د. حسين عبد البصير يكتب.. رواية "ابن عبد الواحد" تشريح عميق لذاكرة مصر

لا يُمكن المرور على رواية "ابن عبد الواحد" دون أن نتوقف أمامها طويلاً بوصفها عملاً روائيًا فريدًا، استطاع أن يمزج بين الحكاية الشخصية والتاريخ الوطني في آنٍ، دون أن يسقط في فخ الرمز المباشر أو الإسقاط المبتذل، بل نجح الكاتب في رسم لوحة شديدة العمق والتعقيد لبنية المجتمع المصري، من خلال شخصية "صبحي عبد الواحد" التي تشكل جوهر العمل وبؤرته المتوهجة.
ممدوح عبد الستار، في هذا العمل، لا يكتب رواية تاريخية بالمعنى التقليدي، ولا يكتب رواية رمزية تنضح بالرسائل المبطنة، بل ينخرط في كتابة "رواية اجتماعية - تحليلية" تتوسل الحفر في أعماق الشخصية المصرية، وهي تخوض صراعها الوجودي والاجتماعي والروحي في خضم تحولات جذرية عرفها المجتمع المصري في النصف الثاني من القرن العشرين، من لحظة ما قبل ثورة يوليو 1952 إلى نهاية عهد عبد الناصر، بكل ما حملته تلك الفترة من طموحات كبرى وانكسارات موجعة.
البنية الروائية والاختيار السردي الذكي
اختار عبد الستار أن يجعل من صبحي، صديق الراوي، محور الرواية، على أن يكون الراوي مجرد حامل لخطاب هذا البطل الذي سلّمه أوراقه قبيل موته، موصيًا إياه بأن يكون شاهدًا على سيرته. وهنا يختار الكاتب بذكاء أن يخفف من حضور الراوي لصالح السارد/البطل، في إشارة واعية إلى سؤال "من يكتب التاريخ؟"، ومن يمتلك حق الكلام؟ فصبحي هو ابن الشعب، المتشظي بين الخرافة والحلم، بين الموروث والواقع، وبين الحلم بالكرامة والوقوع في مستنقع البؤس اليومي.
هذه العلاقة السردية الدقيقة بين الراوي وصبحي تمنح الرواية نوعًا من الموضوعية والحميمية في آنٍ، وتسمح باندماج القارئ داخل السرد دون أن يشعر أنه يُقاد توجيهًا أو يلقى عليه خطابًا مباشرًا. فنحن أمام "سيرة بطل" تتكثف عبرها أسئلة المجتمع المصري الأعمق: من نحن؟ ماذا حدث لنا؟ وإلى أين نمضي؟
الاشتباك العميق مع الزمن والتحولات
من قرية "الدلجمون" في محافظة الغربية، تنطلق الرواية لتؤرخ لفترة تبدو محلية في ظاهرها، لكنها في حقيقتها تمثل الوطن كله، فهي تقدم وصفًا دقيقًا لمجتمع القرية المصرية الذي يشبه – بطبقاته، وعلاقاته، ومعتقداته – جسد مصر كلها، وهنا تتجلى براعة عبد الستار في اختياره للمكان الصغير ليكون تمثيلًا كليًا لكيان ضخم بحجم الوطن.
الرواية لا تغرق في تأريخ الحدث السياسي الكبير بقدر ما ترصد أثره على "الإنسان العادي"، الإنسان الذي لا يملك رفاهية الفهم الكامل لما يحدث، لكنه يتأثر به، يُقذف في معمعانه، ويحاول – على طريقته – أن يصوغ له معنى ما. شخصية صبحي هنا تتجلى كبطل وجودي، يسعى نحو الحرية والكرامة، لكنه يُحاصر بحبال الواقع، وبسلطة الأب، وبثقل الموروث الديني والخرافي، فيبدو وكأنه في حرب لا تنتهي مع القوى المتضادة داخله وخارجه.
العلاقة بين الأب والابن.. ثنائية الجذر والفرع
العلاقة المعقدة بين صبحي ووالده عبد الواحد هي من أعظم ما كُتب في الرواية العربية الحديثة عن جدلية الأبوة والبنوة. فليست هذه علاقة صدامية تقليدية بين جيلين، بل علاقة مشبعة بالرمز والإرث والقلق الوجودي. فالأب، المتشبث بالحياة بعد أن فقد أبناءه، لا يرى في صبحي مجرد ابن، بل خلاصًا واستمرارًا وتحديًا للموت. بينما الابن، المشدود إلى الحياة والحرية، لا يملك إلا أن يكون امتدادًا لهذا الأب – رغم التمرد، رغم الرغبة في الانعتاق.
هنا نرى كيف تصوغ الرواية صورة مصر الجديدة من رحم هذا الصراع الأبوي، وكأنها تقول إن ثورة يوليو نفسها ما هي إلا نتيجة لعلاقة مشحونة بين الجذر والفرع، بين الحاجة إلى التغيير والتشبث بالقديم. فعبد الناصر، كرمز، خرج من هذه العلاقة، لا كحلم مطلق، بل كنتيجة لصراع طويل ومعقد لم يُحسم بعد.
الرؤية الواقعية والتأويل المفتوح
الرواية ترفض الانغلاق على تفسير واحد، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام القارئ للبحث في المعاني المتعددة. لا تخبرك الرواية من هو العدو، ولا لماذا ذهب صبحي إلى اليمن، لكنها تضعك في قلب الحيرة التي عاشها ذلك الجيل. الجندية كانت شرفًا، وكانت أيضًا مصدر دخل، وكانت طريقًا نحو حلم الوطن. وكل هذه الدوافع تتداخل وتتراكب لتنتج "حالة مصرية" يصعب تلخيصها في خطاب أيديولوجي أو سياسي.
رواية ضد النسيان
"ابن عبد الواحد" ليست فقط سيرة رجل، بل هي سيرة وطن. هي رواية ضد النسيان، ضد التبسيط، ضد تصنيف البشر إلى أبيض وأسود، ضد قراءة التاريخ من زاوية واحدة. هي عمل فني وإنساني عميق، يحفر في الطبقات السفلية من الروح المصرية، ويعيد الاعتبار للمهمشين والمنسيين، ولأولئك الذين لا يجدون صوتًا يُعبّر عنهم.
ممدوح عبد الستار في هذه الرواية يعلن نفسه واحدًا من الكبار، من أولئك القادرين على منح الحكاية المحلية أبعادًا كونية، وجعل التفاصيل الصغيرة مرآة للأسئلة الكبرى. وإذا كانت الرواية، كما قال ماركيز، محاولة دائمة لفهم الحياة، فإن "ابن عبد الواحد" هي من تلك الروايات التي تجعلنا نفهم الحياة المصرية، بتناقضاتها، وأحلامها، وجرحها الذي لا يندمل.
Trending Plus