الأحزاب السياسية واللُحمة والوطنية

تتكامل إرادة الدولة مع تطلعات المجتمع في بناء وطن متماسك ومستقر، وتنهض الأحزاب السياسية بدورها الوطني الحقيقي حين تتحرر من المزايدات والشعارات الجوفاء، وتتجاوز الانغلاق الأيديولوجي إلى رحابة العمل الوطني المشترك فالأحزاب بوصفها أحد أعمدة الحياة الديمقراطية، مدعوة لأن تكون رافعة للوعي وجسرًا للتواصل البناء بين المواطن ومؤسسات الدولة ومنبرًا للمشاركة الرشيدة.
وفي ظل التحديات المعقدة التي يواجهها الوطن تبقي الحاجة إلى أحزاب تمتلك رؤى واقعية وبرامج فاعلة وقدرة حقيقية على التعبئة الإيجابية وتوجيه الطاقات الشعبية نحو البناء والتنمية، مع تغليب المصلحة الوطنية على المكاسب الفئوية أو الشخصية، فدور الأحزاب يشمل الإسهام في تشكيل الوعي السياسي، وتأهيل الكوادر الوطنية، والمشاركة في صياغة السياسات العامة، بما يدعم مناعة الدولة ويُكرس ثقافة المشاركة المسؤولة ويُعمق مفهوم المواطنة الفاعلة في إطار من الالتزام الدستوري والرؤية المستقبلية الواعية.
وتُعد اللُحمة الوطنية الإطار القيمي الجامع والمرجعية الأخلاقية التي ينبغي أن تتحرك في ضوئها الحياة الحزبية، بحيث تبقى خلافات الرؤى خلافات برامجية تُثري المجال العام، وتُغني التجربة الديمقراطية، فالتعددية السياسية حين تتأسس على الاحترام المتبادل والإيمان بالمصلحة الوطنية تصبح مصدرًا للإثراء الفكري.
ويغدو الحوار الحزبي أداةً للتكامل والتطوير؛ إذ تُدرك القوى السياسية أن الوحدة الوطنية مسؤولية عملية تبدأ من طريقة إدارتها للخلاف، ومدى قدرتها على إعلاء الشأن العام فوق الحسابات الضيقة، وحين تنطلق الأحزاب من هذا الإطار الوطني الجامع، فإنها تُسهم في ترسيخ ثقافة المشاركة وتقديم الكفاءات وتوسيع قاعدة الوعي والمشاركة الفاعلة في بناء المستقبل، على أسس من الحوار والتنوع والتكامل.
وتقوم اللُحمة الوطنية على الثقة المتبادلة والاحترام للتنوع والإيمان بالمسؤولية المشتركة، فمن واجب الأحزاب أن تؤكد ثقة المواطن في المسار السياسي، وأن تُسهم في رفع منسوب الوعي العام من خلال خطاب واعي مسؤول يواجه الشائعات، ويُدافع عن الدولة في وجه الحملات الممنهجة، ويعمل على بناء وعي جمعي يدرك التحديات ويشارك بفعالية في صياغة المستقبل، فالأحزاب الحقيقية هي التي تتحرك في قلب المشروع الوطني، وتجعل من السياسة أداة للبناء والتنمية.
ونؤكد أنه لا غنى عن نخبة حزبية وطنية تمتلك وعيًا سياسيًا ناضجًا، وإدراكًا عميقًا لطبيعة التحديات والتهديدات التي تواجهها الدولة والمجتمع المصري، وتُجيد تحقيق التوازن بين المعارضة البناءة والولاء للدولة ومؤسساتها، فالمعارضة المسؤولة تمثل ركيزة أساسية في منظومة الرقابة والتقويم والمشاركة البناءة، في إطار يحترم الثوابت الوطنية ويحتكم دومًا إلى المصلحة العليا للوطن.
وتكتسب اللُحمة الوطنية قوتها من التعددية السياسية، متى كانت هذه التعددية واعية بمسؤولياتها، ومؤمنة بأن الاختلاف والتنوع هو أحد مداخل القوة، وإن التماسك الوطني يتطلب أن يكون الخلاف داخل دائرة الوحدة، وأن يوظَّف التنوع في خدمة الاستقرار، وأن يتحول الحوار إلى أداة لتقوية الجبهة الداخلية.
وتُبنى اللُحمة الوطنية بتكامل حقيقي ومستدام بين كل فئات الشعب، أفرادًا ونخبًا ومؤسسات، إدراكًا بأن استقرار الأوطان لا يتحقق إلا حين يُدرك الجميع أن لهم دورًا ومسؤولية في البناء والحماية على السواء، وحين تتحول الحياة السياسية إلى مجال نضج ومسؤولية، تُصبح اللُحمة الوطنية واقعًا مُعاشًا وتنتقل من كونها شعورًا وجدانيًا إلى ممارسة يومية في الفكر والسلوك، تحترم التنوع، وتحتفي بالخلاف البناء، وتُعلي من قيمة الوطن.
وتتعاظم الحاجة إلى أحزاب وطنية رشيدة، ومنظمات مجتمع مدني فعالة، ونخب فكرية وثقافية تُدرك خطورة اللحظة التاريخية، وتتحمل مسؤوليتها في حماية الوعي العام، وتقديم خطاب وطني جامع، يطرح البدائل، فحين تلتقي الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمواطن المسؤول تحت مظلة الوطن الواحد، يصبح التنوع السياسي والثقافي والاجتماعي مصدر ثراء وقوة، ويتحول الاختلاف إلى طاقة إيجابية تُثري القرار، وتُغني التجربة الديمقراطية.
واضحت اليوم الحاجة مُلحة أكثر من أي وقت مضى إلى إعلام وطني مسؤول، يُعلي من القيم الجامعة، وينحاز للحقيقة والمصلحة العليا، إعلام يُدرك أن الكلمة أمانة، وأن الرسالة الإعلامية وعي يُبنى وذاكرة جماعية تُصان وهوية وطنية تتجذر، كما نحتاج إلى نظام تعليمي يُنمي الوعي الوطني ويغرس القيم المشتركة في العقول والوجدان، ويبني أجيالًا ترى في الوطن رسالة ومسؤولية وفضاءً للانتماء والمشاركة والإسهام الحضاري، تعليم ينمي التفكير الناقد والانفتاح المتوازن والولاء الواعي ويُكسب النشء قناعة راسخة بأن الوطن يُبنى بسواعد وعقول وضمائر الجميع.
وتُعد الأحزاب السياسية شريكًا أصيلًا في هذا البناء الوطني، فهي منصات لترسيخ الوعي السياسي والانتماء الوطني، وعندما تتكامل أدوار الإعلام، والتعليم، والأحزاب السياسية، يُصبح بمقدور الدولة أن تُنشئ بيئة حوارية واعية، تُغذي اللُحمة الوطنية بالتنوع المسؤول، وتُحصن الجبهة الداخلية من محاولات التفتيت أو الاستقطاب.
وكلما أدركنا هذا التكامل وتجاوزنا منطق الجزر المنعزلة، زادت قدرتنا على تحصين الجبهة الداخلية من الاختراق، وبناء وطن لا تهزه الرياح ولا تخترقه المؤامرات، ولا تُفت في عضده حملات التشكيك، لأنه محمي بوعي أبنائه وثقافته الجامعة ومزدهر بتعددية سياسية بناءة تُغني المشهد، فالأحزاب الوطنية الواعية، التي تُمارس السياسة بوصفها فنًا لبناء المشترك، تصبح اللُحمة الوطنية لديها ميثاق أخلاقي جمعي، ويُعمق الثقة في الدولة، ويُفسح الطريق نحو مستقبل الجمهورية الجديدة القوية والعادلة والمزدهرة.
Trending Plus