حرب لا تحسم صراعا ولا تُجمّده.. عن محرقة غزة إذ تنطفئ ألسنة اللهب ولا يزول الأثر

فيما يُعبِّر الذهاب إلى المدى الأقصى عن الصلابة ظاهريًّا؛ فإن من آثاره السلبية أنه لا يترك فرصة للمناورة والتراجع حينما تفرضهما الظروف. وفى الحرب، كما فى السياسة أيضًا، لا يُفَضّل إغلاق الأبواب بالمتاريس؛ حتى إن كان إبقاؤها مُشرعة أو مُوارَبة يحمل رياحًا مُحمَّلة بالغبار، أو يُهدِّد بخَلط الأوراق وبعثرتها أحيانًا.
فعِند نقطةٍ مُعيَّنة ستُسَدُّ الطرق أو تنتهى، وتكون تكاليف العودة منها أكبر من مزايا الاندفاعة السابقة. بالضبط كما يبدو الموقفُ اليومَ لدى الصهاينة والحماسيين على السواء، إذ تتضاربُ المصالح الحيوية مع الخطابات المُتأجِّجة، وتُحسَبُ المُواءمة المطلوبة من كلِّ طرف على الهشاشة والنكوص، بينما الضعف ثابتٌ بحقِّهما، ولا نصرَ أصلا للشجار عليه. يختصمان فى قسمة الهزيمة فحسب، ويَعُضَّان معًا فى أصابع مبتورة.
أخذ نتنياهو خطوةً ضيِّقةً إلى الوراء فى مسألة المساعدات، بعدما كان يرفض الحديث بشأنها من دون اتِّفاقٍ يُؤَمّنُ باقةَ أهدافه الحربية كاملةً. فسَّر الأمر بأنه يتَّصل بضرورات سياسية َدبلوماسية، ولم يُخضِعه للتصويت أصلاً داخل الكابينت.
لكنَّ المفارقة أنَّ حليفيه المُتطرِّفَين: بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، توقَّفا عن التشغيب على خلاف المُعتاد وسوابق التهديدات. اعترضَا بالطبع كما كان مُتوقَّعًا؛ إنما لم يتشدَّدا فى الرفض أو طلب استطلاع الآراء داخل المجلس، وبطبيعة الحال لم يقترِبَا من عنوان مُغادرة الائتلاف وإسقاط الحكومة.
قبلها بأيام، كانت حماس على موعدٍ مع إزاحةٍ شبيهة فى مواقفها، عندما قدَّمت أثمنَ رأسٍ لديها فى قائمة الرهائن مجّانًا، ولمُجرَّد مُغازلة الرئيس الأمريكى قبل وفادته على المنطقة، أو تحيّة واشنطن على اعترافها الضمنىِّ بها بأحسن منها.
وكانت الحركة فيما مضى شديدةَ التحجُّر إزاء معيار التبادُل، والجندىِّ مزدوجِ الجنسية على وجه التحديد، وربما تنطوى الكواليسُ على طفراتٍ من العيّنة نفسها، أكان على صعيد السلاح أو مُستقبل القادة الحركيِّين داخل القطاع.
ربما لا أحدَ أكثر اقتناعًا من ذئب الليكود العجوز بسخافة الاستمرار فى الميدان، وانعدام جدواه تقريبًا. يعرفُ أنَّ حماس انتهت عمليًّا؛ ولو تبقّت الأيديولوجيا مخلوطةً لديها بشىء من الحنين إلى زمنها القديم.
تآكلت ورقةُ المقايضة البشرية وخَفُت وهجُها على الناحيتين، والاحتلال فخٌّ ما تزالُ حكايات تجاربه السابقة حيّةً وماثلة أمام عينيه. ويعرف أيضًا أنَّ سرديَّة النصر مطعونةٌ فى الصميم، وجدار الرَّدع لم يعُد عاليًا رغم فائض التقتيل والترويع؛ لكنه لا يعرفُ كيف ينزل على الشجرة دون الانزلاق فى حِجر الأُصوليَّة المُعادية لدى الأغيار، أو تسليم رقبته لأُصوليِّى الداخل وأعدائه مغلولةً بالفشل والإخفاق، ومُضطرَّة لسداد تكاليف النزوة الهائجة، والارتكان إلى المذبح أمام لائحة طويلة من الإدانات التى طالما أنكرها، واستمات فى التهرُّب من استحقاقاتها الثقيلة.
أمَّا الخصومُ على الجانب الآخر؛ فأحوج ما يكونون إلى صورةٍ ختاميَّة تُرمِّمُ تصدُّعات التنظيم وحُلفائه وحظيرتهم الآخذة فى التضاؤل، محليًّا وعلى امتداد المنطقة. ضيّعوا البطولةَ بسوء الإعداد وخفّة التشكيل، ويبحثون عمَّا يُحقِّقُ أقلَّ قدرٍ مُمكنٍ من «التمثيل المُشرِّف».
لم تعُد قضية الحماسيين أن يُحوّطوا على مكتسباتٍ يوقنون أنها زائلة، ولا أن يُناكفوا السلطة الوطنية لاستعراض القوّة، أو لمُجرّد المُناكفة والإحساس بوجودهم البيولوجىّ؛ بل أن يتنفَّسوا ويستشعروا تِردَاد الأنفاس فى صدورهم، تعبيرًا عن الحياة ولو كانت مُعطّلة، أو إثباتًا للوجود المعنوى البسيط فى مواجهة العدم.
لعنةُ البدايات تُرافق أطرافَها إلى محطة النهاية. الفصائلُ أخطأت بالتطلُّع إلى ما وراء الحدود، وقَضْم ما تعجزُ عن مَضغه أو ابتلاعه. والاحتلال عَزَلَ الصفعةَ عن مُسبِّباتها الحقيقية، وتوهَّم فى الاستشراس والتوحُّش بديلاً كافيًا عن الاعتراف بالخطأ والقصور.
ما حرّك «الطوفانُ» القضيَّةَ عن مواضعها؛ اللهم إلَّا للأسوأ، وما قوَّضها العدوانُ الغاشمُ بأكثر ممَّا كان يلفُّ البشر والحجر أصلاً، ويخنقهما بالرتابة كما بالموت العميم.
تباطأ العالم فى فاتحة المشهد، ثمَّ استيقظ الضمير ونام، ويتعثَّر اليومَ فى يقظتِه الثانية. تبدَّلت الإدارة فى واشنطن وما تغيّرت طبيعةُ المُواكبة والاحتضان والرعاية، يدٌ تُمرِّر السلاح وأخرى تحجبُ الضوء والمُساءلة، ولسانٌ يُرطِّبُ جحيمَ المنكوبين، وشراراتُ اختلافٍ واهنٍ بينهما، لا تندلع إلَّا لتنطفئ سريعا؛ فيما يُؤخَذُ الحماسيِّون بها ويُراهنون عليها، لا لشىءٍ إلَّا أنهم فاقدو الأمل ومعدومو الخيارات، ووضعوا أنفسهم ومليونين من خلفهم فى مَوضع المِحنة، والالتجاء إلى السراب المُخادع اضطرارًا، والبحث عن إبرةٍ مطمورة بين أكوام الركام.
لا ينشغلُ النازِّيون الجُدد فى تل أبيب بالصور والسرديات، وما أزعجتهم حماوة العجائز الأوروبيين مؤخّرًا بعد فاصلٍ طويل من الفُرجة الساكتة. يضعون عينًا على لافتة الإبادة الدائرة فى غزَّة، ويشخصون بالثانية تجاه البيت الأبيض، ولا يعنيهم إلَّا أن تكون الموجةُ المضبوطة مع الحليف الأوَّل دون الاستنكار أو التحجيم.
والإدارةُ ألمَحَت وصرّحت كثيرًا بأنها لن تفرض شيئًا على نتنياهو، والرئيسُ بنفسِه نفَى علنًا ما يتردَّد عن كونه يضيقُ بأفعاله أو يختلفُ مع أولوياته. نزاعهما فى الشكل لا المضمون، وفيما إذا كان الأنسب أنْ نُطعِمَ الطرائدَ، أم ننحرَها على معداتٍ خاوية.
عُقدةُ المَكانة حرّكت السنوار قديمًا، وما تزال تتسلّط على عقول ورثته حتى الساعة؛ ولأجلها قامروا بالمكان وما عليه. استشعر رجلُ التراجيديا السوداء أنَّ موجةَ التطبيع الفائرة تُهدِّدُ وجودَ التنظيم وخطابَه الأُصولىَّ، فاختار أن يقفز فى النار على أمل أن تكون بردًا وسلامًا بالمصادفة، أو يحترق الجميع قصدًا بنواياهم ومُخطَّطاتهم، وتحترق المخاوف معهم.
أمّا «الحيّة» وفريقه القائمون معه على أطلال الجماعة؛ فقد عاشوا شهورًا يرفضون ما يُعرَضُ على طاولتهم، ثمَّ أكلوه باردًا فى نهاية المطاف، عندما أتاهم أمرُ واشنطن قبل مراسم التنصيب، محمولاً على جناح التهديد بالجحيم؛ كأنَّ ما فات كان نعيمًا أو نُزهةً بين الفراديس.
التقى رجالُ الفنادق مبعوثَ الأمريكيين لشؤون الرهائن «آدم بوهلر» على اشتياق، وسرّبوا طرفَ خيطٍ من اللقاء، ثم أذاعوا كثيرًا من التفاصيل وأفرطوا فيها. أُعفِى المندوبُ من منصبه على أثر غضبة صهيونية عارمة، وما توقَّف الرومانسيون عن انتظار المُواعدة التالية.
وعندما أتت من طرف ستيف ويتكوف، أفاضوا وأضافوا إلى الخيالات مزيدًا منها، وقدَّموا الهدية وانتظروا الردَّ، وتردَّد أنهم اشترطوا لأيَّة تسويةٍ مُؤقَّتة أو دائمةٍ أن يتصافحوا مع مبعوث ترامب ويلتقطوا الصور.
كما لو أنهم يتشكَّكون فى وجودهم، ويبحثون عن الاعتراف والإقرار بالحقائق الفيزيائية. والغريب أنَّ ما يتأمّلونه من الغريم؛ يتعالَون عليه مع الشقيق والصديق، وينظرون لغضبةِ الغزِّيين منهم على أنها ضوضاء غير مُنتجة، ولا ضير منها حالما تُبرَمُ الصفقات بعيدًا، وتُمرَّر غصبًا من فوق الرؤوس.
منطقىٌّ ألَّا يرى الصهاينة فلسطين وأهلَها. حضورُهم يُثبِّتُ فشلَ المُحتلّ، وانتصاب أعوادهم يُذكِّره بالجرائم القديمة، وبالهشاشة الطافرة من ثنايا التوحُّش. إنها آليَّةٌ دِفاعيّة تشتغل على مسارين: إنكار الحقوق العادلة أوّلاً، والبراءة مِمَّا سَلَف ثمّ استكمال المَقتلة بضميرٍ مستريح.
أمَّا غيرُ الطبيعىِّ بالمرّة؛ فأن تُفرَز بيئةُ المأساة من داخلها، وتنقسم على نفسها، فيَختزلُ نصفُها القضيَّةَ فى قبيلته التنظيمية ورايتها وشعاراتها، ويُنكِرُ النصفَ الثانى. كان الانقلاب بعد انتخابات العام 2006 تعبيرًا عن وعى الحماسيين بالمسألة الوطنية، وابتذالهم للإرادة الحُرَّة، ولقيمة الإجماع من حيث كونه مظلَّةً حمائيَّة للسردية وهمومها، كما لحُجِّية الفرد بوصفِه المُنشئ ومادة بناء الإجماع.
تتضاءل فلسطين لديهم حتى تُحبَسَ فى غزَّة، والأخيرة تُعرَّفُ بالحركة حصرًا، والعكس، وحتى الحركة نفسها تُختَزَلُ فى لونٍ واحدٍ، يتوّزّع على حفنة بالخنادق وأخرى فى الفنادق، وطالما كان الخطيبُ سليمًا مُعافَى؛ فلا حاجة للمنبر والمُؤذِّن، ولا حتى للمُصلّين.
بَيدَ أنَّ الأُصوليِّين فى جهلهم السادر، يقفزون على حقائق كُبرى فى الصراع وجوهره، وآليَّة تحريره على وجهٍ يضمن له العافية والاستدامة، ولا يتركه عُرضةً لتقلُّبات الأيديولوجيا والأحلاف. فابتسار الكُلِّ والتعويض عنه بالجزء، يجعلُ الخلاص من الأخير سهلاً، ويُعلِّق تكاليف انكساره على عاتق الكيانيَّة ومُكوِّناتها جميعًا، مِمَّن لم تكُن لهم الخِيرة ولم يُستَشَاروا أصلاً.
الأسطورة المُؤسِّسة للدولة العِبريَّة تستند لمزاعم تاريخية هُويّاتية، وتتحرَّك فى مجال الأكذوبة المُلفَّقة عن «أرضٍ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض»، وعندما انتزع الراديكاليِّون، القوميون والدينيون، فلسطين من حاضرها ومجاله الحيوى، وعرّبوها أو ديّنوها بدلاً من الاحتفاظ بلونها الخاص الخالص؛ كانوا كمَنْ يشتغلون مع العدوِّ فى خدمة الرواية المُدّعاة.
وعلى الدرب يسير الحماسيون؛ لأنهم لا يعتبرون القضيَّةَ مُكتملةَ الأهليَّة أو صالحةً للبقاء فى ذاتها، ولا يرونها خارجَ ظلال العقيدة، أو بعيدًا من المحاور التى تعُدّ البشرَ وقودًا، وتُقِيم الأوطانَ فى الأديان فحسب؛ لا فى الجغرافيا والتاريخ والخرائط وهُويَّاتها الفسيحة.
والحال؛ أنَّ حماس تُطيل عُمرَها عالمةً بأنها لن تؤخِّر القدرَ المحتوم، ونتنياهو يتيقّن قبل غيره بأنه ماضٍ إلى نهاية تأخّرت كثيرًا. والهُدنةُ المُقبلة لن تكون كسابقاتها، وسيتعذّر معها التشغيب والمُماطلة وإعادة الالتفاف بالطُّرق القديمة.
خزّان الحركة من الرهائن لن يصمُد لأكثر من مُبادلةٍ أو اثنتين، واستمراء الاحتلال لسيناريو الحرب المفتوحة ستنقضى مفاعليه بعدما تُرتِّب الإدارة الأمريكية ما تبقّى من أوراقها فى المنطقة، سواء أبرمت اتفاقًا نوويًّا مُقنعًا مع إيران، أو اضطُرّت لمَسلكٍ آخر فى التصعيد أو إبقاء الأوضاع عالقة على حالها الراهنة.
استنفد الطرفان هامشَ المُراوغة المُتاح إلى آخره تقريبًا. وبينما لم تكُن الظروف السياسية قد نضجت فى المحطّات السابقة؛ فإنَّ المأساة الإنسانية أنضجَتْ ما كان متروكًا للمصادفة وصراعات القوّة وفوائضها. وليس فى وِسع غزّة أن تحيا على ما هى عليه، ولا أن تُزال بساكنيها عن الخريطة الآن وعلى وجه الاستعجال.
تعليةُ السقف من جانب الاحتلال لا تخرجُ عن آليّاته المُعتادة فى التفاوض تحت النار، والبقاء فى القطاع طويلاً يُولِّد الأزمات بأكثر مِمَّا يُجفّفها، وبعدما تنطفئ شعلةُ الفصائل على الطاولة، لن يعود ميسورًا تأجيجُها فى بيئة مُهدّمةٍ وتلفَظُ المُختلّين والمُحتلّين معًا.
طوفان السنوار قلبَ الإقليم رأسًا على عقب؛ لكنه أخفق فى تحقيق مُراده تحت راية المُمانِعة، والمصالح التى يُرتَّب لها على امتداده أكبر من فلسطين، وأهم منها لدى أصحابها، وستقود حتمًا إلى ترتيباتٍ من نوعٍ جديد.
جال ترامب فى المنطقة وعاد منها؛ وما قدّم شيئا يُعوَّل عليه، أو يُقابِلُ سخاءَ الاستثمارات بإعادة تكييف التوازُنات الجيوسياسية. عادت المنطقة إلى لائحة اهتمامه بعد انصراف، أو رغبة فى الانصراف، وتشغلُه التقاطعات القائمة والمُحتمَلَة مع إيران، ويتطلّع لاسترضاء مكامن الثروة والفوائض المالية؛ لكنه قبل هذا لا يُريدُ إبقاء المجال الذى هُدِمَ قديمُه مُعرّضًا للعراء، ومتروكًا لتصاريف الأقدار قبل أن يُبنَى البديل المُحدَّث.
كان مبعوثه ستيف ويتكوف صريحًا للغاية، عندما قال إنه يترُك الخصمين للتوافق؛ لكنه عند نقطة مُعيّنة سيكتب بنودًا ويضعها على الطاولة، ويجبرهما عليها دون هامش للاعتراض أو الجدل.
لم يعُد فى وسع الحماسيِّين أن يقولوا إنهم فعلوا شيئًا للقضيّة الفلسطينية، ولن يتجاسر نتنياهو على ادّعاء تصفيتها طبعًا، كما لا يُمكن للدائرة الإبراهيمية ومَن يقيمون داخلها أو يطوفون حواليها، الزعم بأنهم كانوا طرفًا فاعلاً فى النكبة الثانية.
وفرة الجنون أوقدت المشاعلَ بين جَناحَى الأُصوليَّة على الناحيتين، التوراتية والإسلامية، ونفاد الوقود وانطفاء الطاقة يتضافران معًا لإطفائها، وإن كان ثمّة موقف يُرَدّ إليه شىء من الفاعلية هنا؛ فالقاهرة أوّلاً، وبفارقٍ كبير عن الجميع، ثمَّ شريكاها فى الوساطة من جهة ترويض الحركة فى الدوحة، أو مُحاصرة زعيم الليكود وائتلافه بخياراتهم من جهة واشنطن.
المُساعدات خطوةُ ارتدادٍ لا تقدّم؛ بمعنى أنها تُشير إلى بدء العودة للتفاهمات، وليس الاتجاه صوب الاحتلال والسيطرة الدائمة. تعرف إسرائيل أنها لن تكون قادرةً على إعالة مليونَى غَزّى، ولا إعمار بيوتهم المُخرّبة، ولن يُدفَع «سِنتٌ واحد» من شريكٍ إقليمى أو دولى لها ولا لحماس.
اليوم التالى يُولَد من بين فرثٍ ودم، وعلى خلاف رغبة الطرفين؛ إذ لن يحمل معه نصرًا مُؤزّرًا تُقرُّ فيه الحركة بالهزيمة الكاملة، ولن يستَبقى للأخيرة موطئَ قدمٍ فى حاضر القطاع ومُستقبله، وغاية ما تستطيعه أن تعود لِمَا قبل الانتفاضة الأولى، وأن تبدأ ترتيب مسار الإطلالة الثانية على القضية وأهلها بعنوان مُغاير وفلسفةٍ مُحدّثة، ووقت طويلٍ مُرهِق ومُهدَر أيضًا.
احتمالات الخطأ واردةٌ دومًا؛ إنما لا يمنعنى ذلك من استشراف هُدنةٍ وَشيكة، وتوقُّع أن يكون ما بعدها خاصمًا من اليمين المُتطرّف على الجبهتين. المُعضلة أنَّ الذراعين المُتخادِمَتين تُركَتَا لتُصفيّا الحسابات فيما بينهما، فلا رُدِعَ المُمانِعون عن الاشتباك الضارّ، ولا وضعَ الأمريكيون نقطةً مُبكِّرةً فى فاتحة سطور المأساة.
واليوم؛ يتمنّى الصهاينة والحماسيون الوصول إلى عتبة التهدئة، ويتحرّجان من إبداء الرغبة فيها بما يُحمَل على الضعف، أو مُلاقاة الغريم بنعومةٍ تستحثّ فيه مزيدًا من الخشونة والتصلّب.
كلاهما يُريد يدًا تمتدّ إليه وتُخرجه من الحفرة التى أُوقِع فيها أو تردّى بإرادته، شريطةَ أن تحفظ له الحدَّ الأدنى من الكرامة والمصالح الحيوية. نتنياهو يتشدَّد ليأتيه الإملاء من واشنطن؛ فتتيسّر العودة مع ادّعاء البطولة ودون التفريط فى صورة الملك اليهودىِّ وتوراتِه المُلطّخة بالدم. حماس تنتظر مشهدًا ختاميًّا يُتمِّم أسطورة «رجال القدر» ومُحاربى طواحين الهواء، ومَن يثبُت إيمانهم رغم الشدائد حتى تكسرهم العواصف قهرًا.
سنعود غالبًا إلى السادس من أكتوبر، بمَوفورٍ من الخراب والأشلاء، وارتجاج البيئة الفلسطينية لدرجةٍ تُفقدها الاتزان طويلاً؛ غير أنَّ المنطقة ما عادت على حالها، والأرض غير الأرض، والتوازنات أيضًا.
إسرائيل على موعدٍ مع إعصارٍ ارتدادىٍّ من داخلها، ربما لا يترُك لها مُتّسعًا لتهنأ بما تتصوّر أنها أحرزته بامتداد المنطقة طولاً وعرضًا. إيران إمَّا أن تنجو أو تبقى شوكةً فى الحلق، وأطرافها تضمر ولا تتلاشى، وسوريا انتقلت من أجندة إلى سَميَّتِها؛ غير أنها أكثر ذكاءً وتدرُّجًا فى أهدافها.
الاتفاقاتُ الإبراهيمية تعطّلت قليلاً؛ ولن تكون مفيدةً حال تنشيطها كما كان مأمولاً منها. الغزِّيون يتطلّعون للنجاة، مُترقّبين الحدّ الأدنى من الطعام والآمال، والصهاينةُ كسبوا فى التكتيك وخسروا فى الاستراتيجية، وبدّدوا حصيلة عقودٍ من التسرُّب الناعم فى أوردة الإقليم.
إنها الحربُ التى لا تحسمُ الصراعات ولا تُبقيها على حالها، وتُمهِّد لِمَا بعدها من حروبٍ ستّتخذ صورًا شتّى، ويظل لها نفس الأثر الحارق. خطيئة ارتكبها الطرفان فى غزة، وسيَبقيان عقودًا يتمنّيان لو أنهما لم يذهبا إليها، ولم يُفكّرا فيها من الأساس.
Trending Plus