عن تفعيل الحرب وعن تعطيلها أيضا.. هل راهنت حماس على كل الخيارات إلا فلسطين؟

حازم حسين
حازم حسين
بقلم : حازم حسين

يُحاصَرُ نتنياهو داخليًّا مع اشتداد الصراع بشأن مشروعه للإصلاح القضائى؛ فيأتيه المَدَد من حيث لا يحتسب فى صورة «طوفان السنوار». تتراكَمُ جرائمُه الوحشيَّة على كاهل غزّة المُتعَبَة، ويبدأ الضمير العالمى فى استفاقته الثانية، بطيئًا وعلى استحياء؛ فيسعفُه مُختلٌّ أمريكىٌّ يُطلق النار على يهوديين من فريق سفارته فى واشنطن؛ بما يصلُح لاتخاذه ذريعة لتمرير موقفه والتصويب على منتقديه.

صار مُلخَّص الحكاية منذ سنتين أنَّ نازىَّ تل أبيب المسعور لا يتوقَّف عن الأخطاء؛ فيما لا يملُّ خصومُه من إزجاء هداياهم المجانية إليه. وبهذا وحده؛ نجح فى الانتقال من فلسطين إلى لبنان تحت ستار الرد على «حرب المساندة والإشغال» من جهة حزب الله، وأجهَزَ على أطلال النظام البعثىِّ فى سوريا فاتحًا الطريق لبديلٍ لا تخلو وفادته من مكاسب أكبر، ويمُدُّ يدَه الطُّولى إلى أرجاء اليمن، ولا يتوقف عن التحرُّش برأس المٌمانَعة فى عُقر دارها.

خسر القليل جرّاء مغامراتِ الأُصوليَّة المُضادَّة لدولته وائتلافه اليمينى؛ ثمَّ ربح أضعافًا مُضاعَفَة، وما يزال يُراكِمُ المنافعَ على الرغم من كلِّ جناياته الموصوفة، وشعارات أعدائه، ورومانسيَّة الراديكاليين والمُتأجِّجين عاطفيًّا، ومَنْ يتسلَّط عليهم التفاؤلُ فى مواضعَ لا تحتملُ أىَّ استخفافٍ أو مُبالغات.

والتذرُّع أو الاكتفاء بالكُلفة الدموية الباهظة، وانعكاسها على الواقع والسرديَّة؛ إنما يصرِفُ النظرَ بسطحيَّةٍ فجّة عن طبيعة إسرائيل، ونشأتها، ومسار تطوُّرها وامتدادها جغرافيًّا وسياسيًّا. كما لو أنها وُلِدَتْ ولادةً عادية، أو وفق توافُقاتٍ ناعمة مع مُحيطها وجوارها اللصيق.

إنها كيانٌ مُلفَّقٌ ودموىٌّ منذ اللحظة الأُولى، يعيش على حدِّ السكين، حسب روايته عن نفسه، ولم يتوقَّف يومًا عن غرس نصلِه الحاد فى كلِّ رقبة يطالها. ما يجعلُ اللوثةَ الدائرة منذ خريف العام قبل الماضى مُقامرةً مُكتملةَ الأركان، واستمراء تعليقها تحت رحمة الوقت والنَّفَس الطويل غباءً لا يفوقُه غباء؛ إذ لا يُنتَظَر من الصهاينة سلوكٌ مُغاير، ولن تُفضى الضغوط الخارجية إلى تحرير المشهد ووضعه عند نصاب قويم.

وليس من صالح الطرف الضعيف أن يخوض «مُنازلات الموت» فى أقفاص مُغلقة، ولا أن ينتظر الانفراجة والتحوُّلات الدرامية المُنقِذَة، فى حكايةٍ كُتِبَت وتحدَّدت توازناتُها وأُغلِقَتْ دفاترُها منذ أمدٍ بعيد.

قالت حماس فى صدر هجمتها إنها تُوطِّدُ لمسار التحرير الكامل والنهائى، ما يعنى ضمنيًّا أنها جاهرت برغبتها الدائمة فى مسح إسرائيل من الخريطة، ومهَّدت لعدوِّها بطبيعة الحال أن يفتتح عدوانه من النقطة نفسها، وتحت ذات السقف العالى.

والواقع أنه ما نفعَتها لاحقًا العودةُ إلى دعايات تحريك القضية، أو الردّ على تجاوزات الاحتلال؛ بعدما أطَّرَتْ المواجهةَ ضمن صيغةٍ حدّية صِفريَّة، عنوانها أن «نكون أو لا نكون»، وسارت على هَدى الفكرة من يومها حتى الآن.

تضعُ التنظيمَ قبل بيئته، والسلاح فوق البشر، والأيديولوجيا نائبًا ومُمثِّلاً وحيدًا عن القضية، تلك التى لم تعرِف طوالَ تاريخها لونًا واحدًا، وجرى الصراع عليها داخليًّا وفى أعطاف الحاضنة العربية، بأكثر مِمَّا كان مع المُحتلِّ بظلاله المُباشرة، وتمثذُلاته الثقافية والسياسية، المحمولة من الغرب إلى الشرق مع سُفن المهاجرين وأسلحة العصابات الصهيونية.

والأزمةُ على الحقيقة أنَّ حروب الحركة الإخوانية مُنِحَتْ صِفةً وطنيَّةً غير دقيقة، وعُمِّمَتْ على المجال العام بنتائجها، دون أيّة شراكة فِعليَّة وأمينة معه فى مُقدِّماتها.

فكأنَّ الفصيل يخوضُ معركتَه بالفائض البشرىِّ الواقع تحت رحمته قهرًا، ويستعرض على أبدانهم بطريقة لا تختلف كثيرًا عن استعراض النازيِّين الصهاينة. أو لنَقُل إنها المقلوب عنها فى مرآةٍ مُستوية تمامًا: الجيش المُسلَّح حتى الأسنان يتَّخذ اللحمَ الحىَّ مجالاً للتعبير عن القوَّة والفاعلية، وسعيًا للإرعاب واستعادة الردع، أمَّا «القسَّام» وفصائلها الرديفة فيعتبرونهم هامشًا مفتوحًا للتوظيف السياسى، يُؤمِّنون النطاقَ المطلوب من الدروع البشرية، وحالَ الوَصْم والاختصام الإنسانى مع وحشٍ لا يُخفِى أنيابَه أصلاً، ولا يرتجِفُ إطلاقًا أمام نوافير الدم المُتفجِّرة وهديرها الصاخب.

والحال؛ أنَّ الرقصةَ افتُتِحَتْ من دون استعدادٍ، واستُدعِىَ الشريكُ بخفّةٍ لا يُحسَدون عليها، وبتغييبٍ مُغرضٍ لاعتبارات التكافؤ والخواصر الهشّة لدى الطرفين. فيما اللوم الأكبر بات يتخطّى المعركةَ الأُمَّ، إلى التمسُّك بإدامتها أو المُماطلة فيها، لا لشىءٍ إلَّا أنَّ الحماسيِّين لا يريدون سدادَ تكاليف المُغامرة من رصيدهم المُتآكل، ويرتاحون لاستخلاصها ببطءٍ وفوائد مُضاعَفَة من حياة المدنيِّين وأرواحهم.

والمسألةُ هُنا ليست فى إطار العدالة والحقِّ وكلِّ القِيَم السامية، الثابتة وغير المُختَلَف عليها قطعًا؛ إنما فى انعدام الحصافة وافتقاد الديناميكية، والتعامل مع سياقٍ وطنىٍّ مُركَّب، من منظور الجماعة الفئوية، وباحتكامٍ كاملٍ ونهائىٍّ إلى الأولويات التنظيمية، وأغراضهم فى البقاء، أو الطفو على سطح مُستنقَعٍ آسنٍ، لم يعُد الإمساك بزمامِه مضمونًا ولا مُغريًا.

بَيدَ أنَّ الانسداد نابعٌ بالأساس من اختلال التعريف، والإصرار على التوصيف المُشوَّه للوقائع بمَعزلٍ عن المُلمّات الثقيلة من حولها. وأوَّل الخطايا أنهم نظروا للطوفان بوَصفِه حربَ وجودٍ، لا مُجرَّدَ معركةٍ ضمن صراع طويل وليس فى وارد الحسم قريبًا.

والفارقُ بين الصِّفَتَيْن؛ أنَّ الثانية تقبلُ الهزيمة والارتداد إلى حدود الإنقاذ المُمكِنَة، فيما الأُولى لا تحتملُ سوى المضىِّ إلى آخر مدىً، واحتمال النزف المُتدرِّج بدلاً عن كَىِّ الجراح، ومَنعها من التمدُّد وابتلاع ما تبقّى من الجسد المُثخَن.

فكأنَّ الحركةَ تفرضُ على فلسطين أن تستدرِكَ تُراثَ مأساتها اليوم كاملاً، أو لا بديلَ عن التمادى فى المآسى ومُضاعفة أعبائها. وكأنَّ القضيَّةَ مَرهونةٌ ببقاء الوكيل لا الأصيل، وهزيمة الجُزء تُعتَبَر فى عمق الوعى الأُصولىِّ هزيمةً للكُلِّ معًا، ومن دون فرزٍ أو استثناء.

ولا حاجةَ للتذكير بأنَّ الأزمة سابقةٌ على حماس، ولادةً وفِعلاً، ولن تنتهى بانقضاء حضورها أو غيرها فى المشهد الراهن. عينُ اليقين فى الحقوق العادلة أنها أكبرُ من آحاد الناطقين باسمِها، وأبقَى، ولا سبيلَ لتصفيتها من دون مُساكنةٍ هادئة ومُقنعةٍ للطرفين لا أحدهما؛ حتى لو استطاع أىٌّ منهما أن يُزعِجَ الآخر أو يفرض عليه خياراتٍ غاشمة.

وبهذا؛ تتحدَّدُ الضرورة الوَقتيَّةُ باستدراك ما فات منذ عملية الغلاف، وتجنُّب الاندفاع فى مساراتٍ ثَبَتَ عمليًّا أنها لا تخدِمُ النضالات التحرُّرية على المدى الطويل، ولا تُقوِّضُ وحشيَّةَ العدو، وتُعزِّز الذرائعَ لديه بأكثر مِمَّا تُحرِجُه إحراجًا فعَّالاً ومُثمرًا.

لم يتوقَّف الاحتلال عن اختراق بنود الاتفاق مع لبنان شمالاً؛ لكنَّ التكاليف أقلّ كثيرًا مِمَّا كانت عليه فى شهور الاحتدام الصاخبة. والتغيُّر هُنا ليس نابعًا من تعقُّلٍ لا يعرفُه العدو أصلاً، ولا من الانكسار الذى طال «حزب الله» وقادتَه ومرافقَه وإمكاناته اللوجستية؛ بل من تفعيل أثر الحرب بوَصفِها وسيلةً خَشِنَة لتحديد المُنتصر والمهزوم، وما تلا ذلك من إرساء مُعادلةٍ تبدو فيها تل أبيب رابحةً، وتُقرُّ الضاحيَّةُ بالخسارة؛ ولو ضِمنيًّا، وتحت ستارٍ من المُراوغة الخطابية وادّعاء المَنعَة، لمجرّد الدفاع عن السمعة وتثبيت البيئة الشيعية لا أكثر.

ولولا النزول على شروط الميدان؛ وإن كانت مُختلَّةً وظالِمَةً؛ لبَقِىَ الاشتباكُ على حال سُخونته السابقة، وتجرّعت الدولةُ كؤوس المرارة التى تُركِّبُها الدويلةُ، وتعجَزُ عن ابتلاعها بمفردها، أو دَفعِها بعيدًا عن الآخرين، مُؤسِّساتٍ وجماعاتٍ وأحوازًا اجتماعيّة؛ فتضطرّهم إلى شُربها رغمًا عن المصلحة الوطنية العامّة.

والقَصدُ؛ أنَّ الحروب بديلٌ طارئ عن السياسة، وبعيدًا من هُويّة المُتسبِّب فيها ونواياه، ومن الأسباب الباعثة على اندلاعها أو البقاء تحت نيرانها؛ فإنها لن تخبو غالبًا من دون اكتمال دورة حياتها الطبيعية؛ لا سيما فى المناخات الهائجة وشديدة السيولة والتداخل والاحتدام.

وتلك الدورة قد تبدأ قصدًا أو عَرَضًا وبخطأ غير مقصود؛ لكنها لا تُغلَقُ إلَّا بعدما تُحدِّد المُنتصرَ من المهزوم، وبعدها يُمكن أن ينفتح بابُ السياسة، أو تتجمَّد الأوضاعُ نِسبيًّا.

لقد استسلمت اليابان فى الحرب العالمية الثانية بعد قُنبلَتَيْن ذَرِّيَّتين، وربما كان بإمكانها المُواصلة واستقبال مزيدٍ من الأولاد الصغار (نسبةً لاسم قنبلة هيروشيما)؛ لكنها كانت ستُلقِى القفَّاز وتُقرُّ بالهزيمة فى كلِّ الأحوال، وبعدما تتضاعَفُ الخسائر، وتصيرُ السياسةُ شهادةَ وفاةٍ، لا فُرصةً لميلادٍ جديد.

وبحثًا عن الشَّبه الأقرب بين الحوادث؛ فإنَّ نازلة غزَّة الراهنة أقربُ ما يكون إلى النكبة الأُولى، فى الطبيعة والمسارات والارتدادات أيضًا. دارَتْ من أوَّلِها على فكرة الإلغاء، وحُدِّدَت بخياراتٍ صِفريَّةٍ لدى كلِّ طَرَفٍ، وأكلَتْ من الجغرافيا والديموغرافيا مثلما يأكلُ العدوان الأخير.

غير أنَّ الفارق الوحيد ربما ينحصِرُ فى تركيب الجبهة المُضادَّة للاحتلال، وأنها تشكَّلت قديمًا من جيوش نظاميَّةٍ تتَّصل بدُوَلٍ عاقلة، ولديها اعتباراتٌ عسكريَّة وسياسية، وقدرة على قراءة الميدان والتعاطى معه بديناميكية، ودون إبطاء.

توسَّعت إسرائيلُ فِعلاً، وقتلَتْ كما وَسِعَها، واستقطعت نصفَ حظِّ الفلسطينيين مَضافًا لِمَا كان منصوصًا عليه لصالحها فى قرار التقسيم؛ لكنَّ الاعتراف العربى بالهزيمة والذهاب إلى اتفاق الهدنة، عَصَما القليل المُتبقِّى أرضًا وبشرًا من مصيرٍ شبيهٍ، أو نزيفٍ أكبر على الأقل.

ومن دون تبسيطٍ أو تحليةٍ للمرارة؛ فإنَّ حرب العام 1948 أنقذت القضيَّةَ بقدر ما أضرّتها، ولولا دخولها لربما كانت مراسمُ الولادة ستَّتخذ أبعادًا أكثر تراجيديَّة، ولولا المُبادرة بالخروج منها لما كان مليونَا فلسطينىٍّ يُقيمون وراء الخطِّ الأخضر حتى الساعة.

والأمرُ ليس تبريرًا ولا استحسانا للاستسلام المُؤذِى فى فَهْم البعض مِمَّن تملؤهم النزعات الانتحاريّة؛ بقدر ما أن نكون قادرين على الذهاب والعودة بالكفاءة نفسِها. ما يعنى أنَّ الخلاف على لَوم حماس فى الطوفان، لا يُمكن أن يمتدَّ للاختلاف فى تقريعها عن إدارتها الخفيفة والاعتباطيَّة لتداعياتها منذ السابع من أكتوبر إلى الآن.

فالواقع أنها تضرَّرت، وتكاد أن تكون أُخرِجَت من الصراع لأمدٍ طويل؛ لكنها تسبَّبت بجانب ذلك فى إذكاء النَّهَم الدموىّ لدى المُحتلِّ كما لم يحدُث من قبل، ورتَّبت أعباء قاسيةً سيدفعُها الغزِّيون لعقودٍ طويلة مُقبلة؛ هذا لو أفلتوا أصلاً من خطط التهجير والإزاحة الديموغرافية التى خرجت من الأدراج لتُوضَع على الطاولة، وتلاقَتْ فيها شهوةُ اليمين المُتطرِّف مع إدارةٍ أمريكيَّةٍ مُنحرفةٍ سياسيًّا وفكريًّا واستراتيجيا، وتنظر للمسائل الحيوية والوجودية باعتبارها صفقاتٍ ربحيَّةً تنتظرُ المُفاوِضَ الذكىَّ، أو الذى يسند البندقية إلى الجدار ويبدأ الحديث عن وصفة عقارية واستثمارية للسلام والتعايش المأمول.

وبهذا؛ لا يُعبِّرُ التشدُّد فى رفض الإقرار بالهزيمة عن مَنعةٍ وصلابة، ولا عن إيمانٍ راسخ كما يتوهَّمُ أصحابُه؛ بل عن تواطؤ ساذجٍ على الذات، ونكايةٍ فى الخصوم المحلِّيّين؛ ولو أفضى الاستخفافُ إلى تربيح العدوِّ على حساب الشقيق.

أتمَّتْ الحروبُ أدوارَها فى كلِّ تجاربنا المنظورة؛ علينا وعلى الآخر. خلال العدوان الثلاثى احتاج المصريون للثبات حتى تكتمل التفاعلات الدولية؛ فخرجوا رابحين مع فارق القوّة والتوازُنات. فى 1967 أقرّوا بالهزيمة سريعًا ودون مُماطَلة؛ فتمكّنوا من بدء مسار الاحتواء وإعادة البناء والتجهُّز للجولة التالية.
وفى أكتوبر 1973 كانت المُعادلةُ الرَّتيبة تحتاجُ إلى طارئٍ يُغيِّر أطرافَها وتفاعُلاتها، ويضعُ الطبقَ ساخنًا على مائدة العالم، بحسب نصيحةٍ غير مقصودة من كيسنجر ولم يُفوِّتها السادات. وليس مجالنا هُنا الجدل فيما يشتبك عليه البعض بين كونها حربَ تحريك أو تحرير؛ فالمُهمُّ أنها أفضت إلى غايتها المقصودة، وبالسلاح والسلام معًا.

وحتى فى اقتحام بيروت 1982، أقرّت منظمَّةُ التحرير بالهزيمة أو أُجبِرَت على هذا؛ فكان خروجُها إلى تونس، ومعه افتتاح مسارٍ أفضَى لتصفية الحرب الأهلية بعد فاصل زمنىٍّ، وصولاً إلى جلاءِ المُحتلّ عن جنوب لبنان من طرفٍ واحد فى العام 2000.

حتى غزَّة نفسها؛ فقد توصّلت إلى الحريَّة النسبية من طريق «فكّ الارتباط»، مع مُفارقة أن يسير فيها النازىُّ الأشرس أرييل شارون بنفسه. صحيحٌ أنَّ المقاومةَ لم تنتصر انتصارًا منظورًا؛ لكنَّ الحرب تعطّلت عن الفعل، وصارت مُكلِّفَةً وقتَها من دون طائل. لا سيما أنَّ حماس كانت فصيلاً عاديًّا، أو «أوّل بين مُتساوِين»، ولم تكن عنوانًا يُبرِزُ نفسَه على حساب الباقين، أو يختزلُ القضيَّةَ فى ذاتِه ويُؤَمِّنُ للمُحتلِّ اصطيادًا سهلاً.

انقلاب العام 2007 خلط السياسة بالسلاح، ووحَّد النظامىَّ والميليشياتىَّ فى رأس واحد؛ لذا لم يكُن غريبًا أن يُرحِّبَ الصهاينة به، وأن يستثمروا فى تثبيت سلطة الجماعة وإغرائها بالانعزال عن رام الله ومُنظمَّة التحرير.

صار بإمكان نتنياهو أن يختصم الحركةَ، بعدما كان يعُدّها ذُخرًا استراتيجيا، وأن يُصوّب من قناتها على السلطة، والعكس؛ فيصير المُسلَّح مرفوضًا لأنه يطلُب الإفناء ولا يعترفُ بالآخر، ويُرفَضُ السياسىُّ أيضًا لعجزه عن الاضطلاع بدوره أو ترويض الامتدادات فوق الفلسطينية فى بيئة القطاع.

والحرب الحالية كلَّما أُرخِىَ حبلُها؛ فإنها تُضعِفُ جناحَى القضيّة معًا، ولا يعود بإمكان المُقاوم أن يدفع المأساة التى تسبَّب فيها، ولا فى مقدور السُّلطة أن تملأ الفراغ الذى يقفُ الأُصوليِّون على أنقاضه، ويرفضون الجلاء عنه ومنحَه فرصةً؛ ولو باهتة، لاختبار الحياة من جديد.

كانت الرهاناتُ الحماسيَّةُ كلُّها على الخارج منذ البداية؛ فإمَّا يتقاطَر المُمانِعون للإسناد وتأجيج حرب آخر الزمان، أو تستفحل المُشكلة وتتضخَّم كُرةُ النار، ولا يتوقَّف تدحرُجُها فى المنطقة طولاً وعرضًا. أن نكون فاعِلِين فى الضربة الافتتاحية ونُبرم صفقةً ثمينةً؛ وفق توهُّمٍ مُسبَقٍ عن تجربة شاليط ومُضاعفاتها العدديَّة، أو ينفجر العدوُّ غيظًا وغضبًا؛ فيُحرق الأخضر واليابس، وتتآكل أُمثولته الحضارية المُدَّعاة وغطاؤه الغربى المُسبَل، ويصير منبوذًا على امتداد العالم.

وفى كلِّ الحسابات، لا تساوى اليَقظةُ الباردةُ عالميًّا أرواحَ ثلاثة وخمسين ألف شهيد حتى الآن، وإعاقات أضعافهم، ومعاش مليونين ويزيد، مع اعتلالاتٍ نفسيَّة لن تبرأ لجِيلَيْن مُقبِلَيْن على الأقل.

أمَّا العالمُ فمن عاداته أن ينسى سريعا، كما نَسِى النكبةَ الأُولى وجرائم يونيو 67 وكلَّ المحارق التى أشعلها العدوُّ، وانطفأت سيرتُها بانطفاء النار. وبُمجرَّد أن يضع العدوانُ الجارى أوزارَه سينصرفُ الضميرُ الغربىُّ عنه، وتعود السرديَّةُ إلى حالها السابقة، وإلى التعثُّر فى أخطائها المُتكرِّرة لأكثر من سبعةِ عقود.
كانت لافتةً زيارةُ الرئيس عباس إلى بيروت، واتَّفاقُه مع نظيره اللبنانى جوزيف عون على تصفية مسألة سلاح الفصائل فى المُخيَّمات، بعيدًا عن الدولة وخارج سُلطتها.

ما أضافت بنادقُ فلسطين هناك شيئًا للقضية على الإطلاق، وأورَثَتْ البلدَ الوادع خسائر ونكباتٍ مُتواليةً؛ وحتى وقتٍ قريب للأسف، عندما أطلقت عناصرُ حماسيَّةٌ عِدَّة صواريخَ هيكليَّةً بائسة على الجليل من شمالى الليطانى، وكادت تُودى بالاتفاق المُهتزِّ أصلاً إلى السقوط الكامل.

والترتيبُ الجديد لا يضبط أوضاعًا مُختلَّة الآن فحسب؛ بل يُعيد التصويب بأثرٍ رَجعىٍّ، وينهى مفاعيل اتفاق 1969 بشأن حرية حركة الفصائل الفلسطينية فى بلد المَمرَّ، فيما يُشبه تحويله إلى مُستَقَرٍّ، وجعلهم سُلطةً فوق السلطة، وهو شِبهُ سَارٍ للأسف؛ رغم أن البرلمان أسقطه قبل قرابة أربعة عقود.

يُغلِقُ التوافقُ دفترَ المُغامرات الأبديَّة، وينهى نزوات حماس فيما وراء النهر والبحر. ومع التسليم بكل الملاحظات على مُنظمَّة التحرير وحاجتها العاجلة للضبط والهيكلة؛ فإنها تُحاول فى تلك المقاربة أن تستدرك على نفسها والآخرين.

قد لا تكون فلسطين دولةً حتى الآن؛ لكنها تحاولُ التصرُّف مثل الدُّوَل، وتلك أول خطوة على طريق التصويب واستعادة كفاءة النضال الوطنىِّ، وقُدرته على التفاعُل مع مُحيطه، وتوظيف عناصر القوَّة الإقليمية؛ على تمايُزها وتفاوت مَواقفِها، بدلاً من الانتقاء بينها أو اختصامها جميعًا.

طلبُ الدولة انطلاقًا من تمثُّلها بقدر الإمكان، أنفَعُ وأكثر إقناعًا من تعقُّبها على طريق التَّمَلشُن والاستتباع والأدوار الوظيفية المُلوَّنة بالأيديولوجيا أو الأحلاف ومصالحها. إقامة حماس فى الوَهم لن تُغيّر واقعَها الصعب؛ إنما ستزيد واقع الغزِّيين وعموم الفلسطينيين مصاعب على صعوباتها القائمة. تُرتَّب للقطاع سيناريوهات سوداء، وتسارعت خُطَط الاستيطان على طريق ضمّ الضفّة، وما كان يُخشّى منها فى أجلٍ بعيدٍ؛ أوقعته الحركة على رؤوس شعبها فجأة، ودون استعدادٍ أو طاقةٍ لدفع المخاطر المُتكالبة.

عوّل المُغامرون على المُمانَعة فبِيعوا، وذهبت إيران لطاولة التفاوض دون أذرُعها؛ قبل أرغمت الحوثيين على إبرام اتفاقٍ مع الشيطان الأكبر. راهنوا على ترامب فخذلهم، وأخذ عيدان ألكسندر ولم يمنحهم شيئًا، وتوهّموا أن ينجحوا بالتشغيب فى توتير علاقته بنتنياهو؛ فتكشّف أنه مُجرّد خلاف على الأولويات، وجدل فى التكتيك لا الاستراتيجية.

فات «حماس» أن تُراهن على الفلسطينيين، وأن تنشغل بالقضية أكثر من انشغالها بالأيديولوجيا. افتَتَحت الحرب وتلك إرادتها؛ إنما عليها أن تعى حقيقة أن إنهاءها يفرض شروطًا، وأهمّها الإقرار بالهزيمة، اليوم أو بعد فاصلٍ أطول وتكاليف أفدح؛ ولو فعلت قبل شهورٍ لرُبَّما قلّصت قوائم الشهداء والخراب العميم.

الأُصوليّة تنتحرُ برعونةٍ؛ ولها أن تختارَ لنفسِها ما أرادت؛ إنما ليس من حَقِّها أن تفرض انتحاريَّتَها على الجميع. حتى الآن ما تزال الأغلبية مُتمسِّكةً بأرضها؛ لكنَّ الخطر الأكبر أن يكفُر الناسُ بالأرض والقضية، وأن يُلاقوا العدوَّ يأسًا على رغبته فى إخراجهم. يجبُ ألَّا تُترَك المسائلُ الكُبرى فى أيدى الصِّغار، وليس أكبر من الأوطان والقضايا الوجودية قَطعًا.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

صور جديدة من كواليس مسلسل 2 قهوة والعرض فى الأوف سيزون

خامنئى: قادرون على الوصول للمواقع الحيوية الأمريكية بالمنطقة

اتحاد الكرة يستقر على إقامة السوبر المصري بمشاركة 4 فرق

محمد صلاح يزين التشكيل المثالي لملوك "القدم اليسرى" فى تاريخ البريميرليج

زى النهارده.. الأهلي يكتسح الكروم بسداسية وأسامة حسنى يسجل 5 أهداف


تحركات سياسية وإنسانية مصرية شاملة لنصرة الأهالى فى غزة ودعم حقوق الفلسطينيين.. خبراء وسياسيون: الدولة لم تكتفِ بالجانب الإنسانى فقط بل تصدت لمحاولات التهجير.. وتسعى لحشد موقف دولى ضاغط على الاحتلال الإسرائيلى

طلاب الهندسة الحيوية بالإسكندرية ينجحون فى تصميم ذراع روبوت بـ6 درجات حرية.. "6-DOF" يُستخدم كمساعد لأطباء الجراحة فى المستشفيات.. تنفيذه يكلف نحو 22 ألف جنيه.. وأعضاء هيئة التدريس يشيدون بالمشروع.. صور

تحريات أمن الجيزة تكشف ملابسات مصرع سيدة فى منطقة أبو النمرس

هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل

وسام أبو على يُخطر الأهلى بالانتظام فى التدريبات الإثنين رغم أزمة العروض


ننشر قوائم المرشحين لانتخابات مجلس الشيوخ عن دائرة محافظة كفر الشيخ

25 سيارة إطفاء تكافح حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر

كهرباء الإسماعيلية يعتمد التشكيل الكامل للجهاز الفنى استعدادا للدورى الممتاز

كانوا راجعين من المصيف.. حادث مروري يتسبب في إصابة 13 شخصا بدمياط

الزمالك يؤدى تدريبات بدنية خاصة بعد الفوز على أورانج وديا

ليفربول يفتح باب الرحيل أمام كوناتي وريال مدريد يترقب

الهيئة الوطنية تنشر آلية استعلام المواطنين عن مقر اللجان بانتخابات مجلس الشيوخ

حبس خادمة 4 أيام لاتهامها بسرقة مشغولات ذهبية من مسكن في أكتوبر

"أوديشن" مسابقة ملكة جمال مصر 2025.. أغلبية المتسابقات من طالبات الطب (صور)

سر تجدد اشتعال النيران في سنترال رمسيس.. مدير الحماية المدنية الأسبق يوضح

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى