سلامٌ عليه.. فوقنا حمام الحمى عدد نجوم السما.. حرمة مكة تمنحه الحصانة من الصيد أو الإزعاج.. المصريون يحملون له الطعام من القاهرة.. يلتقطون معه السليفي وفيديوهات.. وأسرابه تخطف العقول والقلوب وتسر الناظرين.. صور


"فوقنا حمام الحمى، عدد نجوم السما".. لم تكن كلمات بيرم التونسي مجرد وصف شعري، بل هي صورة واقعية تتكرر كل لحظة في محيط الحرم المكي.
مشهد لا ينسى، حتى لمن لم يحج بعد، بل يسمع به ويراه في صور وفيديوهات الآتين من الرحلة المقدسة، تحمله ذاكرة المشاعر والأرواح.
حمام الحمى ليس مجرد طير يحلق بحرية في سماء مكة، بل هو طيف من طمأنينة، وجناح من نور يظلل الزائرين، يرفرف فوق رؤوسهم كأنه يستقبلهم ويبارك قدومهم، كأنه رسول محبة وسلام في أرض السلام. لا يزعجه أحد، ولا يهرب من أحد، وكأنه على يقين بأن من يسير تحت أجنحته جاء بقلب منيب، وروح تطلب المغفرة.

الحمام
في شارع إبراهيم الخليل، أو عند جسر الحجون، وفي كل زقاق ضيق أو ساحة فسيحة، تجد هذا الحمام بألوانه الزرقاء المائلة للرمادي، يسرح ويأكل ويتمشى بين الناس، بلا خوف ولا حذر، يميل برأسه كأنه يتفقد وجوه العابرين، ويتذوق ما يقدم له من حب وذرة وماء بارد.
وعلى غير عادة الطيور، لا يحلق بعيداً، ولا يعشش فوق الكعبة، بل يطوف حولها كما يطوف الحجاج، بتواضع وخشوع.
المصريون – كعادتهم في التعلق بالتفاصيل – لا يمرون على حمام الحمى مرور الكرام. منذ لحظة صعودهم الطائرة من القاهرة أو أي من المدن المصرية، يحملون معهم أكياس الذرة الخاصة، ويخططون للمشهد: إطعام الحمام، ثم التقاط الصور، ومشاركتها على "فيسبوك" و"واتساب" مع عبارة من نوع "أنا وهو في الحرم"، أو "الحمام بيحب المصريين".
وهم لا يمزحون، فكثير من الحجاج المصريين يزعمون أن الحمام بالفعل يقترب منهم أكثر، ويأكل من أيديهم، ويتجمع حولهم كما لو كان يميزهم. وفي لحظة التقاء العين بالعين بين الحاج والحمام، يشعر الأول بشيء يشبه المصافحة، أو ربما المبايعة على السلام، وكأن الطير يبارك خطواته ويأذن له بالدخول إلى قلب مكة.
بعيداً عن العاطفة، لا يمكن إنكار أن لهذا الحمام وضعاً خاصاً، فحرمة مكة تمنحه الحصانة الكاملة من الصيد أو الإزعاج، وهو ما جعل أعداده تتكاثر بشكل مدهش، حتى غدا من معالم المدينة الحية.
لا شرطة لحمايته، ولا قانون وضعي يحظر التعرض له، بل هو القانون الرباني، نص عليه الدين، واحترمه الناس، بل وتوارثوه جيلاً بعد جيل.

الزميل محمود عبد الراضى
ورغم تعدد الروايات حول أصله، من الحمامتين اللتين عششتا على غار ثور أثناء الهجرة، إلى كونه سلالة الطير الأبابيل التي رمت أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، إلا أن الأكيد أنه اليوم صار رمزاً بصرياً للسكينة، مثل زمزم، مثل رائحة العود، مثل صوت الأذان من الحرم. لا يغيب عن البال، ولا يغيب عن الصورة.
السعودية من جهتها وفرت له الأبراج والمظلات والمكان، كما في أعلى شارع المسجد الحرام قرب جسر الحجون، حيث تُلقى له الحبوب كل صباح.
الحجاج يتجمهرون، ليس فقط لإطعامه، بل للفرجة، للتبرك، للتصوير، أو حتى لمجرد الابتسام، وفي ازدحام الطقوس، يصبح هذا المشهد واحداً من لحظات الهدوء النادرة، التي تلتقط فيها الروح أنفاسها.
حمام الحمى لا يطير هكذا فقط، بل يحمل في جناحيه تاريخاً وروحاً. وله هيئة تميزه عن كل طيور الأرض، بزهو لونه وتمايز ريشه، وله خصوصية جعلت أهل مكة يعتادون حضوره كما يعتادون طلوع الشمس. بل ربما صار جزءاً من نسيجهم الروحي واليومي، يرافقهم في الطرقات، ويزورهم في الميادين، ويقف أحياناً على النوافذ كزائر خفيف الظل.

محمود عبد الراضى
ولأننا نعيش في زمن الكاميرات واللحظات الملتقطة، بات حمام الحرم شريكاً أساسياً في صور الحجاج، خاصة من الجيل الجديد الذي يحب توثيق كل شيء. لكن حتى من لا يوثق، تبقى اللحظة محفورة في الذاكرة، وتبقى العيون معلقة بالجناحين وهما يضربان الهواء كأنهما يعزفان لحناً قديماً.
وفي آخر المشهد، ستسمع صوتاً يشبه الدعاء، أو ربما التمني: "يا حمام الحمى.. سلّم لي على الحبيب". صوت يخرج من أعماق القلب، ولا يُسمع إلا هناك، في ذلك الركن من الأرض، حيث لا يطير الحمام عبثاً، بل يطوف بالحب.
Trending Plus