فاصل قد لا يطول فى عُمر سوريا.. العائدون من الإرهاب إلى سرديّة مدنيّة مُلفّقة

من نوادر تيَّارات اليسار المُتعدِّدة فى حقبة الستينيات، أنها كانت تنقسم على نفسها، بسببٍ ومن دون سببٍ أحيانًا. سمعتُ من الراحل الكبير محمود أمين العالم أنهم بينما كانوا فى أحد السجون، سهر اثنان من الزملاء ينخرطان معًا فى تنظيمٍ لا يَضمُّ غيرهما؛ فاستيقظ الموجودون صباحًا على صوت أحدهما زاعقًا بما معناه أنَّ القيادةَ اتَّخذت قرارًا بفَصل قواعدها جميعًا.
وبعيدًا من طرافة الموقف وحقيقته؛ فمغزاه أنَّ التطرُّفَ يحدث داخل الفكرة الواحدة، كما بين الأفكار والرُّؤى المُتضادّة والمُتصارعة أيضًا.
بعض الماركسيين القدامى تحوَّلوا فى كهولتهم أو أواخر أعمارهم إلى الأُصوليَّة الإسلامية؛ فظلَّ المُعتدل منهم مُعتدلاً والمُتطرِّفُ مُتطرّفًا، وكُنت أوصِّفُ المسألة فى الحوار مع الأصدقاء مُستلهمًا الحديث النبوىَّ عن رجال الجاهلية والإسلام؛ إنما بتحويرٍ بسيط مفاده أنَّ "شِراركم فى اليمين شِراركم فى اليسار".
والقصدُ أنَّ المُتشدِّد قد يعبرُ بين الضفاف، ولا يصاحبه فى رحلة العبور إلَّا ما حرّكه أساسًا لانتهاج الحدود القصوى سابقًا؛ غير أنَّ الارتداد قد يقعُ أحيانًا على صورةٍ مُفارقةٍ تمامًا.
يُعرَفُ عن خيرت الشاطر مثلاً أنه كان نشطًا بين زملائه من الطلاب التقدُّميين فى هندسة الإسكندرية، وآلت به الحال لأن يكون نائبًا أوَّل لمُرشد الإخوان، إرهابيًّا وراعيًا للإرهاب ومُموِّلاً لأعماله وعناصره.
كثيرون مِمَّن سلكوا طريقَ الإلحاد والغلظة التنويرية الساذجة نشأوا فى بيئاتٍ مُتزمِّتة، وتشبَّعوا بفائض الخطابات الانغلاقية حتى انفجروا على المشاع، وتفتّحت دروبهم إلى حدِّ السيولة التامّة.
والوسطُ الثقافىُّ يعرفُ أسماء ابتدأت من محطَّة النور، وتوقَّف قطارها فى الظلام الدامس، والعكس كذلك. وبعضُ إرهابيِّى الثمانينيات يُحاضرون الناس فى المحبَّة والفضيلة؛ وما اعتذروا عمَّا جنوه على أنفسهم والآخرين.
ولا أتوخَّى هُنا المُصادرةَ على انتقالات البشر الطبيعية بين الأيديولوجيات، أو داخل كلٍّ منها، بقدر ما أتوقَّفُ إزاءَ القفزات غير المنطقيَّة أحيانًا، وغير المُبرَّرة، وما ينطوى منها على إفراطٍ أو تفريط، كلاهما لا ينسجم مع السويَّة الإنسانية، ولا يُعبِّر عن واقع الشخص وحقيقته.
كأنها دراما مصنوعةٌ، والدراما بطابعها تبحثُ عن العُقدة والتصاعُد، ولا تغريها الحكايات العاديَّةُ البسيطة.
تروجُ فى أدبيَّات الإخوان رواية تفاخر عن حارس حسن البنا الشخصى، واسمه الشيخ فرج، نجح فى اختراق هياكل الحزب الشيوعى المصرىّ حتى صار مسؤولاً مهمًّا فى أحد قطاعاته بالدلتا.
والقصة مُتكرِّرة فى مناديب وخلايا نائمة وزّعتها الجماعة على أحزاب وقوى الفترة الملكية، وعرفنا نماذج منها بعد يناير 2011، عندما أُزيحت الستائر، أو الحكاية الغطاء، عاد من كانوا يسارا أو ليبراليين أو مُناضلين اجتماعيِّين لأصولهم، وصفّوا إلى جوار إخوانهم فى التنظيم.
التطرف عباءة فضفاضة، مُتّسعة ومُخاتلة أيضًا، وتسترُ أكثر من الاعتدال. والخلايا النائمة يكون انتقالها سهلا لو حدث بين بيئتين مُتطرّفتين، وتُعوِّض عن النقيصة القارّة فى أعماقها بالمُبالغة فى التسامح والرزانة؛ لو اضطرُّت أو فُرِض عليها لظرفٍ ما أن تقف بين المُعتدلين.
وما أُريده من المُقدِّمة التى طالت، أنْ أقتربَ بموضوعيَّةٍ لا أُنكر أنها لا تخلو من سوء الظن، وبارتياب مُعلَنٍ قبلاً؛ إنما تُحوّطه سِعَةُ الأُفق وإمكانية التسامح أيضًا، من تجربة الرئيس السورى المُؤقَّت أحمد الشرع، بحسب الاسم الذى وُلد به وعاش نحو عقدين من عمره، أو "أبو محمد الجولانى" بالنظر إلى تجربته الفعلية، ونطاق تشكُّلِه واكتمال ملامح شخصيته.
والباعثُ ليس أنّه انتقل من الإرهاب إلى السلطة، أو من الثورة للدولة كما يُسمّى حال الإزاحة التى أنجزها بالسلاح والابتسامات البلاستيكية، ولا لأنه صار أمرًا واقعًا علينا أن نقبلَه ونتعاطى معه؛ ولو لبرهةٍ عابرة. بل ما يُحفِّزُ على المُقاربة أنه يُتبِعُ قفزتَه الافتتاحيَّةَ الكُبرى بقفزاتٍ أكبر، وتتوالى انعطافاته وتحوُّلاتُه الحادّة على إيقاع لاهث، لا ينسجم مع عمامته القديمة ولا رابطة عُنقِه المُستحدَثَة.
وبصراحةٍ، يصعُب افتراض أنَّ إنسانًا طبيعيًّا بإمكانه إنجاز كلِّ تلك الطفرات المختلفة والمُتعارضة، فى مدى زمنىٍّ أضيقُ من الإلمام بمستوى واحد ضمن كُورس لغوىٍّ مُتعدِّد المستويات، وأن تكون عن قناعةٍ تامّة، أو من عمل الديناميكية العقلية والمُراجعة الفَطِنَة وحدها.
يُدهِشُ الرجلُ أصدقاءه قبل أعدائه، ويصدمهما معًا، ويقول ما لا يفعل، ويفعلُ على الأرض خلاف ما يُطيِّر كلامه فى الأثير، ويأتى الشىءَ ونقيضَه فى اليومِ نفسِه، وربما على ذات الجلسة والحالة الانفعاليَّة الواحدة.
وإذا كان مفهومًا أنّه يُرتِّبُ أولويَّاته على شروط المرحلة ومُقتضياتها؛ فإنَّ الإيحاءَ بتحييد أفكاره القديمة وأُصوله العقدية والحركية المُتجذّرة، قد يكون غريبا بعضَ الشىء، أو غريبًا جدًّا للحقيقة.
لا سيما أنَّ بعض مُحدِّداته الظاهرة تُثبِّتُ ما نعرفُه فى ماضيه الطويل، بسافره ومُضمّره، كأنْ يُرتِّبَ إيران فى جدول العداء قبل إسرائيل، وينشغلُ بهامش حضورها المُتآكل فى ساحله الغربىِّ على حساب توسُّعات الصهاينة جنوبًا، وفى سبيل ذلك يتّصل استباقًا مع العُثمانية الجديدة بنكهتِها السُّنيّة، ويدور فى فلكِها باندماجٍ كامل حتى الساعة.
وفيما يستنكفُ تصفيةَ نزاعاتٍ عمرها 1400 سنة هُنا والآن، فى إشارةٍ إلى صدام معاوية مع على بن أبى طالب، فلا يبدو أنه بعيدٌ تمامًا من ظلال الحالة الأموية ورواسبِها، ولا أنّه يتجاوز الاشتباك الحسينى اليزيدى كما يراه المُرشد الأعلى الإيرانى على خامنئى، ويستطرد فيه مع كلِّ مُناسبةٍ أو ظرفٍ سياسىٍّ.
وإذ يُرَدُّ احتكاره للسُّلطة مع طيفٍ واحد من المُكوِّنات السورية، وتقديم المُقاتلين الأجانب إلى جانبه، على العلويين السوريين الذين عُرِفوا بمعارضة الأسد والثورة عليه، وعلى غيرهم من بقيّة الأطياف؛ فالموقف لا يُعبِّر عن ضرورةٍ حالّةٍ تتَّصل بمُتطلِّبات الهَدم والبناء، بقدر ما يُؤَشِّر على انطلاقٍ من نطاق الفرز الطائفى، وإعادة إنتاج مُحرِّكات النظام القديم على مقلوبِها فى مرآة البديل الأُصولىِّ الجديد.
لو كان السوريِّون جميعًا فى صَفِّ "البعث" وآلته الشموليّة ما اندلعت الغَضبةُ الشعبية فى 2011 من الأساس، ولا امتدَّت الحربُ الأهليَّةُ لأكثر من ثلاث عشرة سنة، وصولاً لهروب بشار ليلاً إلى موسكو، وتصعيد آخر الخيارات وأبعدها على الإطلاق.
الاستبعادُ اليومَ لا يتولّدُ عن حاجةٍ للتجانُس فى زمن إرساء السُّلطة الثورية وإلباسها عباءة الدولة، ولا عن شَكٍّ فى الانتماء والولاءات تجاه عشرين مليونًا أو يزيد؛ بل عن إيمانٍ صارمٍ وعميق للغاية بفكرة القبيلة المُؤمنة وفسطاط الخير، ونزوعٍ إلى إرساء ركائز أُصوليَّة تُعيدُ هندسةَ المُجتمع الفسيفسائىِّ العريض لصالح أحد ألوانه دون غيرها، وهذا مِمَّا يُعبِّرُ عن الذهنية المُتطرِّفة التى تُلازِمُ القائدَ فى انتقالته الحدّية؛ إنما بأدواتٍ سياسيَّة أقلّ صخبًا، وعبر تقنيَّاتٍ رماديَّة للخداع والتلبيس؛ غير أنَّ ما يزيدُها مُراوغةً أنها تتلازَمُ مع تنويعٍ فى الخطاب والمُمارسة، وإطلالةٍ مقصودةٍ على مسرح الأحداث بأكثر من وجهٍ ونبرة صوت.
يُسوِّقُ الرجلُ نفسَه للعالم على خلاف ما يُقدِّمُها للسوريِّين. يَنشُد الانفتاح خارجيًّا ويُضيِّقُ على الداخل، يتفاوض ويتواءم ويقف على نقاطٍ وسيطة هناك، وينفرد ويتشدَّدُ ويُغرق فى الشُّموليَّة هُنا.
يطلبُ رفع العقوبات القائمة من زمن البعث، ويُعاقب أغلبيّة المَشمولين بها على حقبة الأسد التى تضرَّروا منها كغيرهم، وربما أكثر منه شخصيًّا. يصمُت عن الاحتلال شمالاً وجنوبًا، ويُروّعه بحثُ الأكراد عن صيغةٍ لا مركزيَّةٍ شرقًا، أو مُطالبة الدروز الاحتفاظ بسلاحهم فى سياقٍ من السيولة والانفلات وهيمنة الميليشيات.
لا يمنحُ شُركاء الوطن مساحةً فى الجغرافيا والاهتمام والدستور ومرافق الحكم؛ بينما يتلقَّى الأوامرَ من الحُلفاء وفق أجندةٍ "فوق سورية" واضحة، ويتفنَّنُ فى إعداد الهدايا للأعداء على فواصل ضيِّقةٍ، ومن دون مُطالبةٍ أو مُقايضة أو مكتسبات مادية ومعنوية عاجلة أو آجلة؛ وإلَّا كان أعلنَها أو بشَّر بها على الأقل!
قبل أيَّامٍ قليلة أعلن نتنياهو بفخرٍ أنهم استعادوا رفات الجندىِّ تسفيكا فيلدمان، وكان مفقودًا منذ معركة "السلطان يعقوب" فى منطقة البقاع، على هامش عمليَّةٍ داخل العمق السورى بالتزامن مع غزو لبنان واحتلال عاصمته.
ومن الطبيعىِّ أن يستعرض رئيسُ حكومة الاحتلال، ويُصوِّرَ المسألةَ على معنى النصر بعد جهد استخبارىٍّ وعسكرى؛ غير أنَّ شيطان التفاصيل سرعان ما ربطَ الخيوط ببعضها، وأبان عمّا كان خافيا أو يُرَادُ إخفاؤه.
إذ قبل ذلك بيومين فقط، اعتقلت أجهزةُ الأمن السوريّةُ شخصيَّةً فلسطينية بارزة: الأمين العام للجبهة الشعبية/ القيادة العامة طلال ناجى. وهو مَعروفٌ بقُربه من رئيس الاستخبارات العسكرية السابق فى دمشق اللواء على دوبا، وكان على اتِّصالٍ وثيق بزعيم مُنظَّمة التحرير الراحل ياسر عرفات.
يعدها، عُرِضَت رُسومٌ بخَطِّ يد "أبو عمار" تُوضِّح مكان مقبرة الجندىِّ الصهيونىِّ فى محيط مُخيَّم اليرموك؛ وتبدّى أنَّ التوقيف كان بغرض التحقيق واستخلاص المعلومات، وأنَّ التابوت العظيم كان هديَّةً من قائد الثورة للمُحتلِّين الأكابر؛ رغم أنهم استقبلوه بالتصعيد، وشوّهوا وفادته الكريمة باقتطاع مزيدٍ من جغرافيا الجولان وصولاً لمرتفعات جبل الشيخ، ودمّروا ما تبقّى من أصولٍ لدى الجيش العربى/ الدولة، إلَّا لو كان يعُدّها من مُمتلكات الأسد وعائلته الزائلة، ومحلّ اختصامٍ أيضًا كما تُختَصَمُ بقيَّةُ ملامح الثقافة الدولتية فى الشام التًّعِس.
وما يُرجِّحُ الظنونَ أنَّ الصهاينة سَعَوا لاسترجاع الجثمان مرَّاتٍ عدّة وأخفقوا، قبل الحرب الأهلية وبعدها، وفاوضوا وهدَّدوا واستخدموا الحِيَل والألاعيب والعُملاء، وما توصَّلوا لشىءٍ ظلَّ مخبوءًا لعقودٍ فى صدور نفرٍ قليل من قادة سوريا وفلسطين.
وقبل أن تتكفَّل الشُّبهات بتبديد الإدانة؛ عقب الجولانى على الجِزية المُقدَّمة لتل أبيب بأحسن منها وأقيَم؛ فأعاد لها وثائق جاسوسها الذهبى إيلى كوهين، بعد ستَّةِ عقودٍ من إعدامه فى قلب دمشق، وجهودٍ حثيثية لم تتوقَّف من يومها للتوصُّل إلى أىِّ أثرٍ منه.
صناديق مُعبّأة بوثائق ومُقتنياتٍ تُقارب 2500 قطعة، انتُزِعَت من أقبية الاستخبارات السياسية لتُرسَلَ مشمولةً بالتودُّد إلى الموساد. وبحسب رويترز؛ فإنَّ مسؤولين من الإدارة الجديدة أكَّدوا لها أنَّ العطيَّة مُنِحَت بعلم الشرع/ الجولانى، والعِلمُ هُنا فى الغالب صيغةٌ مُخفَّفة من القرار أو التوجيه، إذ لا يمكن الذهاب إلى صفقةٍ بهذا الحجم، وعلى ذلك القدر من الأهمية، بعنايةٍ أدنى من المستوى الرئاسى، أو دائرته المُباشرة اللصيقة.
بالتزامن مع ما يجرى فى الكواليس، كان روبرت فورد، السفير الأمريكى السابق لدى سوريا والجزائر، وأحد أبرز الأسماء الدبلوماسية فى الولايات المتحدة، يُحاضِرُ فى ندوةٍ نظَّمها مجلسُ بالتيمور للشؤون الخارجية مطلعَ مايو الجارى، وعرفَتْ الميديا العربيَّةُ بها من قناة المجلس على موقع يوتيوب.
وخُلاصة الكلام؛ أنه انتُدِبَ قبل سنتين تقريبًا للعمل ضمن ورشةِ تأهيلٍ غربيَّة للجولانى، بالتعاون مع مُؤسَّسةٍ بريطانية غير حكوميّة تنشَطُ فى مجال حلِّ الصراعات.
كان الغرضُ تخليص قائد هيئة تحرير الشام من ماضيه، وإلباسه رداءَ السياسة؛ ليكون قابلاً للتسويق والحلول بدلاً من رأس السلطة فى دمشق. وبحسب إفادة "فورد"؛ فقد وافق بعد تردُّدٍ عميق، التقاه أكثر من مرَّةٍ فى معقلِه القديم داخل إدلب، وأدار معه حوارًا سلسًا وفق تعبيره، تحدَّث فيه شريكُ الطاولة عن أنَّ تكتيكات العُنف فى العراق تختلف عن حُكم أربعة ملايين فى دُوَيلتِه القائمة وقتَها بالشمال السورى؛ لكنه لم يعتذر عن عملياته الإرهابية فى البلدين.
ولا يختلف هذا عمّا جاء على لسان الجولانى نفسِه لاحقًا، فى لقاءاتٍ سياسية أو حوارات صحفية، زعم فيها أنه لم يُمارِس القتلَ بيدِه، ولم يُدِن الجريمةَ نفسَها ولا مُرتكبيها من شُركائه وعناصر جماعته.
الخارجية السوريّة ردّت على لسان وزيرها أسعد الشيبانى؛ فلم ينفِ اللقاء أو يُفنِّد محتواه، واكتفى بالقول إنه كان كبقيّة اللقاءات المُتكرِّرة مع آخرين، ووفود الاطّلاع على التجربة الثورية وتطوّرها فى المناطق المُحرّرة؛ بحسب منطوقه. ثم ذهب إلى تحريف النقاش فى مسارٍ عاطفىٍّ مُعتادٍ مع محاولات الخروج من الفخاخ. قال إن "ما تحقق فى 8 ديسمبر إنجاز سورى بامتياز، جاء ثمرة لصمود شعب دفع ثمنا باهظا في سبيل حريته وكرامته".
الشيبانى نفسه صنيعةً خارجية، واستُدعى من مقاعد الدراسة فى إحدى الجامعات التركية لرأس الدبلوماسية فى النظام الوليد. وما صرّح هو ولا قائده بلفظةٍ واحدة عن الاحتلال الجاثم على صدر الشمال السورى، ولا برَّر ترفيع إرهابيِّين أجانب لمناصب عسكرية قيادية، ومن دون الحصول على الجنسية أصلاً؛ كما لو أنه جيش من المُرتزقة والمُستأجرين، أو ميليشيا تتمسُّك بكيانها القديم تحت راية الدولة المُدّعاة.
عندما الجولانى من سوريا للعراق قبل نحو عقدين، كان شابًا مأخوذًا بفكرة النضال ومُقاومة الاحتلال؛ لكنها سار إليها من أردأ المسالك. اختار أن يكون أُصوليًّا مُحاربًا، وأن يتبدّل بين داعش والقاعدة. وما تطوّرت تحوّلاته إلا بعدما سُجِن لدى الأمريكيين لفترة غير قصيرة، ثم خرج بنظرةٍ مُغايرة، ونهج خارجٍ على رفاقه القُدامى، ومَن فى رقبته بَيعةٌ لهم.
كان جلوسه إلى ترامب فى الرياض مشهدًا غريبًا؛ لا لشىء إلا أنه ما يزال على قوائم الإرهاب الأمريكية حتى الساعة. فإذا كان غُرِّر به فى الزحف الأوّل؛ فما المانع من تكرار التغرير داخل الميليشيات والسجون، وإن كان قد غادر محبسَه بحيلةٍ يتوقّى فيها مكر العدوِّ وبطشه؛ فما الضامن من أنه لا يحتال اليوم أو يستمرئ التقية.
يُحتَمَل أنه كان مُجنّدًا لمُهمَّة منذ البداية، أو أنه اندفع بحماسة الشاب المُسلم قليل الوعى؛ ثم جُنِّد فى ظلال حماسته لأهداف مُضادّة. لا يُغادر الناس سجون الأمريكيين بسهولة؛ لا سيما لو دخلوها براياتٍ سوداء، وكثيرون من ذات العيّنة قضوا سنوات طويلة فى جوانتانامو وأبو غريب وغيرهما، وأكثر منهم ما يزالون فى مُعسكراتٍ داعش شرقىّ سوريا تحت إشراف كُردى أمريكى.
ما حدث فى ديسمبر لم يكُن بفاعلية سوريّة خالصة؛ وإلا لَتَحقَّق فى مراحل سابقة من عُمر الحرب الأهلية الطويلة. تقاطعت الإرادات على الخلاص من الأسد، بعدما صار عبئًا على رُعاته قبل غيرهم.
التحضير للعملية ابتُدئ قبل سنوات على الأرجح، وفى غضون ذلك سَعَت تُركيا لمحاورة بشّار ثنائيًّا أو ضمن آلية أستانا؛ لكنه أبى واستكبر. ولو تلاقى مع الدعوة لكان قائمًا حتى الساعة؛ وأقصى ما كان يُمكن توقُّعه أن يُحتَفَظ للجولانى بسيطرته فى إدلب، أو يُمنَح صلاحيات فيدرالية ضمن اتّفاق لتقاسُم السلطة؛ كالذى يطلبُه آخرون اليوم، ويستميت من جانبه فى الرفض.
هل جُنِّد الجهادىُّ السابق قبل عبور الحدود بين الشام وبلاد الرافدين، أم فى الأخيرة، أم فيما بعد ذلك. كل الاحتمالات واردة؛ وكلها لو مُدَّت على استقامتها تُخالف ما آل إليه أو يُظهره عن نفسه اليوم، وتُرجِّح التوجُّس إزاء ما يسوقه أمامه من مواءماتٍ ظاهرة، ونوايا خفيّة لإعادة هيكلة سوريا على غير طبيعتها الراسخة.
التطرُّف ذهنيّة وسيكولوجية، وليس عارضًا يتعثّر فيه الناس ويقومون. وإمَّا أنه كان مُتطرّفًا منذ البداية ويُناور الآن، أو أنه كان مُنتحل صِفَة ومزروعًا لأغراضٍ أُخرى. وفيما يُوصّفه البعض بالبراجماتية؛ فالفارق عريض بين العَمليّة الديناميكية، والانتهازيّة التى تتقفّى أثر المصلحة الشخصية خارج كل منطقٍ ووازعٍ وضرورة.
لا يستند الرجلُ لشرعيّة راسخة، ولم يُفوّضه المجموع السورىُّ فى سياسة شؤونهم ومصالحهم العليا. وعليه؛ فإن هامش حركته يجب أن يظلّ محدودًا، ومحكومًا باعتبارات التأقيت والأولويات المُلحّة، دون دخول فى الجوهر والمسائل العابرة للأنظمة والحكومات.
ليس من حقّه أن يفاوض الصهاينة أو يُبادلهم المواءمات والترضيات، وقد أوفد مندوبين للقائهم فى أذربيجان وغيرها، وأهداهم أشياء ثمينة تعود لملكية الدولة السورية وشعبها، ولهما الحقّ الحصرى فى تصريفها كيفما شاءوا، ولا ينبغى أن يحدث ذلك من وراء ظهورهم، ولا لمصلحة فصيلٍ أو أيديولوجيا.
الجولانى قد يكون مُجرَّد فاصل كئيب فى حكايا سوريا، وأعتقدُ جازمًا أنه لن يطول كما يتوهّم، أو يُراهن عليه رُعاته ومُموّلوه. المقدّمات تشى بالنتائج؛ وقد افتتح رحلته من أردأ نقطة مُمكنة، وحطّ من الشام لصالح آمريه الخارجيين، وأهانه لقاء القبول به من الخارج، أو الصمت عليه من المُحتلّ.
وعمَّا قريبٍ سيُدفَع لتنازلات أكبر، أو يتورّط فى خصوماتٍ يتعذّر عليه التوفيق فيها بين الدوائر المُتسلّطة عليه من كل ناحيه. عارُه سيُلازِم من رفعوه فوق الشام، وربما يُكوَون بناره أيضًا. إنها قصّة ماسخة وعصيّة على البَلع، ولم يُقدِّم طبّاخوها ما يُبرِّر اصطناعها إلى الآن. وإذا كانت الحماسَةُ الثورية وبهجة الخلاص من الأسد لم يصرفا الأنظار عن الشقوق المُتّسعة فى جدار السرديّة؛ فالقادم أصعب من دون شك، بعدما تنتهى السَّكرةُ وتأتى الفِكرة.

Trending Plus