عن نقابة الصحفيين ومكتبها ولجانها.. جدل الأغلبية والتوافق وما تبقّى من ثارات الماضى

لكلِّ امرئ من مهنتِه نصيبٌ، كما من اسمه وأصلِه وطبقته ولونه السياسى أيضًا. وما خُلِقَت الفعالياتُ النظاميَّة على تنوّعها إلَّا لإدارة الاختلافات؛ لا لشَطبِها عسفًا أو حسمها بالضربة القاضية.
والصحافة أكثر ما يصدُق فيه التنوُّع والشِّقاق، والمُجادلة الخَشِنَة أو بالتى هى أحسن؛ وذلك إنما ينبعُ من تمايُزاتِ ناسِها أوّلاً، ثمَّ من كَونِها مُشتبكةً دومًا مع المجال العام وصراعاته، ومَعنيّة بالمُناكفة بين القوى الاجتماعية فى كلِّ مستوياتها.
فضلاً عن طبيعتها من جهة أنها صنعةُ كَشفٍ وتعرية، تتأسَّسُ على الذيوع، وتنطلقُ من الساخن وغير الاعتيادىِّ، ولا تكنسُ التُّراب تحت السجادة، كما لا تُحبّ أجواء الغُرَف المُغلقة ولا ترتاحُ لمن يحبونها. فكأنها مُسلّطة على غيرها دومًا، وعلى نفسها قبل الآخرين، وكلَّما اصطخبت أجواؤها صحّت وازدهرت، وكلَّما تحفظت أُورِثَت الرتابةَ وانطفاء البريق. وهذا داخل البيت وخارجه، وفى مطبخها كما فى مشاعِها ومشاع العالمين.
وانطلاقًا من الطبيعة والدور؛ لم أفهم اعتراضات بعض الزملاء على ما تسرّب أو نقلَه أعضاء بمجلس النقابة، عن أجواء وخُلاصات اجتماعهم الأوَّل عقب انقضاء انتخابات التجديد النصفى.
وبعيدًا عن الكواليس وحكاياتها والمآخذ عليها؛ فقد بدا استنكاف الحديث عنها وإخراجها للعَلَن تغليبًا لفكرة الستر فى غير مَواضعها، وتعميةً على ما يستوجب الإظهار، ولا يليقُ إبعاد الهيئة الناخبة عنه بالاطلاع والمواكبة.
فالأصل أننا حينما نطلبُ المُكاشفةَ وإتاحة المعلومات؛ نُقدّم المثالَ استباقًا على ما نرجوه من بقيّة الكيانات والمُؤسَّسات، ولا نزعم لأنفسنا شيئًا من السموِّ على غيرنا، ولا أننا ملائكةٌ فى حقل الشياطين. كلُّنا بشرٌ نُصيب ونُخطئ، ونستند إلى ممارسةٍ عضوية للجدل والاشتباكات الخلَّاقة، لا نخشاها أو نتحرَّج منها، ونستطيع إدارتَها تحت الضوء بأفضل مِمَّا يُديرُ سوانا تناقضاتهم فى الغُرَف المُظلمة.
وإذا كان الاختلافُ مشروعًا ومُتوقَّعًا؛ فالمُجاهرة به أداةُ تفعيلٍ ورقابة وإثراء، وضمانةٌ تعصمُ من الزلل أو استراق الأمور من وراء حجاب.
يعودُ المجلس للالتئام غدًا من نقطة الصفر، أو ما دونها. لا أعرفُ شيئًا عمَّا دار فى فاصل الأيَّام الخمسة بين الاجتماعين، أو ما يُفترَض أنه دار من حواراتٍ مُوسَّعة، ومحاولات توفيقٍ فى القنوات الخلفية بين الرُّؤى المُتقاطعة أو المُتضادَّة.
وللأمانة؛ أتمنّى ولا أتوقَّع أن يُفضِى اللقاء المُرتقَب لأفضل مِمَّا فات، أقلّه على صعيد الاشتباك من دون طعنٍ أو تخوين، والوِفاق بنُفوسٍ سَويَّة راضية، والعمل على أن يكون الإقلاعُ هادئًا؛ حتى لا ترتبك الرحلة من بدايتها.
فالمجموعةُ الفائزة بثقة الجمعية العمومية مُؤخَّرًا ينضمّون إلى النصف المُتبقِّى من المجلس السابق، وسيظلّون فى رباطٍ واحدٍ لسَنتَيْن مُقبلتين. صحيحٌ أنَّ الزمن سيّار فى كلِّ الأحوال، وما يُدَار تحت التوافُق يصحُّ أن يُسَار إليه من دونه تمامًا؛ لكنَّ التجانُس الحَقَّ والفاعليَّة الكاملة مَرهونان بالانضباط على الموجةِ نفسها، واشتراك الأوركسترا كلِّها فى نغمةٍ واحدة.
أُطَرِّد نفسى وأزجرُها منذ خواتيم الأسبوع الفائت. كانت لدىَّ رغبةٌ فى التعليق على الحَدَث، ونجحت فى كبحِها لتأتى قبل المُلتَقَى التالى، بحيث تسير فى ركاب الحَلحَلة وتفكيك الأزمة، بأكثر من أن تكون دخولاً فى المُواجهة المُنقضية، أو يُفهَم أنها استثمارٌ فى اللغط وتسعيرٌ لأَوَاره.
لا مصلحةَ لأحدٍ مُطلقًا فى التعطيل، ولا فى الانفراد بالأمر دون بقيَّة الشركاء. اختبرنا الحالين فى سياقين غير بعيدين؛ أحدهما أبقَى تشكيلَ هيئة المكتب مُعلَّقًا لنحو ثلاثة أشهر، مع إبطاء الإيقاع وحصر العمل فى الضروريات فحسب، والثانى جنَّبَ مجموعةً لصالح أُخرى، فانتظم الأداءُ ظاهرًا فيما يبدو؛ إنما تآكلت القُدرات الكُليَّة، وتشاحنت النفوس من يومِها بعُنفٍ، بعضه طافرٌ وأغلبُه مكتوم، وما تزالُ تُسدِّدُ فواتيرَها حتى الآن.
تتبَّعتُ كلَّ ما نُشِرَ على مدار الأيام الماضية، واقتفيتُ أثرَ أحاديث الزملاء أعضاء المجلس، وتعقيبات مُحازبيهم والمُختلفين معهم، مدحًا وقدحًا، وما توصّلتُ على وجه القطع لخُلاصةٍ شافية بشأن طبيعة الخلاف الراهن، ومُسبِّباته العميقة، بعيدًا مِمَّا يُورَد عن انتماءاتٍ أو تفضيلات وألوانٍ سياسيَّة.
فالأصلُ لدىّ أنه لا شَكَّ فى زميلٍ انتدبته الجمعيَّةُ العموميَّة وكيلاً عنها، ولا مجالَ لاستدعاء نزاعاتِ المجال العام إلى فضاءٍ مهنىٍّ مُجرَّد من كلِّ الاعتبارات إلَّا مصالح أعضائه، وكما لا يُمكن تجنيب الهوى والأفكار الخاصة، من حيث كَونها مُكوِّنًا أصيلاً بين مُكوِّنات الشخصية؛ فإنه لا سبيلَ لإبرازها وتسييدها على ما عداها من أُسسٍ حاكمة للعمل النقابى.
وأحسبُ أنَّ المجلسَ بكامله أنضجُ من التنازُع على ما لا يتَّصل بمهامّهم المُباشرة، أو الطموح لتحويل فاعليَّةٍ وثيقة الصِّلَة بالمجتمع المدنىِّ إلى حزبٍ سياسى، أو منصَّةٍ للفرز والتطييف على قاعدة القُرب من دولاب الحُكم أو البُعد عنه، ولا أقولُ الدولةَ هُنا؛ لأنَّ الكيان بكامله جزءٌ من الدولة ومُؤسَّساتها ونظامها السياسى، وافتراض الخصومة إنما ينبعُ من خِفّةٍ فى النظر للمرفَق وأدواره، أو عدم فهمٍ لطبيعته، تقودُ بالضرورة إلى حَرفِه عن مساره الصحيح، واجتذابه لغير ما بُنِى عليه وله من الأساس.
وما فات؛ لا يمنعُ من التصريح بالوقائع دون حرجٍ أو مُواءمة. فالمجلسُ مُنقسمٌ بين لونين من طرفَى بالتّة الألوان السياسية المعروفة. يصحُّ القول إنهما ينخرطان فى تيَّارين مُتماسِكَين، كما يصحُّ نَفىَ التكتُّل عنهما والنظر إليهما من زاويةٍ فردية، أقلّه لأنهم صعدوا إلى مواقعهم التمثيلية تحت ظلال الفردانية، ودون أن يُختاروا لعِلّةِ أنهم ينوبون عن أيديولوجيا أو تيَّار.
لكن حتى مع شخصنة المسألة، وتحريرها من قيود الشعارات والعناوين الكبرى؛ تظلُّ المُواءمة مطلوبةً بحيث لا يقعُ التنافُس فى مزالق النفسنة والعداء، ولا تعلو نكهةٌ واحدة على غيرها.
ما يجعلُ التوافُقَ السابقَ على تفعيل آلية الديمقراطية والتصويت الحاسم، ضرورةً لقَطع الطريق على نشوء حالةٍ شِبه حزبية من حيث لا يُريدها الأعضاءُ أنفسُهم، أو التشاحن والتباغُض بين مُكلَّفِين بقيادة السفينة وإرسائها على برِّ الأمان، لا باحتكار دَفّتِها، أو خرقِها ليشرب كلُّ واحدٍ فى هامشه مِمَّا مُنِعَ منه فى الحيِّز المُشترك.
والأهمُّ على الإطلاق تحرير النقيب، بصفَتِه العمومية ومظلّته الجامعة من الضغوط المُتبادَلة، مِن أن يُحسَب على طيفٍ دون طيف، أو يُضطَرَّ لتوظيف الصوت المُرجِّح بصورةٍ يعتبرُها جانبٌ منهما انتصارًا له، ويعُدُّها الآخر تأطيرًا للولاية كلِّها ضمن نطاقٍ مُحدَّدٍ وغير مُنفتح على الجميع بالتساوى.
وبحسب ما تجمّعت خيوطُه لدىَّ؛ فقد أقرَّ الأعضاءُ أنفسُهم فى بادئ الاجتماع بأنهم يتوزَّعون على لَونَين، أو لنَقُل على تصوُّرين عن طبيعة النقابة وأدوارها وأولويَّاتها، وتراضَوا فيما بينهم على اقتسام اللجان وهيئة المكتب بينهما.
وبهذا؛ فلا أُوصّفُهم بغير ما وَصّفوا ذواتهم، ولا أُحمِّلُهم فوق ما احتملوه بإرادةٍ وارتضاء خالِصَين. ما يعنى أنَّ المشكلةَ لم تكُن على أغلبيَّةٍ وأقليّة، ولا استحقاقٍ وإنكار؛ بقدر ما كانت على الرواسب القديمة أوّلاً، والخصومات الشخصية، والأوزان النسبية للمواقع المعروضة على الأعضاء.
ولكلِّ طَرفٍ روايتُه التى أذاعَها وأفاض فى شرحها، ولستُ مَعنيًّا بفُروق الروايات التى لا أتوفَّرُ على مصدرٍ حيادىٍّ حاسم تمامًا للجزم فيها؛ إنما على التقاطُعات التى يستحيلُ مع تواتُرِها أن تكون تشغيبًا مجّانيًّا، أو اختلاقًا للتشويه وادّعاء المظلومية.
والثابتُ؛ أنه قِيْل إنَّ بعض اللجان قد لا تكونُ مُتاحةً للتنافُس. روايةٌ تتحدَّثُ عن المُبادأة بأنها مسكونةٌ بأعضاء يشغلونها منذ ما قبل الانتخابات، والثانية تقولُ إنَّ المسألة طُرِحَت تحت عنوان التفضيل والاستحباب، وأنَّ القائمين عليها يرغبون فى استكمال تجاربهم.
والمُحصّلة واحدةٌ بغَضِّ النظر عن تفاوت السرديَّات؛ إذ المعنى المُباشر أنَّ الطاولة سِيْقَ عليها ما يُرتِّبُ مراكزَ غير مُتكافئةٍ لأعضاء مُتساوين تمامًا، تُصعِّدُ الانتخاباتُ نصفَهم حديثًا، وتُحرِّرُ النصفَ الباقى من الدورة السابقة من مواقعهم والتزاماتهم ومزاياهم؛ لتعودَ الولايةُ إلى الجمعية العمومية ضِمنيًّا، بالنظر إلى مُخرجات أحدث اجتماعاتها وفعاليَّاتها الانتخابية.
وربما من النقطة السالفة، تتوالى بقيَّةُ التفاصيل المُثارة بعدها، سواء ما أوردَه طرفٌ وسكتَ عنه الآخر بشأن المُطالبة بثلاثةٍ من أربعة مقاعد داخل هيئة المكتب، أو ما صرّح به أحدُ الزملاء عن استعداده للنزول عن لجنته إلَّا قطعة منها، بمعنى أن يمنحَ المُسمَّى لزميلٍ آخر ويستبقِى الفاعليَّة لنفسِه.
والحقّ؛ أنَّ التفاصيل على الهيئة التى وصلَتْنا، وبحسب أحاديث الطرفين، لا تُشير إلى اجتماعٍ مثالىٍّ إطلاقًا، أو مُنضبطٍ بالحدود الدنيا من نصوص القانون واللائحة والأعراف الثابتة على امتداد مُمارسةٍ طويلة زمنيًّا، وبلغَتْ سِنَّ الرُّشد والنُّضج ربما قبل أن ينضمَّ أعضاءُ المجلس جميعًا لعضوية النقابة.
أمَّا أخطرُ ما طُرِحَ على ألسنة البعض؛ فيخُصّ الفرزَ بين الأعضاء وفقَ العُمر البيولوجى أو المهنىِّ والتجربة النقابية. وقِيْل بصريح العبارة من أحدهم: «عندما دخلتُ المجلس فى العام كذا أعطونى لجنة كذا؛ وما كان لى أنْ أطلُبَ أكثر من هذا»، وتعريضه بنصف المجلس لمُجرّد أنهم مُرشَّحون فى الفئة (دون 15 سنة عضويّة)؛ كما لو أنه يستدركُ على عوارَ القانون، بينما بعضُ الذين يحملون لافتةَ تحت السن داخل المجلس وخارجه كانوا رُؤساء تحرير وأداروا مُؤسِّسات، واضطلعوا بمهامّ لا تقلُّ بأىِّ حالٍ عن لجنة بين حزمةِ لجان.
حتى أنَّ حديث الأعضاء المُبجّلين أغرى داعميهم أو أصدقاءهم على منصَّات التواصُل بالحديث عن «المُستجدِّين» حسب وَصفِهم؛ كما لو أنهم آتون لمقاعد الدراسة؛ وليسوا صاعدين بإرادة الجمعية العمومية لتمثيلها والحديث عنها، وبعضُهم يحوزُ أصواتًا أكثر بفارقٍ كبيرٍ عن أعضاء فوق السن، وربما لديهم تجارب تتفوَّقُ على غيرهم؛ لا سيَّما أن المُتحدّث المُشار إليه كان يتولّى لجنةً أثار فيها من اللغط أضعافَ ما قدَّمَ من جُهدٍ مُثمر ومُنضبط.
وأكبرُ مآخذ الاجتماع على الإطلاق؛ أنه بعدما تفرّقت السُّبل بين المُختلفين، وانقطع مسارُ الحوار، بادر أحدُ الأعضاء مُتّهمًا زُملاءه المُنسحبين بما معناه أنهم يتلقَّون أوامر أو توجيهاتٍ من جهات أو أفراد، وأصرَّ عليها لاحقًا؛ حتى أنه أشار إليها من وراء ستارٍ فى بيانٍ أصدرَه لاحقًا.
والجمعية العمومية لم تنتخب مُمثّليها ليتبادَلوا الاتهامات بدلاً من شراكة العمل، ولا ليُمارسوا شهواتهم الطفوليَّة فى المُزايدة والاستكبار ومحاولات التشويه السهلة والرخيصة.
والحق؛ أننى كنتُ أنتظرُ مَوقِفًا من السيد النقيب بالردِّ على تلك النقطة، ورفضِها واستهجان سُلوك قائلها؛ ولو بتوجيه اللوم. إذ المُفارقة أنَّ القائلَ كان بين المُنسحبين فى موقفٍ شَبيهٍ قبل عدَّة سنوات؛ فلا يُعرَفُ هل يتحدَّثُ عن تجربةٍ مثلاً، أم يتوهَّمُ فى غيره ما ليس فيه، وهل يقبَلُ أن يُسَاقَ بحقِّه ما يسوقُه بحقِّ زُملائه دون بيّنةٍ أو دليل؟!
فالعملُ النقابىُّ يَقبَلُ كلَّ اختلافٍ وجدل؛ لكنّه لا يقبَلُ التجاوزَ والمُراهقة فى غير مكانهما، ولا تصغير المواقع الكُبرى وتكبير الهواجس الصغيرة التى تخصُّ أصحابها دون سواهم.
المهمُّ؛ أنَّ المجلس الذى ارتضى الوِفاق على قاعدة التقاسُم، مُنطلقًا من أنَّ الأعضاء يتوزّعون على كُتلتين مُتساويتين، فُوجئوا بأنه لا تكتُّل ولا مَن يحزنون، بعدما بقى أحدُ المحسوبين على الجانب الآخر دون مُغادرة الاجتماع، وبعدها فقط بدأ الحديثُ من موقع المنّة عن إرجاء العملية إلى موعدٍ آخر، وأنعم تعالَوا على إمكانية الحسم بالتصويت الأغلبىِّ رغم امتلاك نصابه المطلوب.
ولا خلاف على هذا إطلاقًا؛ بل إنَّ النصاب لا يختلُّ أصلاً لو انسحب ستَّةُ أعضاء بدلاً من خمسة؛ لكنَّ المُعضلةَ هُنا أنَّ موقعَ النقيب ينبغى ألَّا يكون مُلوَّنًا أو محسوبًا على طيفٍ دون آخر، والأستاذ المحترم خالد البلشى يعرفُ هذا أكثر من جميع زملائه دون استثناء؛ باعتباره المَعنىَّ المُباشر بمسألة التجرُّد، والواقف على خطِّ التقاطُع بين جبهتين، أو هكذا تُساق الحكاية، وأُشفق عليه حقيقةً من وضعٍ لا يخلو من مُزايدة القريب أو تلميحِ البعيد بالانحياز.
يُمكن أن يُحسَم التشكيلُ فى اجتماع اليوم بالتوافُق، ويظلّ التصويت قادرًا على الحسم حتى حال تكرار الانسحاب؛ لكنه قد لا يكون الخيار الأسلم. ورغم أيَّة مُلاحظات على الإرجاء الطويل فى آخر مجالس الأستاذ ضياء رشوان؛ فإنه كان أفضلَ بما لا يُقاس بكُلفة إذكاء التشاحُن والمُناكفات المجّانية والمُعطِّلة بين زملاء مُكلَّفِين بمهام، ومناط تكليفهم أن يَرعَوا مصالح الأعضاء جميعًا دون حساباتٍ ضيِّقة أو واسعة، ولا أية حسابات تتخطّى حدود النقابة ومبناها القائم على فوّهة شارع عبد الخالق ثروت.
والبديل الوحيد الموضوعىُّ والمُثمر عن التعطيل أو المُغالَبة؛ أن يرعَى النقيبُ مهمَّةَ إنجاز التوافُق بين المختلفين؛ انطلاقًا من مُراعاة شواغل الطرفين، وعلى قاعدة التكافؤ الكامل فى المراكز، والتوازُن فى الحضور والفاعلية، ومُراعاة التوزيع العادل بحسب الأوزان لا الأعداد.
مقاعد هيئة المكتب ليست كلها سواء، ولا اللجان أيضا. السكرتير العام أثقل وزنًا من بقية المواقع، ووكيل القيد هو الوكيل الأول وأهم طبعًا من وكيل التسويات، ولا تتساوى لجنة النشاط مع الرعاية الصحية أو التدريب مثلاً.
والواجب مراعاة التوازن العام فيما يخص التشكيل كاملا، وليس فى كل جزء منه على حدة؛ أى أن يُعوَّض الفارقُ بين السكرتير والقيد فى لجنتين متقابلتين، وبين الوكيلين كذلك، وهكذا حتى تتوزع مواقع هيئة المكتب وأهم اللجان باتّزان دقيق ومحسوب، ثم يُنظَر فى البقيّة.
صحيحٌ أن هذا ليس فرضًا ولا التزاما على النقيب، ويحق لمن يستطيع تأمين الأغلبية أن يأخذ كل شىء ولا يترك شيئا للآخرين؛ لكن هذا السلوك ممَّا لا يُؤسِّسُ لمسارٍ صحيح ولا يُنجِزُ عملا نافعًا، والذهاب إلى التصويت خارج التوافق سيكون شبيهًا بالابتلاع الكامل؛ ولو حرص الذاهبون على إبقاء ما يوحى بالديمقراطية مع التشارك والبعد عن الاحتكار والإقصاء.
لستُ منحازًا لأحدٍ دون الآخر، كلُّهم زملاء أعزّاء ولديهم شرعية الجمعية العمومية. ولن يمنعنى الاختلاف فى الفكر أو المهنة أن أنتظر منهم جميعًا القيام بدأبٍ وتجرُّد على مصالحى وبقيّة الأعضاء.
السياسة فى حد ذاتها ليست وباء، والناس مهما اجتهدوا لن يتمكنوا من خلع انتماءاتهم بالكامل قبل الدخول فى عمل مدنى نقابى تطوّعى. وكل ما أرجوه أن تُستَبقى الخلافات دون حد الجدل المعطل، والتلوين الفج، والشحن واستعداء بعض أطياف الجمعية العمومية على بعض.
قلت فى مقال سابق إننى وقفت على الفرز؛ ولم أجد وفق تقييم تقريبى أكثر من عُشر الأصوات تصفو للون واحد من التيارين المشتجرين، والبقية كانوا يخلّطون ويمزجون بينهما؛ لأنهم إما غير مؤدلجين أصلا، أو يفصلون بين الأيديولوجيا والعمل النقابى.
واجبنا فى الممارسة اليومية ألا تطغى هوياتنا وتفضيلاتنا على المحتوى ومعالجاته، وهذا أدعى وأولى أن يُعمم فيما بيننا، ويكون قاعدة تحكم البيت وترتب علائق أهله على طاولتهم الجامعة.
النقيب جدير بتلك المهمة، وأهل لها، وزملاؤه جميعا مقدرون وقادرون على تجنيب الخلافات، وتجيير مجموع قواهم الخاصة لصالح المجموع الواسع. المهم ألا نسقط فى فخ المراهقة والمزايدات، وألا نتكاسر على ما يتوجب أن نتلاقى فيه، وأن يعرف الجميع أنه لا يستقيم الظل والعود أعوج، وليس من الحصافة أن تنسحب وتلوم غيرك من المنسحبين، ولا أن تنتقد الإبعاد بالأغلبية وتهدد به، أو تطلب من الدولة الشفافية والمكاشفة والديمقراطية المثالية ولا تطبقها فى نطاقك الضيق. فائدة التجارب أن نستفيد بها فلا نكرر أخطاءها، لا أن نعود على بدء لما كنا نستهجنه عندما تسقط التفاحة فى حجر أحدنا.
النضج رجاءً، كلّ ما أطلبُه من الزملاء جميعًا؛ للعقل والمهنة والصالح المُشتَرَك، وليس لشىءٍ آخر ولا نوايا مُعلَنَة أو مُضمَرة.

Trending Plus