حسين عبد البصير يكتب.. "صلاة القلق" تتويج القلق الجمعى فى الرواية العربية

ذلك اللقاء في مكتبة الإسكندرية
فى يوم من أيام الإسكندرية التى تختلط فيها زرقة البحر برائحة التاريخ، كنت فى قاعة المسرح الصغير فى مكتبة الإسكندرية، حيث تتشابك دروب المعرفة والحكايات، أنتظر بفارغ صبر قرب إعلان القصيرة لجائزة الرواية العالمية للرواية العربية، قابلت الكاتب المبدع الأستاذ محمد سمير ندا بعد أن تم إدراج روايته "صلاة القلق" في القادمة القصيرة. هنأته. وسعدت بذلك جدًا. وسعد الجميع في القاعة كذلك؛ لأنها كانت الرواية المصرية الوحيدة في القائمة القصيرة. وعرفته بنفسي وبصلتي القديمة بوالده الفاضل أستاذنا الكاتب الكبير الأستاذ سمير ندا، صاحب الفضل على الكثير من أجيال الروائيين من أول الأستاذين الكبيرين جمال الغيطانى ويوسف القعيد إلى الأجيال التالية، وأنا منهم، والذى نشر لى روايتى الأولى "البحث عن خنوم"، فى عام 1998، فى سلسلة إبداعات أدبية، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، والتي كان يشرف عليها مع الكاتب الكبير الأستاذ فؤاد قنديل. وقد كتب الكاتب الكبير الأستاذ سمير ندا كلمة مبهر الغلاف الخلفي لروايتي.
ابتسم ابتسامة مرحبة، وقال لي بنبرة خافتة:
"أهلاً وسهلاً. دعواتك لي أن تفوز بالجائزة".
نظرت إليه وقلت بثقة حاسمة:
"سوف تفوز بالجائز إن شاء الله".
ثم دار حوار قصير للغاية بيننا. وانصرف لكي يتلقى التهاني من الموجودين بالقاعة.
ليس لأنني منجّم، بل لأنني كنت أرى وراء الكلمات طاقة إبداعية نادرة. كان الشاب يحمل في داخله ميراثًا إبداعيًا عظيمًا، كونه ابن الكاتب الكبير سمير ندا، الأستاذ والأديب والمربي، الذي علّم أجيالًا أن الكتابة ليست ترفًا، بل قدرًا.
رواية "صلاة القلق" حين يتحوّل النص إلى مرآة وجودية
جاءت الرواية، التي صدرت طبعتها المصرية هذا العام عن دار صفصافة للنشر، لتصدق النبوءة. لم يكن فوزها بجائزة الرواية العالمية للرواية العربية 2025 مجرد تتويج لموهبة، بل كان عودة مجيدة للرواية المصرية إلى مركزها التاريخي، بعد سنوات من الركود والارتباك.
لكن "صلاة القلق" ليست مجرد رواية فائزة، إنها حالة أدبية وفلسفية معقدة، تقترب من كونها تأملًا وجوديًا في القلق الجمعي العربي، ومرآة كاشفة لهواجس عصر مشوّش، يضطرب بين الحنين إلى أوهام الماضي، وعجز الحاضر، وغموض المستقبل.
نجع المناسي.. الجغرافيا الرمزية للعطب العربي
تدور الرواية في فضاء مكاني متخيّل يُدعى "نجع المناسي"، اسمٌ مكثف بالدلالة: "النسيان" و"المناسي" في آن. وكأننا أمام مكان ينسى ذاته، ويتناسى تاريخه، ويُرغم على تصديق كذبة متقنة الصنع.
في هذا النجع، تسقط قطعة نيزك غامضة، فتبدأ معها سلسلة من التحولات العجائبية:
• تشوهات جسدية لسكان النجع.
• اضطرابات نفسية جماعية.
• عودة أشباح الماضي على هيئة أصوات ووجوه.
• تداخل بين الزمان والمكان، والحلم والواقع.
لكن النيزك ليس سوى رمز للنكسة الكبرى، نكسة 1967، التي تحوّلت في الرواية إلى استعارة للنكبات المتكررة التي أصابت الإنسان العربي: من الخذلان السياسي، إلى الانهيار الثقافي، إلى التشظي النفسي.
الشخصيات.. فسيفساء القلق الوجودي
يبني محمد سمير ندا عالمه الروائي عبر شخصيات لا يُمكن التعامل معها كشخصيات نمطية.
بل هي أقرب إلى إسقاطات رمزية وهواجس باطنية:
1. الخوجة: رمز التضليل الإعلامي والسياسي، الذي يعيد بث خطاب عبد الناصر كل ليلة، رغم مرور عقود على النكسة.
2. النحال المجذوب: صوت الحكمة المفقودة، يتحدث بالألغاز، وكأنه شاهد على فناء القيم.
3. الغجرية: تمثل النبوءات الكاذبة والأوهام المريحة.
4. حكيم القرية الأبكم: رمز للصمت الجمعي، العجز عن النطق بالحقيقة.
ومع تقدم الرواية، تنكشف مفاجأة مذهلة:
كل هذه الشخصيات هي انعكاسات نفسية للمؤلف ذاته، الذي يخضع لجلسات علاج نفسي بعد فقدانه المأساوي لابنه في حادث عبثي.
هكذا تتحول الرواية من حكاية قرية، إلى حكاية عقل مضطرب يبحث عن معنى في عالم فقد معناه.
عبد الحليم.. الصوت المُضلِّل
ابتكارٌ ذكي في الرواية كان استخدام أغنيات عبد الحليم حافظ كبداية لكل فصل.
لكن هذه الأغاني لا تؤدي دورها التقليدي كرمز للحنين والرومانسية، بل تصبح صوتًا للذاكرة المضلّلة.
عبد الحليم، الذي غنّى للانتصارات الوهمية، يصبح هنا ضميرًا زائفًا يعيد إنتاج الأكاذيب، ويحفرها في الوجدان الجمعي.
وكأن الرواية تسألنا: "هل نحن ضحايا الأكاذيب؟ أم شركاء في صناعتها؟"
لغة الرواية.. ارتباك جميل مقصود
اللغة في "صلاة القلق" ليست سهلة الهضم.
بل هي لغة مرتعشة، متأرجحة بين النثر والشعر، بين الهذيان والتأمل.
إنها لغة تزعج القارئ عمدًا، تهزه من منطقة الراحة، وتدفعه لمواجهة الأسئلة الصعبة:
• من نحن؟
• لماذا نصدق الأكاذيب؟
• هل القلق قدرنا؟ أم خيارنا؟
اللغة هنا ليست وسيلة للتواصل فقط، بل أداة لزعزعة الثبات، وإشعال القلق الخلّاق.
"صلاة القلق".. نص متعدد القراءات
هذه الرواية يمكن قراءتها على مستويات عدّة:
• كنص نفسي – علاجي: رحلة شفاء ذاتي من فاجعة شخصية.
• كرواية سياسية – اجتماعية: نقد حاد للوعي الزائف في المجتمعات العربية.
• كنص وجودي – فلسفي: تأمل عميق في قلق الإنسان المعاصر.
ومن هنا تأتي عظمتها: قدرتها على أن تكون مرآة لكل قارئ بحسب أزمته.
من سمير ندا إلى محمد سمير ندا.. الامتداد والتجاوز
لا يمكن الحديث عن محمد سمير ندا دون استحضار والده، الكاتب الكبير سمير ندا، أحد أعمدة السرد المصري، الذي خرّج أجيالًا من الكتّاب والمبدعين.
لكن محمد لم يقع في فخ التقليد، بل امتلك شجاعة التجاوز.
كتب من قلب الزلزال، من أعماق الهشاشة الإنسانية، ليقدم نصًا مختلفًا، صادمًا، حقيقيًا.
حين أخبرته يوم لقائنا الأول:
"أنت الكاتب الكبير بعد الكاتب الكبير."
لم أكن أجامل. كنت أرى فيه بذرة مشروع أدبي سوف يصنع فرقًا.
واليوم، تثبت رواية "صلاة القلق" أن النبوءة تحققت، وأن الأدب المصري لا يزال قادرًا على الولادة من الرماد.
لماذا تستحق "صلاة القلق" أن تُدرّس؟
هذه الرواية يجب أن تُدرّس، لا لأنها فازت بجائزة، بل لأنها:
• تجربة سردية متفردة في بنائها وتقنياتها.
• وثيقة نفسية عن الإنسان العربي المعاصر.
• عمل أدبي يلامس الفلسفة والأنثروبولوجيا والسياسة في آن.
• دعوة إلى المصالحة مع القلق، لا الهروب منه.
إنها ليست "رواية"، بل "صلاة"..
لكنها صلاة بلا إجابة، سوى المزيد من الأسئلة.
الأدب الحقيقي لا يطمئن.. بل يقلق
وهذا هو جوهر "صلاة القلق": أن الكتابة الحقيقية هي فعل قلق، ومقاومة للنسيان، وشهادة على الوجود.
تحية للمبدع الأستاذ محمد سمير ندا، الكاتب الكبير، ابن الكاتب الكبير، الأستاذ سمير ندا.
Trending Plus