من أعماق اليأس إلى نور الحياة.. قصة الإعلامى إبراهيم الكردانى بين الوحدة وصراع الشغف

بين الميكروفون والمعطف الأبيض.. حكاية رجل اختار أن يعيش بطريقته في أجواء دافئة تليق برجل جمع بين الحرفية والإنسانية، استقبلنا الإعلامي والطبيب إبراهيم الكرداني في منزله بحي الزمالك ولقاء امتزج فيه عبق التجربة وصدق المشاعر.
حوار خرج من عباءة المهنة إلى رحاب الحياة، من الميكروفون إلى لحظات الصمت ومن الشهرة إلى الوحدة.
**وبدأنا بسؤاله..من أنت بدون ألقاب؟
كان رده بابتسامة هادئة: إنسان… فقط إنسان، شخص يحاول أن يكون قريبًا من الله، يتحدث إليه في كل وقت، يعترف بخطئه ويطلب الصفح. أؤمن بأن محاولتي لأن أكون طيبًا مع الناس ليست سهلة… لكنها تستحق السعي.
**طبيب أم إعلامي.. ومن أين بدأ الصراع؟
الصراع كان حقيقيًا، ومبكرًا جدًا في داخلي طفل يعشق الفن، المسرح، التمثيل، حتى إنني أسست فرقة مسرحية في المدرسة الثانوية بالإسكندرية تحت اسم "كُرْبَع" (كرداني وبلبع)، وقدمنا مسرحيات لشكسبير، ولكن والدي – الطبيب – كان يحلم بأن أواصل مسيرته، وكان ذلك وعدي له. سافرت إلى الولايات المتحدة بمنحة بعد الثانوية، وعند عودتي، وجدت والدي قد قدّم لي بالفعل في كلية الطب والتحقت بها، فقط لأحقق حلمه.
**وهل أحببت الطب بعد ذلك؟
في البداية، لم يكن حبًا كان وفاءً، لكن شيئًا فشيئًا، أدركت أن هذه المهنة راقية، نبيلة، فيها خدمة للناس، فيها شرف فأحببتها.
**شعورك عندما وقفت أمام الميكروفون لأول مرة؟
كانت لحظة صعبة ومؤثرة، فبعد عام من التدريب في الإذاعة مع الأستاذة هالة حشيش، جاء وقت الفرصة عندما قرر مذيع كبير ان سافر، وكان لا بد من بديل له فتقدّمت وتم قبولى. وبالرغم أنني كنت أحمل ماجستير ودكتوراه، كنت أقوم بكل شيء: الإعداد، المونتاج، التقديم كل ذلك بعد دوامي في اليونيسف صباحًا.
والإذاعة كانت مدرستي الأولى، والنشرة الإخبارية كانت اختبار الضغط الحقيقي الذى تعلمت فيها كل شيء.
**هل كانت أمنيتك هى العمل كمذيع باللغة الإنجليزية أم كانت صدفة؟
لم يكن الأمر مدروسًا بالكامل، لكن اللغة كانت بوابتي وكنت محظوظا لذلك لاننى لو كنت تقدّمت كمذيع عادي، ربما لم أُقبل، لكن إجادتي للإنجليزية فتحت لي أبوابًا.
**ما هي النقطة الفارقة التي غيرت مجرى حياتك؟
أشياء كثيرة ربما كان ابرزها الفقد، فعندما فقدت والدي ثم والدتي التي أُصيبت بجلطة بعد رحيله وماتت وأنا بالخارج، ثم انفصلت عن زوجتي بعد صراع عاطفي.
عدت محطمًا، وحيدًا، حتى جاءت ليلة مرضت فيها بشدة وانقطعت الكهرباء.. كنت وحدي على وشك الموت وكنت راضيا بفكرة الرحيل، وقلت لنفسي: "الإنسان يولد وحيدًا ويموت وحيدًا".
كانت تلك نقطة التحول استسلمت، ثم نهضت وبعد أيام، جاءني قبول للعمل مع اليونيسف بالقاهرة. تركت الإسكندرية، وبدأت من جديد وأنا في السابعة والثلاثين من عمري.
**وهل كانت تجربة الانفصال هي الدافع للنجاح؟
أجل بعد الانفصال كنت أريد إثبات نفسي، زوجتي السابقة أرادت الإنجاب، وأنا رفضت الفكرة، لم أشعر أنني أريد أن أكون أبًا في هذه الظروف، في بلد مزدحم، حياة ضاغطة، ولم أؤمن بمقولة "الطفل يأتي برزقه".
واليوم لا أندم. الله عوضني بناس أحبوني، كنت أختارهم ويختاروني.
**هل عوضتك الشهرة عن الفقد؟
في بداياتي، لم أكن أشعر بها. كنت أعمل فقط لكن السوشيال ميديا غيّرت ذلك تعليقات الناس، رسائلهم لى اشعرتنى اننى مازلت معروفا وفي ذاكرة الناس الي الان، وكانت أيضا طوق النجاة الذى أنقذني من العزلة، ومن الفراغ.
**هل ترى نفسك رجلًا ناجحًا؟
أنا كثيرًا ما أشك في ذلك. أخاف الفشل، وأندهش من مديح الناس، لكنني أحاول، دائمًا أحاول أن أقدم ما يستحق التقدير كى اتجنب هذا الشعور.
** ماهى اللحظات التي ندمت عليها؟
هناك لحظات شعرت فيها بالندم وابرزها حين منحت مشاعري لأشخاص لم يستحقوها، لان الألم الحقيقي أن يُؤخذ حبك كأمر مُسلَّم به وان يعتاد من امامك انك تعطى دائما ويصبح الامر هذا شيء عادى، دون حتى رد ذلك ابتسامة.
**لقد عملت في منظمات تهتم بالصحة والتغذية مثل منظمة الصحة العالمية، ما هو شعورك عندما ترى أطفالاً يعانون من الجوع حتى الآن؟
مشاهدة أطفال يعانون من الجوع في عصرنا هذا تُشعرني بألم عميق وحزن لا يوصف، فكيف لبراءة الطفولة أن تنمو في ظل نقص الغذاء والحاجات الأساسية؟
لكن في الوقت ذاته، هناك شعور جميل ينبع من كوني جزءًا من جهد إنساني يُسعى من خلاله إلى إيصال الغذاء والأدوية إلى مناطق شتى، كدارفور في السودان، وباكستان، وغزة. هذه الجهود تذكّرني بقيمة العمل الإنساني وأهميته في تخفيف المعاناة.
وفي مصر، الحاجة ما زالت كبيرة، خاصة في أوقات الخير كرمضان، حيث تنشط الجولات الخيرية وتتجلى الأعمال الخيرة في صرح عظيم مثل 57375، الذي لا يقتصر دوره على مجرد كلام أو إعلانات، بل تجد فيه أشخاصًا يعطون بصدق، بلا مقابل، ويجرون عمليات كثيرة بوجه الله، مثال حي على روح العطاء والتضامن.
هذه النماذج الإنسانية تمنحني أملًا بأنّ العطاء لا ينتهي، وأنّ الرحمة الإنسانية لا تزال حية في قلوب الناس.
**هل أُخذت منك فرصتك يومًا ما؟
تعرّضت للظلم، للنقد القاسي لكنني دائمًا أصغي، الناس هم مرآتي، أحكامهم تهمني، حتى وإن كانت قاسية.
**كيف دخلت عالم السوشيال ميديا؟
بمحض الصدفة، بعد عامين من الحزن، فقدت خلالهما سبعة من أفراد عائلتي.
كنت محطمًا، حتى اقترحت إحداهن أن أنشئ صفحة. ترددت في البداية لكن بدأت، ووجدت دعمًا واهتمامًا، لم أكن أتوقعه.
**من تُقدّر من الإعلاميين الذين يعتلون الساحة الان؟
أحترم لميس الحديدي كثيرًا لانها رزينة، متّزنة.
منى الشاذلي محترفة، لكن أحيانًا تحتاج أن تترك مساحتها الإنسانية تظهر.
أما عمرو أديب، فهو ظاهرة مثل عمرو دياب في الغناء استمرارية، ونجاح لا يتوقف.
**ما هو الفقد بالنسبة لك؟ ولمن تشعر بالحنين؟
الفقد هو من أصعب ما يمرّ به الإنسان في هذه الحياة، وهو يتخذ صورًا متعددة، أشدّها الفقد بالموت، تلك السنّة الإلهية التي لا مهرب منها. ورغم قساوته وألمه، إلا أنّه الحقيقة التي لا بدّ من مواجهتها، ويعيننا الله عليه بالصبر والسكينة بعد رحيل أحبّتنا.
وغالبًا ما أجد نفسي أراهم في خلوتي، أستشعر وجودهم، وكأن أرواحهم تهمس لي بطمأنينة، فأحنّ إليهم بصدق لا يوصف.
وهناك أيضًا نوع آخر من الفقد، هو فراق الأحبة بسبب السفر أو الانتقال من مكان إلى آخر، وهو ما يخلّف في القلب شوقًا وحنينًا لا يهدأ.
أما الفقد الأصعب أحيانًا، فهو حين يكون من نحبّه أمام أعيننا، لكن الظروف تفرض علينا الابتعاد عنه، فنفترق رغم الحب، وتبقى الوحدة تلوّح في الأفق كظلّ لا يفارقنا.
**ما هو مفهومك عن الحب؟ وهل شعرت يومًا بأنك محظوظ فيه؟
الحب، في نظري، ليس مجرد علاقة بين شخصين، بل هو معنى واسع يشمل مشاعر إنسانية راقية تتجلى في المودة، والرحمة، والاهتمام، والتضحية. ورغم أن الحب بين شخصين يُعدّ من أسمى وأجمل معاني الحب، إلا أن استمراره لا يكون إلا ببذل جهد عظيم، وتحمل الصعاب، ومواجهة الكبوات التي لا بد أن تمر بها أي علاقة.
أما عن الحظ في الحب، فلا أظن أنني كنت محظوظًا فيه، رغم أن الله قد منحني الكثير، وخصوصًا في زواجي الثاني، حيث كانت زوجتي إنسانة طيبة وجميلة الروح، لكن رغم ما كان من مشاعر جميلة، لم يُكتب لهذه العلاقة أن تكتمل.
**وماذا عن الوحدة؟ كيف تراها وتشعر بها؟
الوحدة من أصعب ما يمرّ به الإنسان، فهي ليست مجرد غياب للناس من حولك، بل شعور داخلي عميق يشبه الموت قبل الموت. أحيانًا تشعر وكأنك تعيش داخل مقبرة جميلة، كل شيء حولك هادئ، لكنه خالٍ من الحياة الحقيقية.
ورغم هذا الثقل الذي تحمله الوحدة، فإن الله برحمته يُلهمنا بما يشغل قلوبنا وأوقاتنا من أعمال وأهداف، فنتشبث بها لنعيش، ونستمر، ونبقى واقفين رغم كل ما نشعر به من فراغ داخلي.
**ولو تركت لنا جملة واحدة، ماذا تكون؟
"أحبوا… وعيشوا بالحب. اجعلوا العطاء سلوكًا، وابتسامتكم طاقة نور في وجه كل إنسان."
كان هذا لقاءً ليس عن مذيع، ولا عن طبيب، بل عن إنسان اختار أن يبدأ من جديد، حين ظن الجميع أن الوقت قد فات.
عن رجل واجه الفقد والوحدة والتحولات الكبرى، بابتسامة هادئة، ورسالة مستمرة أن الحياة تبدأ عندما نقرر نحن أن نبدأ.
Trending Plus