أن برامج التوك شو ومواقع التواصل ساهمت فى تلميع هواة ومحترفى الأضواء، لدرجة أن قطاعا من الرأى العام صدق بعضهم ومشى وراءهم، ووصل بهم الحال أن يصدق بعضهم نفسه أنه هؤلاء ومشى وراءهم، قبل أن يكتشف أنهم غير متفرغين للثورة ولا للمرافعة، هدفهم فقط الكاميرات واللايكات، وكثير من هؤلاء كانوا يقولون آراء على صفحاتهم وحساباتهم، تختلف عن قناعاتهم، والشهرة تحتم عليهم تبنى آراء تعجب الريتويت، ويجيدون المزايدات والمجانيات، ظنا أنهم غسلوا أنفسهم من تراب السمسرة.
وهذا مثال من أمثلة كثيرة على ظواهر أفرزها عصر التوك شو والسوشيال ميديا، تجعل الصورة أهم من الأصل، والدعاية أهم من الحقيقة، والمرافعة أمام الكاميرات أو على فيس بوك أهم من الترافع أمام المنصات.

Trending Plus